عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 02-08-2025, 11:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 375)

من صــ 316 الى صـ 330




الثامن: أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم، والحكيم إنما يخلق لحكمته العامة، كما ذكر حكمته في غير موضع "10 - أ" فإذا قدر أنه يعذب من يعذب لحكمة كان هذا ممكنا، توجد في الدنيا العقوبات الشرعية فيها حكمة، وكذلك ما يقدره من المصائب فيها حكم عظيمة، فيها تطهير من الذنوب، وتزكية للنفوس، وزجر عنها في المستقبل للفاعل ولغيره، ففيها عبرة، والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، ولهذا قال في الحديث الصحيح: "إنهم يحسبون بعد خلاصهم من الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة".
والنفوس الشريرة الظالمة التي ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادات لما نهيت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والظلم والشر، فإذا عذبوا بالنار عذابا يخلص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا معقولا في الحكمة كما
يوجد في تعذيب الدنيا، وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة، وأما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب، فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره.
ولهذا كان الجهم لما رأى ذلك ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين، وقال: بل يفعل ما يشاء، والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره، ليس عندهم في الحقيقة حكمة ورحمة، ولكن له علم وقدرة وإرادة لا ترجح أحد الجانبين، ولهذا لما طلب منهم أن يقروا بكونه حكيما، فسروه بأنه عليم أو قدير أو مؤيد، وليس من الثلاثة ما يقتضي الحكمة، وإذا ثبت أنه رحيم حكيم، وعلم بطلان قول الجهم تعين إثبات ما تقتضيه الرحمة والحكمة.
وما قاله المعتزلة - أيضا - باطل، فقول القدرية المجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل، ومن أعظم ما غلظهم اعتقادهم تأييد جهم، فإن ذلك يستلزم ما قالوه، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، والله سبحانه أعلم.
وأما آيات بقاء الجنة.

فالأول: مثل قوله تعالى: {أكلها دائم وظلها}. فأخبر أنه دائم والمنقطع ليس بدائم.
والثاني: مثل قوله: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}، والمنقطع ينفد
والثالث: قوله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فأخبر أن ما في الدنيا من الخير ينفد وما عند الله باق لا ينفد، فلو كان لما عند الله من النعيم آخر لكان ينفد نعيم الدنيا، ولم يكن باقيا لا ينفد.
والرابع: مثل قوله تعالى في آيتين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}.
{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}.
كما قال: {وإن لك لأجرا غير ممنون}.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع، ولا منقوص.
وذكروا عن ابن عباس أنه قال: غير مقطوع.
وعن مقاتل: غير منقوص - أيضا -.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص، كما قال: {وإن لك لأجرا غير ممنون}.
قالوا - ومنه المنون، لأنه يقطع عمر الإنسان.
وعن مجاهد "غير مسحوب" وهذا يوافق ذلك، لأن ما ينتهي مقدر محسوب، بخلاف ما لا نهاية له فإنه غير مسحوب.
وقد شذ بعض الناس فقال: غير ممنون عليهم من جنس قوله: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان}.
وهذا القول مع مخالفته لأقوال السلف والجمهور هو خطأ لوجوه:
أحدها: أن الله يمن علينا بكل نعمة أنعم بها علينا، حتى بالإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.

وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم}.
وقال أهل الجنة ما أخبر الله تعالى به في قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم}.
وهذا قولهم: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
وقوله: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين}، وقد ثبت في الصحيح
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
والله تعالى في غير موضع يذكر آلاءه وإحسانه ونعمه على عباده، ويأمرهم أن يذكروها، ويأمرهم أن يشكروها.
والعبد قد نهي أن يمن بصدقته بقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} لأن المتصدق في الحقيقة إنما أحسن إلى نفسه لا إلى المتصدق عليه، فإنه لولا أن له في ذلك منفعة وأجرا وعوضا لم يتصدق عليه، فصار كالذي يخدم المماليك بأجرة يأخذها من سيدهم ليس بمحسن إليهم.
وأيضا فإن المصدق الله هو المنعم عليه بما يسره الله للإحسان إلى نفسه وعليه أن يشكر الله تعالى ويرى أن الله هو المحسن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه، وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعوضه من الله، وإن نظر إلى المحسن إليه فهو المحسن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسنا إلى نفسه لا ظالما لها.

فلهذا كان منه على المخلوق ظلما أبطل به صدقته، والله هو المنعم على عباده حقيقة بالنعمة، والشكر عليها إذا أعانهم على شكره وجعلهم شاكرين بنعمته، بثواب الشكر، فكل ذلك تفضل منه وإحسان من غير أن يكون له على ذلك عوض يأخذه من غيره، لا من المحسن إليه ولا من غيره فهو المنعم حقيقة، وإن كان له في الإنعام حكمة يحبها ويرضاها، فتلك الحكمة منه، فما لأحد عليه منة وهو الجواد المحض وهو سبحانه ليس كمثله شيء.
وللناس كلام في الجود والإحسان ومن يفعل لحكمة ومقصود هل هو جواد
أم ليس بجواد؟ يفرق بين من يطلب عوضا من غيره فيحتاج إلى غيره فيكون جوده من باب المعاوضة، وبين من لا يحتاج إلى غيره بل هو الجواد بالنعم وبالحكم كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ولأنه لما قال تعالى: {لقد خلقنا الأنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، وبين أن غير المؤمنين تزول عنه النعمة، فلو كان المؤمن كذلك لم يكن بينهما فرق.
الخامس: مثل قوله تعالى في نعيم الجنة: {عطاء غير مجذوذ} وفي عذاب أهل النار: {إن ربك فعال لما يريد} قال غير واحد: غير مقطوع - أيضا -.

السادس: أنه قدر أخبر أن أهل الجنة والنار لا يموتون كما في الحديث الصحيح "يؤتى بالموت في صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت فيها ويا أهل النار خلود ولا موت فيها" كل خالد فيما هو فيه، فإذا كانوا لا يموتون فلا بد لهم من دار يكونون فيها، ومحال أن يعذبوا بعد دخول الجنة فلم يبق إلا دار النعيم، والحي لا يخلو من لذة أو ألم، فإذا انتفى الألم تعينت اللذة الدائمة هـ.
آخرها ... والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه، حسبنا الله ونعم الوكيل.

(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)
أخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك. ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء كانوا أعظم اختلافا والخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا أيضا أبعد عن السنة والحديث كانوا أعظم افتراقا في هذه لا سيما الرافضة فإنه يقال: إنهم أعظم الطوائف اختلافا وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم.
(فصل)
والاختلاف في كتاب الله على وجهين: أحدهما: أن يكون كله مذموما، كقوله: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [سورة البقرة: 176].
والثاني: أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [سورة البقرة: 253]. لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم كقوله: {ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [سورة هود: 118 - 119]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم: " «إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» ".
ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم. قال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض، والثاني: تبديل ما بدلوا. وهو كما قال ; فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل، فيكفر بالحق الذي مع الآخر، ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل ما بدل.
فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين. ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا من هذا: أحدها: الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الاجتماع، فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة، فعدلت عنه الطائفتان ; فهذه أخذت السبت، وهذه أخذت الأحد.

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، الناس لنا فيه تبع، اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» ".
وهذا الحديث يطابق قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [سورة البقرة: 203].
وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا قام من الليل يصلي يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» "
والحديث الأول يبين أن الله - تعالى - هدى المؤمنين لغير ما كان فيه المختلفون ; فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وهو مما يبين أن الاختلاف كله مذموم.
والنوع الثاني: القبلة. فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب. وكلاهما مذموم لم يشرعه الله.

والثالث: إبراهيم. قالت اليهود كان يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا. وكلاهما كان من الاختلاف المذموم: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [سورة آل عمران: 67].
والرابع: عيسى. جعلته اليهود لغية، وجعلته النصارى إلها.

والخامس: الكتب المنزلة. آمن هؤلاء ببعض، وهؤلاء ببعض.
والسادس: الدين. أخذ هؤلاء بدين، وهؤلاء بدين. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} [سورة البقرة: 113]. وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أنه قال: اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى، فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها».
واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط ; فالخارجي يقول: ليس الشيعي على شيء. والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء. والقدري النافي يقول: ليس المثبت على شيء. والقدري الجبري المثبت يقول: ليس النافي على شيء. والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء. والمرجئة تقول: ليست الوعيدية على شيء.
بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة. فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء. والكرامي يقول: ليس الكلابي على شيء. والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء. والسالمي يقول: ليس الأشعري على شيء.
ويصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري ويصنف الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه، وذكر فيه مثالب السالمية.

وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا، مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم. وأما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام.
ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض. وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب.
كما قال أبو المعالي وقت السياق: " لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ".
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم.
وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام، وقال: " قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري:
لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم، ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة.

(ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فصل:
قال " الشيخ عبد القادر " قدس الله روحه: " افن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمره وعن إرادتك بفعله لحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم الله ". قلت: فحكمه يتناول خلقه وأمره أي: افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة الله والتوكل عليه فلا تطعهم في معصية الله تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعة ولا دفع مضرة. وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقا للأمر الشرعي لا لهواه وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الله لا لإرادة نفسه. فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات. فالأول " يكون بالأمر و " الثاني " لا تكون له إرادة. ولا بد في هذا أن يقيد بأن لا تكون له إرادة لم يؤمر بها وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته سواء كان موافقا للقدر أم لا. وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور. قال الشيخ: " فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم، وعن التردد إليهم، واليأس مما في أيديهم ". وهو كما قال. فإذا كان القلب لا يرجوهم ولا يخافهم لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه كذهاب الرسل وأتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات الله فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد. ليكون عابدا لله متوكلا عليه وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل أو مثله أو دونه كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب؛ بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه. قال الشيخ: " وعلامة فنائك عنك وعن هواك: ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع، ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك، ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك ولا تذب عنك لكن تكل ذلك كله إلى من تولاه أولا فيتولاه آخرا. كما كان ذلك موكولا إليه في حال كونك مغيبا في الرحم وكونك رضيعا طفلا في مهدك ".
قلت: وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها، ودفع ما تبغضه ويضرها فإذا فني عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه الله، وترك ما يبغضه الله فاعتاض بفعل محبوب الله عن محبوبه وبترك ما يبغضه الله عما يبغضه، وحينئذ فالنفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة فيكون في ذلك متوكلا على الله. و " الشيخ رحمه الله " ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لا بد لها من جلب المنفعة، ودفع المضرة فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقا؛ بل لا بد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة لله، وطاعة أمره بدون التوكل عليه كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته. قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وقال تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}.
و (المقصود) أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون التوكل والاستعانة ومن كان واثقا بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول إنه محتاج فيه إلى غيره.
قال الشيخ - رضي الله عنه -: " وعلامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط فلا يكن لك غرض ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله، ساكن الجوارح، مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها تقلبك يد القدرة، ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم الأول فتكون منكسرا أبدا. فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورا بإرادته فقوله: علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط. أي لا تريد مرادا لم تؤمر بإرادته فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحب وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص. وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلا وأن قول أبي يزيد: " أريد ألا أريد " - لما قيل له: ماذا تريد؟ - نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقا وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقا فإن هذا غلط ممن قاله فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور فإن الحي لا بد له من إرادة فلا يمكن حيا ألا تكون له إرادة فإن الإرادة التي يحبها الله ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركا لما هو خير له. والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه " الإرادة " فقال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وقال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} وقال تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} وقال تعالى: {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} وقال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} وقال تعالى: {فاعبد الله مخلصا له الدين} {ألا لله الدين الخالص} وقال تعالى: {قل الله أعبد مخلصا له ديني} وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ولا عبادة إلا بإرادة الله ولما أمر به. وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} أي أخلص قصده لله. وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وإخلاص الدين له هو إرادته وحده بالعبادة. وقال تعالى: {يحبهم ويحبونه} وقال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. وكل محب فهو مريد. وقال الخليل عليه السلام {لا أحب الآفلين} ثم قال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض}. ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر الله بإرادته وإرادة ما يأمر به وينهى عن إرادة غيره وإرادة ما نهى عنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} " فهما " إرادتان ": إرادة يحبها الله ويرضاها وإرادة لا يحبها الله ولا يرضاها بل إما نهى عنها وإما لم يأمر بها ولا ينهى عنها.

سورة يوسف
(الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2)
[فصل: رد دعوى النصارى خصوصية الإسلام لكون كتابه باللسان العربي]
وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة: أحدها: أن يقال والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده وموسى - عليه السلام - لم يكن يتكلم إلا بالعبرية وكذلك المسيح لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم إما بأن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه بلسانه وإن لم يعرف سائر ما أرسل به.
وقد أخبر الله في القرآن ما قالته الرسل لقومهم وما قالوا: لهم - وأكثرهم لم يكونوا عربا - وأنزله الله باللسان العربي وحينئذ، فإن شرط التكليف تمكن العباد من فهم ما أرسل به الرسول إليهم وذلك يحصل بأن يرسل بلسان يعرف به مراده ثم جميع الناس متمكنون من معرفة مراده بأن يعرفوا ذلك اللسان أو يعرفوا معنى الكتاب بترجمة من يترجم معناه وهذا مقدور للعباد ومن لم يمكنه فهم كلام الرسول إلا بتعلم اللغة التي أرسل بها وجب عليه ذلك، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف ما لا يتم الوجوب إلا به، فإنه ليس بواجب ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا في الأصل ولا في التمام فلا نحتاج أن نقول ما لا يتم الواجب إلا به - وكان مقدورا للمكلف - فهو واجب، فإن ما ليس مقدورا عليه لا يكلف به العباد بل وقد يكون مقدورا عليه ولا يكلفون به.
فلما كانت الاستطاعة شرطا في وجوب الحج لم يجب تحصيل الاستطاعة بخلاف قطع المسافات، فإنه ليس شرطا في الوجوب فلهذا يجب الحج على الإنسان من المسافة البعيدة والقريبة إذا كان مستطيعا.
وجمهور الناس لا يعرفون معاني الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والقرآن إلا بمن يبينها ويفسرها لهم وإن كانوا يعرفون اللغة فهؤلاء يجب عليهم طلب علم ما يعرفون به ما أمرهم الله به ونهاهم عنه وهذا هو طلب العلم المفروض على الخلق وكذلك ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من معاني الكتاب الذي أنزله الله عليه يجب على الخلق طلب علم ذلك ممن يعرفه إذا كان معرفة ذلك لا تحصل بمجرد اللسان.

كما يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله - تبارك وتعالى - فمن ادعى علمه فهو كاذب.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]