الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية … روائع الأوقاف في حفظ العلم ورعاية العلماء
- بلغت الكتاتيب التي مُوِّلت بأموال الوقف عدداً كبيرًا وعد ابن حوقل منها ثلاثمائة كُتاب في مدينة واحدة من مدن صقلية
- لم تكن الكراسي العلمية لتزدهر بمعزل عن المدارس التي كانت تبنى من مال الوقف ويرفق معها مرافق أساسية من سكن الطلبة وأساتذتهم
خلال الحروب مع التتار وسقوط بغداد سنة 656هـ وتدميرها ونهب كنوزها، بقيت مصر والشام جبهة صامدة ضد بربرية التتار ووحشيتهم؛ هذا ما دفع الكثير من العلماء الانتقال إلى مصر والشام؛ فأُثري النشاط العلمي وحركة التعليم والتأليف، وأنشئت مدارس ومكتبات وقفية متنوعة، واستوعبت تلك الأوقاف من المدارس والكتاتيب والمكتبات العلماء على اختلاف اهتماماتهم ومذاهبهم، ورعتهم خير رعاية كأمثال العلامة الحافظ ابن رجب الحنبلي (736-795هـ)؛ فقد كان في عهده في دمشق آنذاك ثلاثمائة وخمسون مدرسة فقهية، ومن أهمها المدرسة السُكّرية التي كان يسكنها -رحمه الله-.
رعاية الفقراء من الطلاب
من الأوقاف المشهورة التي رعاها أئمة الدعوة في المملكة العربية السعودية، وأثر في النهضة العلمية الشرعية ما عرف بـ(بيوت الإخوان)التي بنيت في دخنة قريبًا من مسجد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-، يسكن فيها طلاب العلم الذين يقدمون للدراسة على الشيخ وأخيه الشيخ عبداللطيف وغيرهم من أهل العلم؛ حيث كانت ظروف الطلاب ضعيفة اقتصاديا؛ فأسهم هذا الوقف في مساعدة هؤلاء الطلاب. الوقف على إثراء البعثات العلمية
وقف الأميرة، فاطمة هانم كريمة الخديوي إسماعيل التي وقفت جميع أطيانها، وكان مساحتها (أربعة عشر سهماً، وأربعة عشر قيراطاً، وثلاثة آلاف وسبعة وخمسين فداناً) وهذه الأطيان كائنة بمديرية الجيزة والدقهلية، كما وقفت جميع أراضي وبناء السراي الكائنة في بولاق الدكرور، وما احتوت عليه من الأثاث والمفروشات، والمنافع الأخرى، والآلات الزراعية، وإسطبل الخيول وقد جعلت الواقفة هذا الوقف على نفسها في حياتها، ثم من بعد مماتها خصصت الواقفة مائة سهم من جميع الوقف ينفق ريعها على مؤسسات علمية عدة ، وبعثات ترسل إلى الخارج. وقف الكتاتيب
بلغت الكتاتيب التي مُوِّلت بأموال الوقف عدداً كبيراً، فمثلاً: عد ابن حوقل منها ثلاثمائة كُتاب في مدينة واحدة من مدن صقلية، وذكر أن الكُتَّاب الواحد كان يتسع للمئات أو الألوف من الطلبة، وينقل الرحالة العربي المشهور ابن جبير انبهاره مما شاهد في القاهرة في مدرسة الإمام الشافعي التي وقفها ووقف بيته عليها ، كما انبهر من إحدى مدارس الإسكندرية، أما ابن بطوطه فيقول عن مصر والعراق وسوريا: إنها عامرة بالمعاهد العلمية الموقوفة ، ويذكر أنه استفاد منها، كما وصف أحوال عشرين مدرسة جامعة في دمشق، عاشت على أموال البر، والخير والوقف، أما في بغداد فلا يختلف عدد المدارس عما شاهده في دمشق، وبعض الأوقاف شملت الإنفاق على المدارس بما تتطلبه من مصروفات للعاملين من معلمين وخدم وتجهيزات وغيرها ، كما أن بعض الأوقاف خصصت للصرف على المعلمين فقط. الأوقاف والكُتاب
«الكُتَّاب» في بعض البلدان كان من السعة؛ بحيث يضم مئاتٍ وآلافاً من الطلاب، ومما يروى عن أبي القاسم البلخي أنه كان له كتَّاب يتعلم به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان كتّابه فسيحاً جدا؛ ولذلك كان أبو القاسم يحتاج إلى أن يركب حماراً ليتردد بين طلابه وليشرف على شؤونهم. وكانت هذه الكتاتيب تمول بأموال الأوقاف. تعليم العميان
في المدرسة العمرية الشيخة التي تقع في الصالحية بدمشق، وتنسب إلى منشئها الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي؛ حيث بدأ بإنشائها عام 603هـ/1306م، وأوقف المدرسة في البداية على علوم القرآن، وعمل لها ترميمات وإضافات في العهود المختلفة، وضمت بعد الزيادات 360 غرفة، وفيها 500 طالب من طلاب العلم، وكان فيها قسم لتعليم العميان، وآخر لتعليم الأطفال. مدرسة السبعيين
أسس هذه المدرسة أبو الحسن المريني، وسبب تسميتها بالسبعيين، أنها كانت خاصة بالطلبة الذين يقرؤون بالروايات السبع. مدرسة الوادي
أسسها السلطان أبو الحسن المريني في سنة 721 هـ، وسميت مدرسة الوادي؛ لأن وادياً كان يشق صحنها، وهي من أهم مدارس فاس، وقد ذكر أبو علي اليوسي: أن هذه المدرسة تحتوي على نحو سبعُمئة أستاذ، وقال: كان لا يعطي البيت فيها إلا لمن يحفظ جميع المختصر الحاجبي أي مختصر ابن الحاجب. ثانيًا: الكراسي العلمية الوقفية في المغرب
وفي مجال التعليم العالي ازدهرت الكراسي العلمية في المغرب بمال الوقف، فقد كانت الكراسي العلمية ظاهرة تربوية تعليمية تميزت بها الجوامع والمدارس في المغرب، وكان التنافس قويا بين العلماء في التفرد بكرسي علمي أو بمجموعة من الكراسي، ولا سيما الكراسي الخاصة بالتعليم العالي التي كان يحفرها الطلبة والعلماء والمختصون، ولا يتم ذلك للعالم إلا إذا كان مرجعاً وحجة في مادته، وقد اشتهرت كراسي عديدة بأسماء أصحابها، ومن أبرز العلماء الذين كانت لهم كراسي علمية مشهورة: الونشريسي أبو الربيع سليمان الفارس ( ت705هـ)، والفقيه محمد بن أحمد العارمي السليماني (ت771هـ )، وعبدالعزيز الورياغلي (ت880هـ )، وانو الغازي المراكشي أبو محمد (ت919هـ ) والخطيب أبو محمد عبدالله بن على بن أحمد العاصي (ت908هـ). الكراسي العلمية للفقيه أبي العباس المنجور
وممن كانت لهم كراسي علمية عديدة لسعة معارفهم الفقيه أبو العباس أحمد بن على المنجور (ت995هـ)، الذي كانت له كراسي التفسير والسيرة، وكانت أجور هؤلاء العلماء وغيرهم مما اعتلوا الكراسي العلمية تؤدى من مال الوقف، وكانت هناك ظاهرة علمية أخرى في الجوامع والمدارس انتعشت ونمت بفضل مال الوقف، وهي ظاهرة المجالس العلمية؛ حيث كان العالم يلقي دروسه وهو جالس على الأرض بدلاً من الكرسي، والظاهرتان معاً - أي الكراسي والمجالس العلمية- ما زالتا قائمتين في المساجد في عصرنا الحاضر. ازدهار الكراسي العلمية
ولم تكن لتزدهر الكراسي العلمية بمعزل عن المدارس، التي كانت تبنى من مال الوقف ويرفق معها مرافق أساسية من سكن الطلبة وأساتذتهم، وتخصص منح للطلبة المنتسبين للمدرسة وهي كالأحياء الجامعية بكل متطلباتها، وكان لنماء مال الوقف دور في الإنفاق الباهظ على تلك المدارس ومرافقها، وكانت أجور المدرسين مناسبة لمعيشتهم حتى لا يبحثوا عن عمل آخر ليكملوا حاجاتهم المعيشية، فقد كفتهم أحوال الوقف عن التفكير في أمر تدبير المعيشة لهم ولأسرهم. وفي المغرب بلغ حرصهم في المحافظة على المدارس أنهم كانوا ينقشون الموقوفات على رخام كان يبنى في جدرانها حفاظاً على استمرار إنفاقه عليها، وكانت المدارس في المغرب تستقبل الطلبة بعد حفظهم للقرآن الكريم في الكتاتيب دون أن يشترط تحديد السن، وهذا ما جعل إقبال الطلبة عليها من البوادي والحواضر ؛ فقد رعت الأموال الوقفية عمليه التعليم، وأسهمت في إصلاحها واستمرارها من مرحلة الطفولة حتى المراحل الدراسية العليا المتخصصة، وإن أغلب فقهاء المسلمين وعلماء دينهم ترعرعوا ونشؤوا على ما وضعته أموال الوقف تحت تصرّفهم. الأوقاف على فتيان القرى والأرياف
وتحدث ابن خلدون في مقدمته عن الفتيان الذين ولدوا وترعرعوا في القرى والأرياف البعيدة عن المدن والعمران، ولكن لم تتوافر لهم الفرصة للتعليم والارتقاء في مجتمعاتهم المتواضعة فكان لزامًا عليهم الهجرة والسفر من أجل الحصول على تعليم يحقق لهم طموحهم العلمي والفني، يقول ابن خلدون: «إن ما ساعد مثل هؤلاء الشباب هو ترف ما أُغدق على معاهد التعليم والتدريب في المدن من موقوفات، جعلت الهجرة إلى مراكز الحضارة من أجل طلب العلم أمراً مشروعاً»، ثم يعطى أمثلة على ذلك في بغداد وقرطبة والكوفة والبصرة والقيروان، وكل ذلك بما وفرته الأموال الموقوفة.
اعداد: عيسى القدومي