عرض مشاركة واحدة
  #1199  
قديم 25-07-2025, 03:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الحادى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الزمر
الحلقة (1199)
صــ 311 الى صــ 320





وأما قوله: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله. كذلك حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس.
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبيَّنا معناه.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) يقول: إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بهم، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره: وأقبلوا أيها الناس إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة له، واستجيبوا له إلى ما دعاكم إليه من توحيده، وإفراد الألوهة له، وإخلاص العبادة له.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) : أي أقبلوا إلى ربكم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَنِيبُوا) قال: أجيبوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) قال: الإنابة: الرجوع إلى الطاعة، والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) .
وقوله: (وَأَسْلِمُوا لَهُ) يقول: واخضعوا له بالطاعة والإقرار بالدين الحنيفي (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ) من عنده على كفركم به.
(ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) يقول: ثم لا ينصركم ناصر، فينقذكم من عذابه النازل بكم.
وقوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول تعالى ذكره: واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا.
فإن قال قائل: ومن القرآن شيء وهو أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن، وليس معنى ذلك ما توهمت، وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر، والمثل، والقصص، والجدل، والوعد، والوعيد أحسنه أن تأتمروا لأمره، وتنتهوا عما نهى عنه، لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه، فذلك وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول: ما أمرتم به في الكتاب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ) قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً) يقول: من قبل أن يأتيكم عذاب الله فجأة (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) يقول: وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم فجأة.
القول في تأويل قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
يقول تعالى ذكره: وأنيبوا إلى ربكم، وأسلموا له (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) بمعنى لئلا تقول نفس (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) ، وهو نظير قوله: (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) بمعنى: أن لا تميد بكم، فأن، إذ كان ذلك معناه، في موضع نصب.
وقوله (يَا حَسْرَتَا) يعني أن تقول: يا ندما.
كما محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (يَا حَسْرَتَا) قال: الندامة، والألف في قوله (يَا حَسْرَتَا) هي كناية المتكلم، وإنما أريد: يا حسرتي، ولكن العرب تحوّل الياء فى كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا، فتقول: يا ويلتا، ويا ندما، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء، وربما قيل: يا حسرة على العباد، كما قيل: يا لهف، ويا لهفا عليه، وذكر الفراء أن أبا ثَرْوان أنشده:
تَزُورُونَهَا وَلا أزُورُ نِسَاءَكُمْ ... ألْهفَ لأوْلادِ الإماء الحَوَاطِبِ (1)
خفضا كما يخفض في النداء إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وربما أدخلوا الهاء بعد هذه الألف، فيخفضونها أحيانا، ويرفعونها أحيانا، وذكر الفراء أن بعض بني أسد أنشد:
(1)
البيت لأبي ثروان العكلي. وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 285) قال: وقوله "يا حسرتا، يا ويلتا" مضاف إلى المتكلم: يحول العرب الياء إلى الألف في كل كلام كان معناه الاستغاثة، يخرج على لفظ الدعاء. وربما قالوا: يا حسرة، كما قالوا: يا لهف على فلان، ويا لهفا عليه. قال: أنشدني أبو ثروان العكلي: تزورونها ولا أزور.... البيت "اهـ. فخفض كما يخفض المنادي إذا أضافه المتكلم إلى نفسه. والإماء: الجواري من الرقيق يتخذن للخدمة والعمل عند ساداتهم واحدها أمة. والحواطب: جمع حاطبة، وهي التي ترسل في جمع الحطب للوقود. واللهف بسكون الهاء وفتحها: الأسف والحزن والغيظ."

يَا رَبّ يا رَبَّاهُ إيَّاكَ أسَلْ ... عَفْرَاءَ يا رَبَّاهُ مِنْ قَبْلِ الأجَلْ (1)
خفضا، قال: والخفض أكثر في كلامهم، إلا في قولهم: يا هَناه، ويا هَنْتاه، فإن الرفع فيها أكثر من الخفض، لأنه كثير في الكلام، حتى صار كأنه حرف واحد.
وقوله: (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) يقول على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال. ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد في قوله (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) يقول: في أمر الله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال. ثنا ورقاء جميعا، عن أبن أبي نجيح، عن
(1)
البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 286) قال بعد كلامه الذي نقلناه في الشاهد السابق في إعراب المضاف إلى ياء المتكلم بعد حذف الياء، أو قلبها ألفا: وربما أدخلت العرب الهاء (التي للسكت) بعد الألف التي في "حسرتا" فيخفضونها مرة، ويرفعونها. قال: أنشدني أبو فقعس لبعض بن أسد: "يا رب يا رباه أسل ... البيتين" . فخفض. قال: وأنشدني أبو فقعس: يا مَرْحباهُ بِجِمارِ ناهِيةْ ... ذَا أتى قَرَّبْتُهُ للسَّانِيَهْ

والخفض أكثر في كلام العرب إلا في قولهم: يا هناه، ويا هنيتاه، والرفع في هذا أكثر من الخفض، لأنه كثير في الكلام، فكأنه حرف واحد مدعو (أي كأن اللفظ كله صار كلمة واحدة في النداء) . وفي خزانة الأدب الكبرى للبغدادي (3: 263) : وهذا من رجز أورده أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب، ولم ينسبه إلى أحد. وفيها أيضا: وقال الزمخشري في المفصل: وحق هاء السكت أن تكون ساكنة،وتحريكها لحن، نحو ما في إصلاح المنطق لابن السكيت، من قوله:
* يا مرحباه بجمار ناجيه، مما لا معرج عليه للقياس، واستعمال الفصحاء. ومعذرة من قال ذلك: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، مع تشبيه هاء الوقف بهاء الضمير. اهـ.
مجاهد، في قول الله: (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: في أمر الله.
حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد قال ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: تركت من أمر الله.
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) يقول: وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده في قوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) قال: فلم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله، قال: هذا قول صنف منهم.
حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد، قال ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) يقول: من المستهزئين بالنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبالكتاب، وبما جاء به.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) }
يقول تعالى ذكره: وأنيبوا إلى ربكم أيها الناس، وأسلموا له، أن لا تقول نفس يوم القيامة: يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله، فى أمر الله، وأن لا يقول نفس أخرى: لو أن الله هداني للحق، فوفقني للرشاد لكنت ممن اتقاه بطاعته واتباع رضاه، أو أن لا تقول أخرى حين ترى عذاب الله فتعاينه (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) تقول لو أن لي رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الذين
أحسنوا في طاعة ربهم، والعمل بما أمرتهم به الرسل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) ... الآية، قال: هذا قول صنف منهم (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي) ... الآية، قال. هذا قول صنف آخر: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ) الآية، يعني بقوله (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا، قال: هذا صنف آخر.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: أخبر الله ما العباد قائلوه قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، قال: (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي) ... إلى قوله: (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يقول: من المهتدين، فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، وقال (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) كما لم يؤمنوا به أول مرة، قال: ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
وفي نصب قوله (فَأَكُونَ) وجهان، أحدهما: أن يكون نصبه على أنه جواب لو والثاني: على الرد على موضع الكرة، وتوجيه الكرة في المعنى إلى: لو أن لي أن أكر، كما قال الشاعر:
فَمَا لَكَ مِنْهَا غيرُ ذِكْرَى وَحَسْرَةٍ ... وَتَسْألَ عَنْ رُكْبانها أيْنَ يَمَّمُوا? (1)
(1)
البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 286 من مخطوطة الجامعة) والشاهد في قوله "وتسأل" إذ يجوز فيه النصب بتقدير "أن" لعطف الفعل على اسم صريح، مثل قول ميسون بنت بحدل الكلبية زوج معاوية: "لبس عباءة وتقر عيني" أي وأن تقر عيني. ويجوز فيه أن يرفع، لأنه لم تظهر قبله "أن" . قال الفراء: قوله "لو أن لي كرة فأكون من المحسنين" : النصب في قوله "فأكون" : جواب للو. وإن شئت مردودا على تأويل "أن" تضمرها في الكثرة، كما يقولون: لو أن أكر فأكون. ومثله مما نصب على إضمار أن قوله "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل" المعنى - والله أعلم - ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا. ولو رفع "فيوحي" إذ لم يظهر أن قبله ولا معه، كان صوابا. وقد قرأ به بعض القراء. وأنشدني بعض القراء: "فما لك منها غير ذكرى وحسرة" البيت. وقال الكسائي: سمعت من العرب: "ما هي إلا ضربة من الأسد، فيحطم ظهره، أي برفع الفعل ونصبه" . اهـ.

الخ.
فنصب تسأل عطفا بها على موضع الذكرى، لأن معنى الكلام: فما لك (1) بيرسل على موضع الوحي في قوله: (إِلا وَحْيًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) }
يقول تعالى ذكره مكذبا للقائل: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، وللقائل: (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : ما القول كما تقولون (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ) أيها المتمني على الله الرد إلى الدنيا لتكون فيها من المحسنين (آيَاتِي) يقول: قد جاءتك حججي من بين رسول أرسلته إليك، وكتاب أنزلته يتلى عليك ما فيه من الوعد والوعيد والتذكير (فَكَذَبَتْ) بآياتي (وَاسْتَكْبَرْتَ) عن قبولها واتباعها (وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يقول: وكنت ممن يعمل عمل الكافرين، ويستن بسنتهم، ويتبع منهاجهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يقول الله ردًا
(1)
في الكلام سقط من الناسخ، ولعل الأصل: فما لك غير أن تذكر وتسأل: ونظيره (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل) فعطف بيرسل ...

لقولهم، وتكذيبا لهم، يعني لقول القائلين: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي) ، والصنف الآخر: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي) ... الآية.
وبفتح الكاف والتاء من قوله (قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ) على وجه المخاطبة للذكور، قرأه القرّاء في جميع أمصار الإسلام. وقد روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قرأ ذلك بكسر جميعه على وجه الخطاب للنفس، كأنه قال: أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، بلى قد جاءتك أيتها النفس آياتي، فكذّبت بها، أجرى الكلام كله على النفس، إذ كان ابتداء الكلام بها جرى، والقراءة التي لا أستجيز خلافها، ما جاءت به قرّاء الأمصار مجمعة عليه، نقلا عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهو الفتح في جميع ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) }
يقول تعالى ذكره: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى) يا محمد هؤلاء (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ) من قومك فزعموا أن له ولدا، وأن له شريكا، وعبدوا آلهة من دونه (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) ، والوجوه وإن كانت مرفوعة بمسودة، فإن فيها معنى نصب، لأنها مع خبرها تمام ترى، ولو تقدم قوله مسودة قبل الوجوه، كان نصبا، ولو نصب الوجوه المسودة ناصب في الكلام لا في القرآن، إذا كانت المسودة مؤخرة كان جائزا، كما قال الشاعر:
ذَرِيني إنَّ أمْرَكِ لَنْ يُطاعَا ... وَمَا ألْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضَاعَا (1)
(1)
البيت لعدي بن زيد، كما قال الفراء في معاني القرآن (الورقة 286) من مخطوطة الجامعة) . وهو من أبيات الكتاب لسيبويه 1: 87. ومن شواهد (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 2: 368) . وموضع الشاهد فيه: أن قوله "حلمي" بدل اشتمال من الياء في "ألفيتني" . قال ابن جني في إعراب الحماسة: "إنما يجوز البدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب، إذا كان بدل البعض أو بدل الاشتمال، نحو قولك: عجبت منك عقلك، وضربتك رأسك. اهـ. وقال في الخزانة: والبيت نسبه سيبويه لرجل من خثعم أو بجيلة، وتبعه ابن السراج في أصوله. وعزاه الفراء والزجاج، إلى عدي بن زيد العبادي. وهو الصحيح، وكذلك قال صاحب الحماسة البصرية وأورد من القصيدة بعده أبياتا. اهـ."

فنصب الحلم والمضاع على تكرير ألفيتني، وكذلك تفعل العرب في كلّ ما احتاج إلى اسم وخبر، مثل ظنّ وأخواتها، وفي "مسودّة" للعرب لغتان: مسودّة، ومسوادّة، وهي في أهل الحجاز يقولون فيما ذكر عنهم: قد اسوادّ وجهه، واحمارّ، واشهابّ. وذكر بعض نحويي البصرة عن بعضهم أنه قال: لا يكون افعالّ إلا في ذي اللون الواحد نحو الأشهب، قال: ولا يكون في نحو الأحمر، لأن الأشهب لون يحدث، والأحمر لا يحدث.
وقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ) يقول: أليس في جهنم مأوى ومسكن لمن تكبر على الله، فامتنع من توحيده، والانتهاء إلى طاعته فيما أمره ونهاه عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) }
يقول تعالى ذكره: وينجي الله من جهنم وعذابها، الذين اتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في الدنيا، بمفازتهم: يعني بفوزهم، وهي مفعلة منه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل، وإن خالفت ألفاظ بعضهم اللفظة التي قلناها في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله:
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ) قال: بفضائلهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ) قال: بأعمالهم، قال: والآخرون يحملون أوزارهم يوم القيامة (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) .
واختلفت القرّاء في ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة، وبعض قرّاء مكة والبصرة: (بِمَفَازَتِهِمْ) على التوحيد. وقرأته عامة قرّاء الكوفة: "بمفازاتهم" على الجماع.
والصواب عندي من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما، والعرب توحد مثل ذلك أحيانا وتجمع بمعنى واحد، فيقول أحدهم: سمعت صوت القوم، وسمعت أصواتهم، كما قال جل ثناؤه: (إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ، ولم يقل: أصوات الحمير، ولو جاء ذلك كذلك كان صوابا.
وقوله: (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يقول تعالى ذكره: لا يمس المتقين من أذى جهنم شيء، وهو السوء الذي أخبر جل ثناؤه أنه لن يمسهم، ولا هم يحزنون، يقول: ولا هم يحزنون على ما فاتهم من آراب الدنيا، إذ صاروا إلى كرامة الله ونعيم الجنان.
وقوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يقول تعالى ذكره: الله الذي له الألوهة من كل خلقه الذي لا تصلح العبادة إلا له، خالق كل شيء، لا ما لا يقدر على خلق شيء، وهو على كل شيء وكيل، يقول: وهو على كل شيء قيم بالحفظ والكلاءة.
القول في تأويل قوله تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]