
09-08-2025, 11:19 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,523
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يوسف
المجلد العاشر
الحلقة( 380)
من صــ 391 الى صـ 405
فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة ويريد الحياة الدنيا ويريد حرث الدنيا وقال في آية هود: {نوف إليهم أعمالهم فيها} - إلى أن قال - {وباطل ما كانوا يعملون} فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها وأن الإرادة هنا مستلزمة للعمل ولما ذكر إرادة الآخرة قال: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن}. وذلك لأن إرادة الآخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو على العمل المأمور به لا كل سعي ولا بد مع ذلك من الإيمان. ومنه قوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} الآية {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} فهذا نظير تلك الآية التي في سورة هود وهذا يطابق قوله: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما} إلا أنه قال: {فإنه أراد قتل صاحبه} أو أنه {كان حريصا على قتل صاحبه} فذكر الحرص والإرادة على القتل وهذا لا بد أن يقترن به فعل وليس هذا مما دخل في حديث العفو: {إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها}.
(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33)
فصل:
وفي قول يوسف: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} عبرتان: " إحداهما " اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصي. و " الثانية " طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه ويصرفه إلى طاعته وإلا فإذا لم يثبت القلب صبا إلى الآمرين بالذنوب وصار من الجاهلين. ففي هذا توكل على الله واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة وفيه صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة.
وهذا كقول موسى عليه السلام لقومه: {استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} لما قال فرعون: {سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}. وكذلك قوله: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}. ومنه قول يوسف عليه السلام {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وهو نظير قوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقوله: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}. فلا بد من التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور كما فعل يوسف عليه السلام اتقى الله بالعفة عن الفاحشة وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس واستعان الله ودعاه حتى يثبته على العفة فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن وصبر على الحبس.
وهذا كما قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} وكما قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد} {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} فإنه لا بد من أذى لكل من كان في الدنيا فإن لم يصبر على الأذى في طاعة الله بل اختار المعصية كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير. {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا}. ومن احتمل الهوان والأذى في طاعة الله على الكرامة والعز في معصية الله كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين كانت العاقبة له في الدنيا والآخرة وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيما وسرورا كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنا وثبورا. فيوسف صلى الله عليه وسلم خاف الله من الذنوب ولم يخف من أذى الخلق وحبسهم إذ أطاع الله بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات ونيل الرياسة والمال مع المعصية فإنه لو وافق امرأة العزيز نال الشهوة وأكرمته المرأة بالمال والرياسة وزوجها في طاعتها فاختار يوسف الذل والحبس وترك الشهوة والخروج عن المال والرياسة مع الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية. بل قدم الخوف من الخالق على الخوف من المخلوق وإن آذاه بالحبس والكذب فإنها كذبت عليه؛ فزعمت أنه راودها ثم حبسته بعد ذلك.
وقد قيل: إنها قالت لزوجها إنه هتك عرضي لم يمكنها أن تقول له راودني فإن زوجها قد عرف القصة؛ بل كذبت عليه كذبة تروج على زوجها. وهو أنه قد هتك عرضها بإشاعة فعلها وكانت كاذبة على يوسف لم يذكر عنها شيئا؛ بل كذبت أولا وآخرا؛ كذبت عليه بأنه طلب الفاحشة وكذبت عليه بأنه أشاعها وهي التي طالبت وأشاعت فإنها قالت للنسوة: فذلكن الذي لمتنني فيه.
ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. فهذا غاية الإشاعة لفاحشتها لم تستر نفسها. والنساء أعظم الناس إخبارا بمثل ذلك وهن قبل أن يسمعن قولها قد قلن في المدينة: {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} فكيف إذا اعترفت بذلك وطلبت رفع الملام عنها؟ .
وقد قيل: إنهن أعنها في المراودة وعذلنها على الامتناع. ويدل على ذلك قوله: {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن} وقوله: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} فدل على أن هناك كيدا منهن وقد قال لهن الملك: {ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} فهن لم يراودنه لأنفسهن؛ إذ كان ذلك غير ممكن وهو عند المرأة في بيتها وتحت حجرها؛ لكن قد يكن أعن المرأة على مطلوبها.
وإذا كان هذا في فعل الفاحشة فغيرها من الذنوب أعظم مثل الظلم العظيم للخلق كقتل النفس المعصومة ومثل الإشراك بالله ومثل القول على الله بلا علم. قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} فهذه أجناس المحرمات التي لا تباح بحال ولا في شريعة وما سواها - وإن حرم في حال - فقد يباح في حال.
فصل:
واختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ولأهله الاحتباس في شعب بني هاشم بضع سنين لا يبايعون ولا يشارون؛ وصبيانهم يتضاغون من الجوع قد هجرهم وقلاهم قومهم وغير قومهم. هذا أكمل من حال يوسف عليه السلام. فإن هؤلاء كانوا يدعون الرسول إلى الشرك وأن يقول على الله غير الحق. يقول: ما أرسلني ولا نهى عن الشرك.
وقد قال تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا}. وكان كذب هؤلاء على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف؛ فإنهم قالوا: إنه ساحر وإنه كاهن وإنه مجنون وإنه مفتر. وكل واحدة من هؤلاء أعظم من الزنا والقذف؛ لا سيما الزنا المستور الذي لا يدري به أحد. فإن يوسف كذب عليه في أنه زنى وأنه قذفها وأشاع عنها الفاحشة؛ فكان الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف.
وكذلك الكذب على أولي العزم مثل نوح وموسى حيث يقال عن الواحد منهم: إنه مجنون وإنه كذاب يكذب على الله وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أذى المشركين أعظم من مجرد الحبس فإن يوسف حبس وسكت عنه والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يؤذون بالأقوال والأفعال مع منعهم من تصرفاتهم المعتادة.
وهذا معنى الحبس فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن بل المراد منعه من التصرف المعتاد. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له حبس ولا لأبي بكر؛ بل أول من اتخذ السجن عمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم {يسلم الغريم إلى غريمه ويقول: ما فعل أسيرك}
فيجعله أسيرا معه حتى يقضيه حقه وهذا هو المطلوب من الحبس. والصحابة - رضي الله عنهم - منعوهم من التصرف بمكة أذى لهم حتى خرج كثير منهم إلى أرض الحبشة فاختاروا السكنى بين أولئك النصارى عند ملك عادل على السكنى بين قومهم والباقون أخرجوا من ديارهم وأموالهم أيضا مع ما آذوهم به حتى قتلوا بعضهم وكانوا يضربون بعضهم ويمنعون بعضهم ما يحتاج إليه ويضعون الصخرة على بطن أحدهم في رمضاء مكة إلى غير ذلك من أنواع الأذى. وكذلك المؤمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يختار الأذى في طاعة الله على الإكرام مع معصيته كأحمد بن حنبل اختار القيد والحبس والضرب على موافقة السلطان وجنده على أن يقول على الله غير الحق في كلامه وعلى أن يقول ما لا يعلم أيضا فإنهم كانوا يأتون بكلام يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة فهو باطل وبكلام مجمل يحتاج إلى تفسير؛ فيقول لهم الإمام أحمد: ما أدري ما هذا؟ فلم يوافقهم على أن يقول على الله غير الحق. ولا على أن يقول على الله ما لا يعلم.
(وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53)
وقوله: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى: {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه؛ ولكن لما ظهرت براءته في غيبته - كما قالت امرأة العزيز: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته - فحينئذ: {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه؛ بل الأدلة تدل على نقيضه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد كلام: (1)
[يهم أحدهم] (2) بالذنب فيذكر مقامه بين يدي الله فيدعه فكان يوسف ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. ثم إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان شابا عزبا أسيرا في بلاد العدو حيث لم يكن هناك أقارب أو أصدقاء فيستحي منهم إذا فعل فاحشة فإن كثيرا من الناس يمنعه من مواقعة القبائح حياؤه ممن يعرفه فإذا تغرب فعل ما يشتهيه. وكان أيضا خاليا لا يخاف مخلوقا فحكم النفس الأمارة - لو كانت نفسه كذلك - أن يكون هو المعترض لها؛ بل يكون هو المتحيل عليها كما جرت به عادة كثير ممن له غرض في نساء الأكابر إن لم يتمكن من الدعوة ابتداء. فأما إذا دعي ولو كانت الداعية خدامة لكان أسرع مجيب فكيف إذا كانت الداعية سيدته الحاكمة عليه التي يخاف الضرر بمخالفتها. ثم إن زوجها الذي عادته أن يزجر المرأة لم يعاقبها؛ بل أمر يوسف بالإعراض كما ينعر الديوث ثم إنها استعانت بالنساء وحبسته وهو يقول: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}.
فليتدبر اللبيب هذه الدواعي التي دعت يوسف إلى ما دعته وأنه مع توفرها وقوتها ليس له عن ذلك صارف إذا فعل ذلك ولا من ينجيه من المخلوقين؛ ليتبين له أن الذي ابتلي به يوسف كان من أعظم الأمور وأن تقواه وصبره عن المعصية - حتى لا يفعلها مع ظلم الظالمين له حتى لا يجيبهم - كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات وأن نفس يوسف عليه الصلاة والسلام كانت من أزكى الأنفس فكيف أن يقول: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} والله يعلم أن نفسه بريئة ليست أمارة بالسوء؛ بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء والهم الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها وبحصوله مع تركه لله لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التي تزكي نفسه.
" الوجه السادس " أن قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} إذا كان معناه على ما زعموه أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم؛ أو ليعلم الملك أو ليعلم الله لم يكن هنا ما يشار إليه فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه ولا تقدم أيضا ذكر عفافه واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن: {ما علمنا عليه من سوء} وقول امرأة العزيز: {أنا راودته عن نفسه} وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو. فقول القائل: إن قوله (ذلك من قول يوسف مع أنه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل لا يصح بحال. " الوجه السابع " أن المعنى على هذا التقدير - لو كان هنا ما يشار إليه من قول يوسف أو عمله - إن عفتي عن الفاحشة كان ليعلم العزيز أني لم أخنه ويوسف عليه الصلاة والسلام إنما تركها خوفا من الله ورجاء لثوابه؛ ولعلمه بأن الله يراه؛ لا لأجل مجرد علم مخلوق.
قال الله تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فأخبر أنه رأى برهان ربه وأنه من عباده المخلصين. ومن ترك المحرمات ليعلم المخلوق بذلك لم يكن هذا لأجل برهان من ربه ولم يكن بذلك مخلصا فهذا الذي أضافوه إلى يوسف إذا فعله آحاد الناس لم يكن له ثواب من الله؛ بل يكون ثوابه على من عمل لأجله.
فإن قيل: فقد قال يوسف أولا: {إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}. قيل: إن كان مراده بذلك سيده: فالمعنى أنه أحسن إلي؛ وأكرمني فلا يحل لي أن أخونه في أهله فإني أكون ظالما ولا يفلح الظالم؛ فترك خيانته في أهله خوفا من الله لا ليعلم هو بذلك. فإن قيل: مراده تأتي إظهار براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب فالمعلل إظهار براءته لا نفس عفافه. قيل: لم يكن مراده بإظهار براءته مجرد علم واحد؛ بل مراده علم الملك وغيره.
ولهذا قال للرسول: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} ولو كان هذا من قول يوسف لقال: ذلك ليعلموا أني بريء وأني مظلوم. ثم هذا لا يليق أن يذكر عن يوسف؛ لأنه قد ظهرت براءته وحصل مطلوبه فلا يحتاج أن يقول ذلك لتحصيل ذلك. وهم قد علموا أنه إنما تأخر لتظهر براءته فلا يحتاج مثل هذا أن ينطق به.
" الوجه الثامن " أن الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه من لذلك عنده قدر وهذا يناسب لو كان العزيز غيورا وللعفة عنده جزاء كثير والعزيز قد ظهرت عنه من قلة الغيرة وتمكين امرأته من جنسه مع الظالمين مع ظهور براءته ما يقتضي أن مثل هذا ينبغي في عادة الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله. فإن النفس الأمارة تقول في مثل هذا: هذا لم يعرف قدر إحساني إليه وصوني لأهله وكف نفسي عن ذلك؛ بل سلطها ومكنها. فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت من حاله هذا تفعل الفاحشة إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه وإما إهمالا له لعدم غيرته وظهور دياثته ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل لله خائفا منه وراجيا لثوابه لا من يريد تعريف الخلق بعمله.
" الوجه التاسع " أن الخيانة ضد الأمانة وهما من جنس الصدق والكذب. ولهذا يقال: الصادق الأمين ويقال الكاذب الخائن. وهذا حال امرأة العزيز؛ فإنها لو كذبت على يوسف في مغيبه وقالت راودني لكانت كاذبة وخائنة فلما اعترفت بأنها هي المراودة كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه؛ ولهذا قالت: {وإنه لمن الصادقين} فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها.
فأما فعل الفاحشة فليس من باب الخيانة والأمانة؛ ولكن هو باب الظلم والسوء والفحشاء كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى عن يوسف: {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} ولم يقل هنا الخائنين. ثم قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} ولم يقل لنصرف عنه الخيانة؛ فليتدبر اللبيب هذه الدقائق في كتاب الله تعالى.
" الوجه العاشر " أن في الكلام المحكي الذي أقره الله تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} وهذا يدل على أنه ليس كل نفس أمارة بالسوء؛ بل ما رحم ربي ليس فيه النفس الأمارة بالسوء. وقد ذكر طائفة من الناس أن النفس لها ثلاثة أحوال: تكون أمارة بالسوء ثم تكون لوامة أي تفعل الذنب ثم تلوم عليه أو تتلوم فتتردد بين الذنب والتوبة. ثم تصير مطمئنة.
و " المقصود هنا " أن ما رحم ربي من النفوس ليست بأمارة وإذا كانت النفوس منقسمة إلى مرحومة وأمارة فقد علمنا قطعا أن نفس امرأة العزيز من النفوس الأمارة بالسوء؛ لأنها أمرت بذلك مرة بعد مرة وراودت وافترت واستعانت بالنسوة وسجنت وهذا من أعظم ما يكون من الأمر بالسوء. وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فإن لم يكن نفسه من النفوس المرحومة عن أن تكون أمارة فما في الأنفس مرحوم؛ فإن من تدبر قصة يوسف علم أن الذي رحم به وصرف عنه من السوء والفحشاء من أعظم ما يكون؛ ولولا ذلك لما ذكره الله في القرآن وجعله عبرة وما من أحد من الصالحين الكبار والصغار إلا ونفسه إذا ابتليت بمثل هذه الدواعي أبعد عن أن تكون مرحومة من نفس يوسف. وعلى هذا التقدير: فإن لم تكن نفس يوسف مرحومة: فما في النفوس مرحومة فإذا كل النفوس أمارة بالسوء وهو خلاف ما في القرآن. ولا يلتفت إلى الحكاية المذكورة عن مسلم بن يسار؛ أن أعرابية دعته إلى نفسها وهما في البادية؛ فامتنع وبكى وجاء أخوه وهو يبكي فبكى وبكت المرأة وذهبت فنام فرأى يوسف في منامه وقال: أنا يوسف الذي هممت وأنت مسلم الذي لم تهم فقد يظن من يسمع هذه الحكاية أن حال مسلم كان أكمل. وهذا جهل لوجهين: " أحدهما " أن مسلما لم يكن تحت حكم المرأة المراودة ولا لها عليه حكم ولا لها عليه قدرة أن تكذب عليه وتستعين بالنسوة وتحبسه، وزوجها لا يعينه ولا أحد غير زوجها يعينه على العصمة؛ بل مسلم لما بكى ذهبت تلك المرأة ولو استعصمت لكان صراخه منها أو خوفها من الناس يصرفها عنه. وأين هذا مما ابتلي به يوسف عليه الصلاة والسلام.
__________
[تعليق معد الكتاب للشاملة]
(1) هكذا بالأصل
(2) ما بين المعقوفتين مستفاد من محقق التفسير الكبير لابن تيمية؛ الدكتور عبد الرحمن عميرة، وفي النسخة التي حققها الدكتور محمد الجلنيد جاء النص هكذا: " قال شيخ الإسلام رحمه الله: ثم إن يوسف. . . " أنظر 3/ 274
وقول ابن تيمية بعد ذلك بقليل: " الوجه السادس " ينبئ بوجود سقط من الأصل.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|