عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 25-07-2025, 11:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,532
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الجاثية
الحلقة (1240)
صــ 71 الى صــ 80





وقوله (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الجاهلين بربهم، الذين يدعونك يا محمد إلى اتباع أهوائهم، لن يغنوا عنك إن أنت اتبعت أهواءهم، وخالفت شريعة ربك التي شرعها لك من عقاب الله شيئا، فيدفعوه عنك إن هو عاقبك، وينقذوك منه.
وقوله (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يقول: وإن الظالمين بعضهم أنصار بعض، وأعوانهم على الإيمان بالله وأهل طاعته (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) يقول تعالى ذكره: والله يلي من اتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه بكفايته، ودفاع من أراده بسوء، يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام فكن من المتقين، يكفك الله ما بغاك وكادك به هؤلاء المشركون، فإنه وليّ من اتقاه، ولا يعظم عليك خلاف من خالف أمره وإن كثر عددهم، لأنهم لن يضرّوك ما كان الله وليك وناصرك.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره (هَذَا) الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ) يُبْصِرُون به الحقّ من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد، والبصائر: جمع بصيرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) قال: القرآن. قال: هذا كله إنما هو في القلب. قال: والسمع والبصر في القلب. وقرأ (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وليس ببصر الدنيا ولا بسمعها.
وقوله: (وَهُدًى) يقول: ورشاد (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بحقيقة صحة هذا القرآن، وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. وخصّ جلّ ثناؤه الموقنين بأنه لهم بصائر وهدى ورحمة، لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذب به من أهل الكفر، فكان عليه عمى وله حزنا.
وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) يقول تعالى ذكره: أم ظنّ الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا، وكذّبوا رسل الله، وخالفوا أمر ربهم، وعبدوا غيره، أن نجعلهم في الآخرة، كالذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله وعملوا الصالحات، فأطاعوا الله، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والآلهة، كلا ما كان الله ليفعل ذلك، لقد ميز بين الفريقين، فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في السعير.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) ... الآية، لعمري لقد تفرّق القوم في الدنيا، وتفرّقوا عند الموت، فتباينوا في المصير.
وقوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله (سَوَاء) فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (سَوَاءٌ) بالرفع، على أن الخبر متناه عندهم عند قوله (كَالَّذِينَ آمَنُوا) وجعلوا خبر قوله (أَنْ نَجْعَلَهُمْ قَوْلُهُ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، ثم ابتدءوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته، ومحيا الكافر ومماته، فرفعوا قوله: (سَوَاءٌ) على وجه الابتداء بهذا
المعنى، وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) قال: المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الحسن، عن شيبان، عن ليث، في قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) قال: بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا، والكافر كافرًا حيًا وميتًا.
وقد يحتمل الكلام إذا قُرئ سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن مجاهد وليث، وهو أن يوجه إلى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت، بمعنى: أنهم لا يستوون، ثم يرفع سواء على هذا المعنى، إذ كان لا ينصرف، كما يقال: مررت برجل خير منك أبوه، وحسبك أخوه، فرفع حسبك، وخير إذ كانا في مذهب الأسماء، ولو وقع موقعهما فعل في لفظ اسم لم يكن إلا نصبا، فكذلك قوله: (سواءٌ) . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (سَوَاءٌ) نصبا، بمعنى: أحسبوا أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (سَوَاءٌ) ورفعه، فقال بعض نحويي البصرة (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) رفع. وقال بعضهم: إن المحيا والممات للكفار كله، قال (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ثم قال سواء محيا الكفار ومماتهم: أي محياهم محيا سواء،
ومماتهم ممات سواء، فرفع السواء على الابتداء. قال: ومن فَسَّر المحيا والممات للكفار والمؤمنين، فقد يجوز في هذا المعنى نصب السواء ورفعه، لأن من جعل السواء مستويا، فينبغي له في القياس أن يُجريه على ما قبله، لأنه صفة، ومن جعله الاستواء، فينبغي له أن يرفعه لأنه اسم، إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل، وينصب السواء على الاستواء، وإن شاء رفع السواء إذا كان في معنى مستو، كما تقول: مررت برجل خير منك أبوه، لأنه صفة لا يصرف والرفع أجود.
وقال بعض نحويي الكوفة قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ) بنصب سواء وبرفعه، والمحيا والممات في موضع رفع بمنزلة، قوله: رأيت القوم سواء صغارهم وكبارهم بنصب سواء لأنه يجعله فعلا لما عاد على الناس من ذكرهم، قال: وربما جعلت العرب سواء في مذهب اسم بمنزلة حسبك، فيقولون: رأيت قومك سواء صغارهم وكبارهم. فيكون كقولك: مررت برجل حسبك أبوه، قال: ولو جعلت مكان سواء مستو لم يرفع، ولكن نجعله متبعا لما قبله، مخالفا لسواء، لأن مستو من صفة القوم، ولأن سواء كالمصدر، والمصدر اسم. قال: ولو نصبت المحيا والممات كان وجها، يريد أن نجعلهم سواء في محياهم ومماتهم.
وقال آخرون منهم: المعنى: أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة، ولا الممات، على أنه وقع موقع الخبر، فكان خبرا لجعلنا، قال: والنصب للأخبار كما تقول: جعلت إخوتك سواء، صغيرهم وكبيرهم، ويجوز أن يرفع، لأن سواء لا ينصرف. وقال: من قال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فجعل كالذين الخبر استأنف بسواء ورفع ما بعدها، وأن نصب المحيا والممات نصب سواء لا غير، وقد تقدّم بياننا الصواب من القول في ذلك.
وقوله (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) يقول تعالى ذكره: بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ) للعدل والحقّ، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله، من أنه يجعل من اجترح السيئات، فعصاه وخالف أمره، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، في المحيا والممات، إذ كان ذلك من فعل غير أهل العدل والإنصاف، يقول جلّ ثناؤه: فلم يخلق الله السموات والأرض للظلم والجور، ولكنا خلقناهما للحقّ والعدل. ومن الحق أن نخالف بين حكم المسيء والمحسن، في العاجل والآجل.
وقوله (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) يقول تعالى ذكره: وليثيب الله كلّ عامل بما عمل من عمل خلق السموات والأرض، المحسن بالإحسان، والمسيء بما هو أهله، لا لنبخس المحسن ثواب إحسانه، ونحمل عليه جرم غيره، فنعاقبه، أو نجعل للمسيء ثواب إحسان غيره فنكرمه، ولكن لنجزي كلا بما كسبت يداه، وهم لا يُظلمون جزاء أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) فقال بعضهم: معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ دينه بهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله، ولا يحرِّم ما حَرَّمَ، ولا يحلل ما حَللَ، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال: لا يهوي شيئا إلا ركبه لا يخاف الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: كانت قريش تعبد العُزّى، وهو حجر أبيض، حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل وعبدوا الآخر، فأنزل الله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحقّ الذي له الألوهة من كلّ شيء، لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره.
وقوله (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) يقول تعالى ذكره: وخذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي، ولو جاءته كل آية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) يقول: أضله الله في سابق علمه.
وقوله (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) يقول تعالى ذكره: وطَبَع على سمعه أن
يسمع مواعظ الله وآي كتابه، فيعتبر بها ويتدبرها، ويتفكر فيها، فيعقل ما فيها من النور والبيان والهدى.
وقوله (وَقَلْبِهِ) يقول: وطبع أيضًا على قلبه، فلا يعقل به شيئا، ولا يعي به حقا.
وقوله (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) يقول: وجعل على بصره غشاوة أن يبصر به حجج الله، فيستدّل بها على وحدانيته، ويعلم بها أن لا إله غيره.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (غِشَاوَةً) بكسر الغين وإثبات الألف فيها على أنها اسم، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (غَشْوَةً) بمعنى: أنه غشاه شيئا في دفعة واحدة، ومرّة واحدة، بفتح الغين بغير ألف، وهما عندي قراءتان صحيحتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: فمن يوفِّقه لإصابة الحقّ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أيها الناس، فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدي أبدا، ولن يجد لنفسه وليا مرشدا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم: ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) : أي لعمري هذا قول مشركي العرب.
وقوله (نَمُوتُ وَنَحْيَا) نموت نحن ونحيا وتحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم، لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء، وذلك نظير قول الناس: ما مات من خلف ابنا مثل فلان، لأنه بحياة ذكره به، كأنه حيّ غير ميت، وقد يحتمل وجها آخر، وهو أن يكون معناه: نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات، كما يقال: قمت وقعدت، بمعنى: قعدت وقمت; والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين أنهما كانا أو يكونان، ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الآخر، تقدم المتأخر حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا، فهذا من ذلك، لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر عن كون الحياة قبل الممات، فقدّم ذكر الممات قبل ذكر الحياة، إذ كان القصد إلى الخبر عن أنهم يكونون مرّة أحياء وأخرى أمواتا.
وقوله (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا: وما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر، إنكارًا منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم.
وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا دَهْرٌ يَمُرُّ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) قال: الزمان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) قال ذلك مشركو قريش (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) : إلا العمر.
وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون: الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم، وهم يرون أنهم
يسبون بذلك الدهر والزمان، فقال الله عزّ وجلّ لهم: أنا الذي أفنيكم وأهلككم، لا الدهر والزمان، ولا علم لكم بذلك.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَهُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا وَيُمِيتُنَا وَيُحْيِينا، فقال الله في كتابه: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) قال: فَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" .
حدثنا عمران بن بكار الكُلاعي، قال: ثنا أبو روح، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال; قال أبو هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ والنَّهَارُ" .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ اللَّهُ اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِني، وَسَبَّنِي عَبْدي يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ، وأنا الدَّهْرُ" .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الزهريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "إنَّ اللَّهَ قالَ: لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فإنّي أنا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارهُ، وَإذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُما" .
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن هشام، عن أبي هريرة قال: "لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فإنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، بما يقولون من ذلك من علم: يعني من يقين علم، لأنهم يقولون ذلك تخرّصا بغير خبر أتاهم من الله، ولا برهان عندهم بحقيقته (إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) يقول جلّ ثناؤه: ما هم إلا في ظنّ من ذلك، وشكّ يخبر عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) }
يقول تعالى ذكره: وإذا تُتلى على هؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث آياتنا، بأن الله باعث خلقه من بعد مماتهم، فجامعهم يوم القيامة عنده للثواب والعقاب (بَيِّنَاتٍ) يعني: واضحات جليات، تنفي الشكّ عن قلب أهل التصديق بالله في ذلك (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول جل ثناؤه: لم يكن لهم حجة على رسولنا الذي يتلو ذلك عليهم إلا قولهم له: ائتنا بآبائنا الذين قد هلكوا أحياء، وانشرهم لنا إن كنت صادقا فيما تتلو علينا وتخبرنا، حتى نصدّق بحقيقة ما تقول بأن الله باعثنا من بعد مماتنا، ومحيينا من بعد فنائنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) }




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]