
02-08-2025, 10:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 373)
من صــ 286 الى صـ 300
لم ينزل كتاب مستقل إلا التوراة والقرآن، كما قال تعالى:
{قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49].
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن كثيرا كما في قوله:
{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} [الأنعام: 91].
إلى قوله:
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه} [الأنعام: 92].
وقال:
{أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17].
قال سعيد بن جبير وغيره: " والأحزاب هي الملل كلها "، قال: وهذا تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"، وقرأ هذه الآية:
{ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17].
وقالت الجن:
{إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى} [الأحقاف: 30].
وقال النجاشي - لما سمع القرآن -: (إن هذا والذي جاء به
موسى ليخرج من مشكاة واحدة).
وأيضا، فكان معروفا عندهم إخبار الكهان عن الشياطين التي تسترق السمع، فلما رأوا أن السماء قد حرست حرسا شديدا خلاف العادة، علموا أن الشياطين منعوا استراق السمع، وعلمت الجن ذلك كما تقدم، وقد قالت الجن:
{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا - وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 8 - 9].
وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب، وهذا أمر خارق للعادة، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب؟ فلما رأوا أنه بالشهب، علموا أنه لأمر حدث. وأرسلت
الجن تطلب سبب ذلك، حتى سمعت القرآن، فعلموا أنه كان لأجل ذلك.
وهذا من أعلام النبوة ودلائلها.
وقبل زمان البعث وبعده، كان الرمي خفيفا، لم تمتلئ به السماء كما ملئت حين نزول القرآن، وقال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 223].
والأفاك الكذاب، والأثيم الفاجر، كما قال:
{لنسفعا بالناصية - ناصية كاذبة خاطئة} [العلق: 15 - 16].
قال في الحديث المتفق على صحته: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عليه، وهو المناسب لها في الكذب والفجور. فأما الصادق البار، فلا يحصل به مقصود الشياطين، فإن الشيطان لا يطلب الصدق والبر، وإنما يطلب الكذب والفجور.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين، لم تجرب عليه كذبة واحدة. ولما جاءه الروح بالوحي لم يخبر بخبر واحد كذب، لا عمدا ولا خطأ.
ومن تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يخبر بالكذب، فإن الشياطين يلقون إليهم السمع، ولا يلقون إليهم ما سمعوه على وجهه، بل يكذبون فيه كثيرا ; إذ كان أكثر الشياطين الذين ينزلون عليهم كاذبين فيما ينزلون به عليهم. والشياطين وإن كان كلهم كاذبا - فليس كل من ألقى السمع يكذب فيما يلقيه، بل قد يصدق أحدهم فيما يلقيه من السمع ويسترقه، ولكن أكثرهم يكذبون، والذي يصدق منهم مرة يكذب مرات، والذي ينزل عليه الشياطين أفاك أثيم.
فالفرق بين الصادق البار الذي يأتيه الملك، والكاذب الأثيم الذي يأتيه الشيطان الرجيم، فرق بين، يعرف بأدنى معرفة بحال الاثنين، ولما كان الكاهن الذي يأتيه شيطان قد يخبر ببعض الأمور الغائبة بين سبحانه أن هذا يكون - وإن صدق في بعض الأخبار - كاذبا فاجرا، والذي يأتيه بالكذب، فلا يشتبه بمن لا يكذب ولا يفجر، وهذا مما يبين أن النبي لا يكون إلا بارا معصوما أن يصر على ذنب.
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59)
فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هودا معصية تكذيب لجنس الرسل فكانت المعصية لجنس الرسل كمعصية من قال: {فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء}. ومعصية من كذب وتولى قال تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى} {الذي كذب وتولى} أي كذب بالخير وتولى عن طاعة الأمر، وإنما على الخلق أن يصدقوا الرسل فيما أخبروا ويطيعوهم فيما أمروا.
(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (101)
فصل:
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ومن هذا الباب " ظلم النفس ": فإنه إذا أطلق تناول جميع الذنوب فإنها ظلم العبد نفسه قال تعالى: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد} {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب}. وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم}. وقال في قتل النفس: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}. وقالت بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. وقال آدم عليه السلام {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. ثم قد يقرن ببعض الذنوب كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم}. وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}. وأما لفظ " الظلم المطلق " فيدخل فيه الكفر وسائر الذنوب.
(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108)
وسئل - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} وقوله تعالى {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}.
فأجاب:
الحمد لله، قال طوائف من العلماء إن قوله: {ما دامت السماوات والأرض} أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن} وقال بعض العلماء في قوله تعالى {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} هي أرض الجنة. وعلى هذا فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التي هي سقف الجنة؛ إذ كل ما علا فإنه يسمى في اللغة سماء كما يسمى السحاب سماء والسقف سماء.
و " أيضا " فإن السموات وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها بل أصلها باق؛ بتحويلها من حال إلى حال كما قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة وأرض دائمة والله أعلم.
مسألة في الرد على من قال: بفناء الجنة والنار، وعلى من قال بفناء كالفارابية وذكر اختلاف الناس في دار الجزاء بالعقاب، ودار الثواب بالإنعام، وللناس في ذلك ثلاثة أقوال:
قوم قالوا بفنائهما جميعا، وقوم قالوا ببقائهما جميعا، وقوم قالوا: بفناء دار الجزاء، وبقاء دار الإفضال، والإنعام، والإكرام.
رد شيخ الإسلام على مذهب الجهمية
وقد تكلم الشيخ رحمه الله - على الجهمية، والهذيلية، الفارابية، ورجح أدلة أهل السنة، وهدم شبه أهل البدعة، وأشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب، فقال - رحمه الله:
وقد تنازع الناس في ذلك على ثلاثة أقوال:
قيل: ببقائهما، وقيل: بفنائهما، وقيل: ببقاء الجنة، دون النار.
أما القول بفنائها: فما رأينا أحدا حكاه عن أحد من السلف، من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وإنما حكوه عن الجهم بن صفوان، وأتباعه الجهمية.
وهذا مما أنكر عليه أئمة الإسلام، بل ذلك مما أكفروهم به، كما ذكره
عبد الله بن أحمد في كتاب "السنة" والأثرم في: كتاب "السنة"، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"، وغيرهم عن خارجة بن مصعب، أنه قال:
كفرت الجهمية بآيات من كتاب الله - عز وجل -، في غير موضع بأربع آيات من كتاب الله:
بقوله تعالى: {أكلها دائم}، وهم يقولون: لا يدوم.
ويقول الله تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}، وهم يقولون ينفد.
وبقوله تعالى: {لا مقطوعة ولا ممنوعة}، فمن قال: إنها تنقطع، فقد كفر.
وبقوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ}. أي: غير مقطوع. فمن قال: إنه ينقطع، فقد كفر.
"وهذا قاله جهم، لأصله الذي اعتقده، وهو: امتناع وجود ما يتناهى من الحوادث كما بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع - وهو عمدة أهل الكلام الذين استدلوا على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث بها، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى الجهم: أن ما يمنع من وجود ما لا يتناهى بمنعه في المستقبل، كما يمنعه في الماضي، فيلزم أن يكون الفعل الدائم ممتنعا على الرب في المستقبل كما كان ممتنعا عليه في الماضي وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال: هذا إنما يقتضي
فناء الحركات، فقال: إنه تفنى حركات أهل الجنة، والنار حتى يبقوا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة".
وزعم طائفة ممن وافقهم على امتناع حوادث لا نهاية لها، كأبي الحسن بن الزاغواني، أن هذا القول هو المقتضى القياس العقلي، لكن السمع لما جاء ببقاء الجنة، والنار، قلنا به، ولم يعلم أن ما كان ممتنعا في العقل لا يجيء السمع بوقوعه، فإن السمع لا يخبر بوجود ما كان ممتنعا في العقل.
والأكثرون الذين وافقوا جهما، وأبا الهذيل على أصلها، فرقوا بين الماضي، والمستقبل من جهة العقل، بأن الماضي قد دخل في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنما هو أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى.
وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع، وبين غلط أصحابها، وأن الماضي إذا قيل: لا يتناهى، فإنما المراد أنه لا ابتداء له، فلم ينته من طرف الابتداء، وإلا فإذا قدر ماضيا منتقضا، فقد تناهى.
ففرض مالا يتناهى مطلقا، وجعله قاضيا منقضيا جمع بين النقيضين.
ولهذا كانت أدلتهم عليه جامعة بين النقيضين، مثل قولهم: يلزم أن يكون اليوم، وما سواه من الحوادث متوقفا على انقضاء ما نهاية له، وانقضاء ما لا نهاية له محال.
فإنه يقال لهم نعم، ما لا يتناهى لا في الابتداء، ولا في الانتهاء، فانقضاؤه محال، أما إذا قدرتموه حتى مضى، وانتهى إلى حد.
فقولهم بعد ذلك:
أن انقضاءه محال، كلام متناقض، فإنكم فرضتموه قد انقضى وانتهى من هذا الجانب، جانب النهاية، دون جانب البداية، ومثل قولهم في دليل ذلك التطبيق، إذا فرضنا الحوادث إلى حين الطوفان، والحوادث إلى حين الهجرة، ثم طبقنا بينهما: فإما أن يتماثلا، وإما أن يتفاضلا، والتماثل ممتنع، والتفاضل يقتضي وقوع التفاضل فيما لا يتناهى، وهو محال، فإنه يقال لهم:
هذه الحوادث، هي بعينها لكنها زادت بما بين الوقتين: وقت الطوفان، ووقت الهجرة، وسواء قدر أنها هي، أو أنها غيرها، فهذه أكثر من هذه، وهذا تفاضل فيما انتهى، وهو الماضي، فهو تفاضل فيما تناهى من أحد طرفيه من الطرف المتناهي، فإن كان تناهى ما لا ابتداء له في المستقبل ممكنا، فالتفاضل وقع من جهة كونه متناهيا، لا من جهة كونه غير متناه - أي - لا بداية له. وإن كان تناهى ما لا ابتداء له غير ممكن، فقولكم: تناهى الحوادث إلى زمان الطوفان، أو الهجرة، باطل، وذلك أنه إذا قيل: إنه لم يزل الرب متكلما
بمشيئته، وقدرته، أو لم يزل فعالا لما يشاء، نحو ذلك مما يقتضي كونه فاعلها، كان هذا النوع قديما، وما وجب قدمه، امتنع عدمه، وذلك يقتضي امتناع انقضاء فعل الرب، نقيض قول الجهم، فإن عنده يجب انقضاء فعله وانقطاعه، ويمتنع عنده دوامه أبدا كما امتنع دوامه أزلا، ويجب عنده أن يكون لم يزل غير فاعل في الماضي، ولا في الأبد إذا فنيت الجنة والنار.
وحقيقة قوله: أنه لم يزل غير قادر، ثم صار قادرا، ثم يصير غير قادر وهو يقول: ما كان له بداية، وجب أن يكون له نهاية.
فأما إذا قدر أن الرب لم يزل قادرا على الفعل، والكلام بمشيئته، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء، فهنا وجب وجود ما لا ابتداء له، ولا نهاية لابتدائه، فإذا قدر انتهاء هذا النوع كان باطلا، فإذا قيل: إن الحوادث انتهت إلى الطوفان أو الهجرة.
فإن قيل: يقدر الرب ما بقي بفعل شيئا، فهذا تقدير خلاف الواقع، بل هو ممتنع. وإن قيل: يقدر فضلا في الذهن بين ما مضى وبين ما يستقبل، فهذا التقدير الذهني لا يغير الحقائق، بل الفعل الدائم في نفسه، ثم إذا قدر هذا في الذهن، فقد قدرت الحوادث الماضية انتهت إلى هذا الحد.
وإذا انتهت قبلت الزيادة والنقصان، فإن ما ينتهي من الحوادث يقبل الزيادة والنقصان، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا هنا على أصل قول الجهم الذي أوجب له أن يقول بفناء الجنة والنار، حتى أنكر ذلك
عليه أئمة الإسلام، وجمهورهم كفروه. والذين وافقوه على الأصل خالفوه في لوازمه فتناقضوا.
وفرق من فرق بين الماضي والمستقبل، بأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل، فرق ضعيف "3 أ" لوجوه:
أحدها: إن الماضي قد جعله متناهيا، فلم يقع التفاضل إلا فيما تناهى دون ما لا تناهى كما تقدم، وحينئذ فما دخل في الوجوه إلا ما يتناهى من هذا الجانب، فهو تقدير يتناهى فما قدر متناهيا، ثم هذا إذا قدر أن تنهايه ممكن، فكيف إذا كان ممتنعا؟.
الثاني: أن الدليل شامل للنوعين، فإنه يمكن أن يقال: الحوادث من الهجرة، ومن الطوفان إلى ما لا يتناهى، هل هما متفاضلان؟ أم متماثلان. فإن تماثلا فهو محال، لأن أحدهما أزيد من الآخر، وإن تفاضلا فهو محال، لأن التفاضل في ما لا يتناهى محال.
فإن قيل: هذا تقدير التفاضل، والتماثل في ما لم يكن بعد.
قيل: نعم، لكنه تقدير التفاضل والتماثل، بتقدير وجوده لا في حال كونه معدوما، كما أن الماضي قدرتهم فيه التماثل، والتفاضل بعد عدمه بعد عدمه لا في حال وجوده، لكن قدرتهم تلك الحوادث الماضية التي عدمت كأنها موجودة.
ففي كلا الموضعين إنما هو تقدير التفاضل، والتماثل فيما هو معدوم.
فإن صح في أحد الموضعين صح في الآخر، وإن امتنع في أحدهما امتنع في الآخر.
الوجه الثالث: أن يقال: كون الشيء ماضيا، ومستقبلا أمرا إضافي بالنسبة إلى المتكلم المخبر، فيما مضى قبل كلامه، كان ماضيا، وما يكون بعده يكون مستقبلا، وبنسبة أحدهما إلى الآخر، فالماضي ماض على ما يستقبل، والمستقبل مستقبل لما قد مضى، وما من ماض إلا وقد كان مستقبلا، وما من مستقبل إلا وسيصير ماضيا، فليس ذلك فرقا يعود إلى صفات النوعين، حتى يقال: إن أحدهما ممكن، والآخر ممتنع، بل هذا الماضي كان مستقبلا، وهذا المستقبل يصير ماضيا، فتتصف كل الحوادث بالمضي والاستقبال، فلم يكن في ذلك ما هو لازم للنوعين يوجب الفرق بينهما.
وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر.
"والمقصود هنا: أن هذا القول "هو القول بفناء الجنة، والنار قول لم يعرف عن أحد من السلف: من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، والذين قالوه لم يقولوه تلقيا له من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وإعلامه وبيانه، ولا من قياس معقول دل عليه الرسول، وإنما قالوه عن قياس قاسوه بعقولهم، وهو خطأ في نفس الأمر"، وإن كان قد اشتبه على كثير من أهل الكلام فاعتقدوه حقا، حتى بنوا عليه وجوب حدوث ما لم يخل من الحوادث، بل وجوب حدوث ما تقوم به الحوادث.
ومن هذا قالوا: إن القرآن مخلوق هو، وغيره من كلام الله، وإن الله يمتنع أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء، وعليه - أيضا - بنوا نفي الصفات، لأنها أعراض لا تقوم بإلا بجسم، ثم منهم من قال: إنه صار يتكلم بمشيئته، بعد أن لم يكن يتكلم بمشيئته، وهؤلاء منهم من قال: الكلام لا يقوم به، فيكون مخلوقا بائنا عنه، ومنهم من قال: بل يقوم بذاته، فيكون جنس كلامه حادثا، والذين وافقوا السلف على أنه لم يزل متكلما وافقوا الجهم على أصله، قالوا: إن كلامه قديم العين، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل هو لازم لذاته كالحياة، ثم من هؤلاء من قال: إنه معنى واحد، هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل منهي، وهو معنى التوراة. والإنجيل، والزبور وكل كلام يكلم به عبادة المؤمنين، ملائكته وغيرهم.
ومنهم من قال: بل هو حروف، أو حروف وأصوات أزلية، لم تزل ولا تزال لازمة لذاته، لا تتعلق بمشيئته وقدرته فهذه الطوائف الأربعة قد دخل في كل طائفة كثير من أهل النظر المعدودين من أكابر النظار، وأهل العلم، الناصرين للإسلام، أو للإسلام، والسنة وأصل أمرهم موافقتهم لجهم على قوله بامتناع دوام الحوادث، وأن الله يمتنع أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء، فعالا لما يشاء، فوافقوه على أن كلام الرب وفعله يمتنع أن يكون دائما بقدرته، ومشيئته، وعلى أن يمتنع أن يكون كلمات الله لا نهاية لها، وقد قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} إلى قوله: {ولو جئنا بمثله مددا}.
وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.
روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن سليمان بن عامر، قال: سمعت البيع بن أنس يقول: "إن مثل علم العباد كلهم في علم الله ربهم، كقطرة من هذه البحور كلها، وقد أنزل في ذلك: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.
وقوله: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}.
ذلك الذي عني في هذا الحديث، يقول: لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، والشجر كلها أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة دائمة لا يفنيها شيء، لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما نقول، وفوق ما نقول، ثم إن مثل نعيم الدنيا أوله وآخره في نعيم الآخرة، كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
قلت: ومثل هذا الكلام يقصد به التعبير عن عدم النهاية والنفاد والانقضاء.
والمراد: أن كلمات الله لا انتهاء لها، فلا تنفد، ولا تنقضي، وقد ذكر الربيع مع ذلك نعيم الجنة، فإن الله تعالى - قال: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}.
فاخبر أنه: لا ينفد، فلا يكون له انقضاء، ولا فراغ وآخر ينتهي عنده.
وهذه الأقوال، والكلام عليها مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا في فناء الجنة والنار، فقد تبين أن القول بفناء الجنة لم يعرف عن أحد من السلف، ولا الأئمة، وإنما هو قول جهم، ونحوه، وقد عرف فساده عقلا، ونقلا.
وأما القول بفناء النار: ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين، ومن بعدهم.
وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها، فإن الذين يقولون: إن عذابهم له حد ينتهي إليه ليس بدائم، كدوام نعيم الجنة قد يقولون: إنها قد تفنى، وقد يقولون: إنهم يخرجون منها، فلا يبقى فيها أحد، لكن قد يقال: إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد، بل يفنى عذابها، وهذا هو معنى فنائها.
"وقد نقل هذا القول عن عمر، ابن مسعود، وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم".
وقد روى عبد بن حميد - وهو من أجل علماء الحديث - في تفسيره المشهور، قال: أنا سليمان بن حرب، أنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن البصري، قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه".
وقال: أنبأ حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه".
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا}.
وهذا يبين أن مثل الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث، والسنة مثل سليمان بن حرب والذي هو من أجل علماء السنة والحديث، ومثل حجاج بن منهال في كلامهما عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم، والسنة، والذي يروي من وجهين: من طريق سلمة مع جلالته في العلم، والسنة، والذي يروى من وجهين: من طريق ثابت، ومن طريق حميد هذا عن الحسن من بعض التابعين فسواء كان هذا قد حفظ هذا عن عمر، أو لم يحفظ، كان مثل
هذا الحديث متداولا بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه، وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية.
وكان أحمد بن حنبل يقول: "أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبتدعة".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|