
09-08-2025, 10:42 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,504
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 377)
من صــ 346 الى صـ 360
فقال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله يا معشر العرب أيكم وليه فقال: أبو طالب أنا فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وزوده الراهب من الكعك والزيت.
قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث العباس بن محمد عن قراد بن نوح وقال: العباس لم يحدث به يعني بهذا الإسناد غير قراد وسمعه يحيى وأحمد من قراد.
قال البيهقي أراد أنه لم يحدث بهذا الإسناد سوى هؤلاء فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة.
وقال ابن سعد في الطبقات: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثني عشرة سنة خرج به أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة فنزلوا بالراهب بحيرى فقال: بحيرى لأبي طالب في النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال، وأمره أن يحتفظ به فرده أبو طالب معه إلى مكة وشب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها لما يريده به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا وأبعدهم من الفحش والأذى فما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى سماه قومه الأمين لما جمع فيه من الأمور الصالحة.
وقال: ابن الجوزي خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام فنزل الركب ببصرى وبها راهب - يقال له بحيرى - في صومعة له وكان ذا علم بالنصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهب تنتهي إليه علم النصرانية صاغرا عن كابر وفيها كتب يدرسونها وكان كثيرا ما يمر الركب فلا يكلمهم حتى إذا كان في ذلك العام نزلوا منزلا قريبا من الصومعة فصنع لهم الراهب طعاما ودعاهم وإنما حمله على ذلك لشيء رآه فلما رأى بحيرى ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فحضر وأرسل إلى القوم فقال: يا معشر قريش أحب أن تحضروا طعامي ولا يتخلف منكم أحد فقال: وهذا شيء تكرموني فلما حضروا عنده جعل يلاحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لحظا شديدا وينظر إلى جسده وجعل أبو طالب يخاف عليه من الراهب ثم قال الراهب لأبي طالب ارجع بابن أخيك، فإنه كائن له شأن عظيم، فإنا نجد صفته في كتبنا ويروونه عن آبائنا فلما فرغوا من التجارة رجع أبو طالب سريعا إلى مكة فما خرج بعدها به أبو طالب خوفا عليه.
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوه مثل دعواهم أن المسيح - عليه السلام - صلب وقول بعضهم: أنه إله وقول بعضهم: أنه ساحر. وطعنهم على سليمان - عليه السلام - وقولهم أنه كان ساحرا. وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم.
وفي القرآن من قصص الأنبياء - عليهم السلام - ما لا يوجد في التوراة والإنجيل مثل قصة هود وصالح وشعيب وغير ذلك.
وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله وصفة الجنة والنار والنعيم والعذاب ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل بل التوراة ليس فيها تصريح بذكر المعاد وعامة ما فيها من الوعد والوعيد فهو في الدنيا كالوعد بالرزق والنصر والعاقبة والوعيد بالقحط والأمراض والأعداء. وإن كان ذكر المعاد موجودا في غير التوراة من النبوات ولهذا كان أهل الكتاب يقرون بالمعاد وقيام القيامة الكبرى وقد قيل إن ذلك مذكور في التوراة أيضا لكن لم يبسط كما بسط في غير التوراة.
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)
وقوله تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص} [سورة يوسف: 3]، سواء كان القصص مصدر قص يقص قصصا، أو كان مفعولا: أي أحسن المقصوص، فذاك لا يختص بقصة يوسف، بل قصة موسى أعظم منها قدرا وأحسن، ولهذا [كرر] ذكرها في القرآن وبسطها، قال تعالى: {فلما جاءه وقص عليه القصص} [سورة القصص: 25] ولهذا قال: {بما أوحينا إليك هذا القرآن} [سورة يوسف: 3] وقد قرئ: {أحسن القصص} بالكسر، ولا تختص بقصة يوسف، بل كل ما قصه الله فهو أحسن القصص، فهو أحسن مقصوص، وقد قصه الله أحسن قصص.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " «إن الله جميل يحب الجمال» " قاله جوابا للسائل في بيان ما يحبه الله من الأفعال وما يكرهه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان» ". ومعلوم أن هذا الكبر من كسب العبد الداخل تحت قدرته ومشيئته، وهو منهي عنه ومأمور بضده، فخاف السائل أن يكون ما يتجمل به الإنسان، فيكون أجمل به ممن لم يعمل مثله من الكبر المذموم، فقال: إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا، أفمن الكبر ذاك؟
وحسن ثوبه ونعله هو مما حصل بفعله وقصده، ليس هو شيئا مخلوقا فيه بغير كسبه كصورته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إن الله جميل يحب الجمال» " ففرق بين الكبر الذي يمقته الله، وبين الجمال الذي يحبه الله.
ومعلوم أن الله إذا خلق شخصا أعظم من شخص، وأكبر منه في بعض الصفات: إما في جسمه، وإما في قوته، وإما في عقله، وذكائه ونحو ذلك، لم يكن هذا مبغضا، فإن هذا ليس باختيار العبد، بل هذا خلق فيه بغير اختياره، بخلاف ما إذا كان هو متكبرا على غيره، بذلك أو بغيره، فيكون هذا من عمله الذي يمقته الله عليه، كما قال لإبليس: {فما يكون لك أن تتكبر فيها} [سورة الأعراف: 13].
كذلك من خلقه الله حسن اللون معتدل القامة جميل الصورة، فهذا ليس من عمله الذي يحمد عليه أو يذم، أو يثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه عليه، كما أنه إذا كان أسود أو قصيرا، أو طويلا ونحو ذلك، لم يكن هذا من عمله الذي يحمد عليه أو يذم، ويثاب أو يعاقب، ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه ; ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» ".
(وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17)
فصل:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: " الأسماء ثلاثة أنواع " نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة؛ ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر؛ ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: {وعاشروهن بالمعروف} ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب. فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يراد بها في كلام الله ورسوله وكذلك لفظ الخمر وغيرها ومن هناك يعرف معناها فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها فذاك من جنس علم البيان. وتعليل الأحكام هو زيادة في العلم وبيان حكمة ألفاظ القرآن؛ لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا. واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله؛فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله فإنه شاف كاف؛ بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنبا كافرا ويعلم أنه لو قدر أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك؛ ونقر بألسنتنا بالشهادتين إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئا من الخير الذي أمرت به ونشرب الخمر؛ وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضا ونقاتلك مع أعدائك؛ هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم ألا يدخل أحد منكم النار بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك.
وكذلك كل مسلم يعلم أن شارب الخمر والزاني والقاذف والسارق لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجعلهم مرتدين يجب قتلهم بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزاني وقطع السارق وهذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا مرتدين لقتلهم. فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم. وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها. إما في دلالة الألفاظ.
وإما في المعاني المعقولة. ولا يتأملون بيان الله ورسوله وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله فإنها تكون ضلالا ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول والصحابة والتابعين؛ وكذلك ذكر في رسالته إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين.
لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله ما لا يعلم أو غير الحق وهذا مما حرمه الله ورسوله. وقال تعالى في الشيطان: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقال تعالى: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} وهذا من تفسير القرآن بالرأي الذي جاء فيه الحديث: {من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار}.
مثال ذلك أن " المرجئة " لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله أخذوا يتكلمون في مسمى " الإيمان " و " الإسلام " وغيرهما بطرق ابتدعوها مثل أن يقولوا: " الإيمان في اللغة " هو التصديق والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها فيكون مراده بالإيمان التصديق؛ ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان أو بالقلب فالأعمال ليست من الإيمان ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله: {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق لنا. فيقال لهم: " اسم الإيمان " قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ وهو أصل الدين وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ويفرق بين السعداء والأشقياء ومن يوالي ومن يعادي والدين كله تابع لهذا؛ وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك؛ أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله. ووكله إلى هاتين المقدمتين؟. ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن. ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من تواتر لفظ الكلمة فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه بخلاف كلمة من سورة.
فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم وسلكوا السبل وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات فهذا كلام عام مطلق. ثم يقال: " هاتان المقدمتان " كلاهما ممنوعة فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا ما أنت بمؤمن لنا صح المعنى لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: {وأقيموا الصلاة}. ولو قال القائل: أتموا الصلاة ولازموا الصلاة التزموا الصلاة افعلوا الصلاة كان المعنى صحيحا.
لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا. فكون اللفظ يرادف اللفظ؛ يراد دلالته على ذلك. ثم يقال: ليس هو مرادفا له وذلك من وجوه: (أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه ولا يقال: آمنه وآمن به. بل يقال: آمن له كما قال: {فآمن له لوط} وقال: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} وقال فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} وقالوا لنوح: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} وقال تعالى: {قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}. فقالوا: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} وقال: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}.
فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا. قيل: اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعف عمله إما بتأخيره أو بكونه اسم فاعل أو مصدرا أو باجتماعهما فيقال: فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل: هو عابد لربه متق لربه خائف لربه وكذلك تقول: فلان يرهب الله ثم تقول: هو راهب لربه وإذا ذكرت الفعل وأخرته تقويه باللام كقوله: {وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وقد قال: {فإياي فارهبون} فعداه بنفسه وهناك ذكر اللام فإن هنا قوله: {فإياي} أتم من قوله: فلي. وقوله هنالك {لربهم} أتم من قوله: ربهم فإن الضمير المنفصل المنصوب أكمل من ضمير الجر بالياء وهناك اسم ظاهر فتقويته باللام أولى وأتم من تجريده؛ ومن هذا قوله: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} ويقال: عبرت رؤياه وكذلك قوله: {وإنهم لنا لغائظون} وإنما يقال: غظته لا يقال: غظت له ومثله كثير فيقول القائل: ما أنت بمصدق لنا أدخل فيه اللام لكونه اسم فاعل وإلا فإنما يقال: صدقته لا يقال: صدقت له ولو ذكروا الفعل لقالوا: ما صدقتنا وهذا بخلاف لفظ الإيمان فإنه تعدى إلى الضمير باللام دائما؛ لا يقال: آمنته قط وإنما يقال: آمنت له كما يقال: أقررت له فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق مع أن بينهما فرقا.
(الثاني: أنه ليس مرادفا للفظ التصديق في المعنى فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت كما يقال: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا قيل له: صدق كما يقال: كذب وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة؛ كقوله: طلعت الشمس وغربت أنه يقال: آمناه كما يقال: صدقناه ولهذا؛ المحدثون والشهود ونحوهم؛ يقال: صدقناهم؛ وما يقال آمنا لهم؛ فإن الإيمان مشتق من الأمن. فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع؛ والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء يقال: صدق أحدهما صاحبه ولا يقال: آمن له لأنه لم يكن غائبا عنه ائتمنه عليه ولهذا قال: {فآمن له لوط} {أنؤمن لبشرين مثلنا}. {آمنتم له}. {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} فيصدقهم فيما أخبروا به. مما غاب عنه وهو مأمون عنده على ذلك فاللفظ متضمن مع التصديق ومعنى الائتمان والأمانة؛ كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق ولهذا قالوا: {وما أنت بمؤمن لنا} أي لا تقر بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك. فلو صدقوا لم يأمن لهم.
(الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت ويقال: صدقناه أو كذبناه ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه؛ ولا يقال أنت مؤمن له أو مكذب له؛ بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر. يقال: هو مؤمن أو كافر والكفر لا يختص بالتكذيب؛ بل لو قال: أنا أعلم إنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم؛ فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعا بلا تكذيب؛ فلا بد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق؛ فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر فيجب أن يكون كل مؤمن مسلما منقادا للأمر وهذا هو العمل.
فإن قيل: فالرسول صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بما يؤمن به. قيل: فالرسول ذكر ما يؤمن به لم يذكر ما يؤمن له وهو نفسه يجب أن يؤمن به ويؤمن له فالإيمان به من حيث ثبوته غيب عنا أخبرنا به وليس كل غيب آمنا به علينا أن نطيعه وأما ما يجب من الإيمان له فهو الذي يوجب طاعته والرسول يجب الإيمان به وله فينبغي أن يعرف هذا وأيضا فإن طاعته طاعة لله وطاعة الله من تمام الإيمان به.
الرابع: أن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف؛ فآمن أي صار داخلا في الأمن وأنشدوا. . . (1).
وأما " المقدمة الثانية " فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق فقولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان؛ عنه جوابان. " أحدهما ": المنع بل الأفعال تسمى تصديقا كما ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {العينان تزنيان وزناهما النظر؛ والأذن تزني وزناها السمع؛ واليد تزني وزناها البطش؛ والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ذلك ويشتهي؛ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه}. وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف.
قال الجوهري: والصديق مثال الفسيق: الدائم التصديق. ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال وهذا مشهور عن الحسن يروى عنه من غير وجه كما رواه عباس الدوري: حدثنا حجاج؛ حدثنا أبو عبيدة الناجي عن الحسن قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. من قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك بأن الله يقول: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} ورواه ابن بطة من الوجهين.
وقوله: ليس الإيمان بالتمني - يعني الكلام - وقوله: بالتحلي. يعني أن يصير حلية ظاهرة له فيظهره من غير حقيقة من قلبه ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر. وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. وقد روى محمد بن نصر المروزي بإسناده أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل. فأجابه عنها: سألت عن الإيمان فالإيمان هو التصديق أن يصدق العبد بالله وملائكته وما أنزل الله من كتاب وما أرسل من رسول وباليوم الآخر. وسألت عن التصديق. والتصديق: أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه عرف أنه ذنب واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه فذلك هو التصديق. وتسأل عن الدين فالدين هو العبادة فإنك لن تجد رجلا من أهل الدين ترك عبادة أهل دين ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له. وتسأل عن العبادة والعبادة هي الطاعة ذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه فقد آثر عبادة الله ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله فقد عبد الشيطان ألا ترى أن الله قال للذين فرطوا: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم. وقال أسد بن موسى: حدثنا الوليد بن مسلم الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية قال: الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل. قال الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية. ثم صيرهم إلى العمل فقال: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} قال: وسمعت الأوزاعي يقول: قال الله تعالى:
{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} والإيمان بالله باللسان والتصديق به العمل. وقال معمر عن الزهري: كنا نقول الإسلام بالإقرار والإيمان بالعمل والإيمان: قول وعمل قرينان لا ينفع أحدهما إلا بالآخر وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله؛ فإن كان عمله أوزن من قوله: صعد إلى الله؛ وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله.
ورواه أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف. وقال معاوية بن عمرو: عن أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة.
__________
Q (1) بياض بالأصل

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|