
25-07-2025, 03:48 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الحادى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الزمر
الحلقة (1197)
صــ 291 لى صــ 300
قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) قال: هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتمونا، فاتبعنا ما فيه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره عنى بقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) كلّ من دعا إلى توحيد الله، وتصديق رسله، والعمل بما ابتعث به رسوله من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به، وأن يقال: الصدق هو القرآن، وشهادة أن لا إله إلا الله، والمصدّق به: المؤمنون بالقرآن، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن قوله تعالى ذكره: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) عَقيب قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) وذلك ذم من الله للمفترين عليه، المكذبين بتنزيله ووحيه، الجاحدين وحدانيته، فالواجب أن يكون عَقيب ذلك مدح من كان بخلاف صفة هؤلاء المذمومين، وهم الذين دعوهم إلى توحيد الله، ووصفه بالصفة التي هو بها، وتصديقهم بتنزيل الله ووحيه، والذي كانوا يوم نزلت هذه الآية، رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ومن بعدهم، القائمون في كل عصر وزمان بالدعاء إلى توحيد الله، وحكم كتابه، لأن الله تعالى ذكره لم يخص وصفه بهذه لصفة التي في هذه الآية على أشخاص بأعيانهم، ولا على أهل زمان دون غيرهم، وإنما وصفهم بصفة، ثم مدحهم بها، وهي المجيء بالصدق والتصديق به، فكل من كان كذلك وصفه فهو داخل في جملة هذه الآية إذا كان من بني آدم.
ومن الدليل على صحة ما قلنا أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. "وَالَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ" فقد بين ذلك من قراءته أن الذي من قوله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) لم يعن بها واحد بعينه، وأنه مراد بها جِمَاع ذلك صفتهم، ولكنها أخرجت بلفظ الواحد، إذ لم تكن موقتة. وقد زعم بعض أهل العربية من البصريين، أن "الذي" في هذا الموضع جُعل في معنى جماعة بمنزلة "مَن" . ومما يؤيد ما قلنا أيضا قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فجعل الخبر عن "الذي" جماعا، لأنها في معنى جماع. وأما الذين قالوا: عني بقوله: (وَصَدَّقَ بِهِ) : غير الذي جاء بالصدق، فقول بعيد من المفهوم، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان التنزيل: والذي جاء بالصدق، والذي صدق به أولئك هم المتقون، فكانت تكون "الذي" مكررة مع التصديق، ليكون المصدق غير المصدق، فأما إذا لم يكرّر، فإن المفهوم من الكلام، أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدق، لا وجه للكلام غير ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت "الذي" في معنى الجماع بما قد بيَّنا، كان الصواب من القول في تأويله ما بيَّنا.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم. هم الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد، وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فخافوا عقابه.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يقول: اتقوا الشرك.
وقوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقول تعالى ذكره: لهم عند ربهم يوم القيامة، ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم (ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي لهم عند ربهم، جزاء من أحسن في الدنيا فأطاع الله فيها، وائتمر لأمره، وانتهى عما نهاه فيها عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره: وجزى هؤلاء المحسنين ربهم بإحسانهم، كي يكفر
عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال، فيما بينهم وبين ربهم، بما كان منهم فيها من توبة وإنابة مما اجترحوا من السيئات فيها (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) يقول: ويثيبهم ثوابهم (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا) في الدنيا (يَعْمَلُونَ) مما يرضى الله عنهم دون أسوئها.
كما يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) : أي (1) ولهم ذنوب، أي رب نعم (لَهُمْ) فيها (مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقرأ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ... إلى أن بلغ (وَمَغْفِرَةٌ) لئلا ييأس من لهم الذنوب أن لا يكونوا منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 4] ، وقرأ: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) ... إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) }
اختلفت القرّاء في قراءة: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء أهل الكوفة: "أليس الله بكاف عباده" على الجماع، بمعنى: أليس الله بكاف محمدا وأنبياءه من قبله ما خوّفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء، وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة: (بِكَافٍ عَبْدَهُ) على التوحيد، بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدا.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار.
(1) في الأصل: ألهم ذنوب، وهو استفهام لا معنى له في هذا المقام، وقد أصلحناه على هذا النحو، ليتفق مع ما تضمنه الحديث.
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لصحة مَعْنَيَيْهَا واستفاضة القراءة بهما في قَرَأَةِ الأمصار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) يقول: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) قال: بلى، والله ليكفينه الله ويعزّه وينصره كما وعده.
وقوله: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) الآلهة، قال: "بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام (1) ليكسر العزّى، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها" .
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يقول: بآلهتهم التي كانوا يعبدون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(1) سقام كغراب: واد بالحجاز، حمته قريش للعزى، يضاهئون به حرم الكعبة. اهـ من معجم ياقوت.
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) قال: يخوّفونك بآلهتهم التي من دونه.
وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله فيضلَّه عن طريق الحق وسبيل الرشد، فما له سواه من مرشد ومسدّد إلى طريق الحقّ، ومُوفِّق للإيمان بالله، وتصديق رسوله، والعمل بطاعته (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) يقول: ومن يوفِّقه الله للإيمان به، والعمل بكتابه، فما له من مضلّ، يقول: فما له من مزيغ يزيغه عن الحق الذي هو عليه إلى الارتداد إلى الكفر (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) يقول جل ثناؤه: أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه من كفرة خلقه، ذي انتقام من أعدائه الجاحدين وحدانيته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين العادلين بالله الأوثان والأصنام: مَنْ خلق السموات والأرض؟ ليقولن: الذي خلقه الله، فإذا قالوا ذلك، فقل: أفرأيتم أيها القوم هذا الذي تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ) يقول: بشدة في معيشتي، هل هن كاشفات عني ما يصيبني به ربي من الضر؟ (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ) يقول: إن أرادني برحمة أن يصيبني سعة في معيشتي، وكثرة مالي، ورخاء وعافية في بدني، هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك الرحمة؟ وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه. والمعنى:
فإنهم سيقولون لا فقل: حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها، إياه أعبد، وإليه أفزع في أموري دون كلّ شيء سواه، فإنه الكافي، وبيده الضر والنفع، لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يقول: على الله يتوكل من هو متوكل، وبه فليثق لا بغيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
بشر، قال: ثنا. يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) حتى بلغ (كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) يعني: الأصنام (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه)
واختلفت القرّاء في قراءة (كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) و (مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) ، فقرأه بعضهم بالإضافة وخفض الضر والرحمة، وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء البصرة بالتنوين، ونصب الضر والرحمة.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مشهورتان، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وهو نظير قوله: (كَيْدِ الْكَافِرِينَ) فى حال الإضافة والتنوين.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك، الذي اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون الله اعملوا أيها القوم على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى مَكَانَتِكُمْ) قال: على ناحيتكم (إِنِّي عَامِلٌ) كذلك على تؤدة على عمل من سلف من أنبياء الله قبلي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا جاءكم بأس الله، من المحقّ منا من المبطل، والرشيد من الغويّ.
وقوله: (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ) يقول تعالى ذكره: من يأتيه عذاب يخزيه، ما أتاه من ذلك العذاب، يعني: يذله ويهينه (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) يقول: وينزل عليه عذاب دائم لا يفارقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنا أنزلنا عليك يا محمد الكتاب تبيانا للناس بالحقّ (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ) يقول: فمن عمل بما في الكتاب الذي أنزلناه إليه واتبعه فلنفسه، يقول: فإنما عمل بذلك لنفسه، وإياها بغى الخير لا غيرها، لأنه أكسبها رضا الله والفوز بالجنة، والنجاة من النار. (وَمَنْ ضَلَّ) يقول: ومن جار عن الكتاب الذي أنزلناه إليك، والبيان الذي بيَّناه لك، فضل عن قصد المحجة، وزال عن سواء السبيل، فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك، لأنه يكسبها سخط الله، وأليم عقابه، والخزي الدائم. (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) يقول تعالى ذكره: وما أنت يا محمد على من أرسلتك إليه من الناس برقيب ترقب أعمالهم، وتحفظ عليهم أفعالهم، إنما أنت رسول، وإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بحفيظ.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) قال: بحفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره: ومن الدلالة على أن الألوهة لله الواحد القهار خالصة دون كلّ ما سواه، أنه يميت ويحيي، ويفعل ما يشاء، ولا يقدر على ذلك شيء سواه، فجعل ذلك خبرا نبههم به على عظيم قُدرته، فقال: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) فيقبضها عند فناء أجلها، وانقضاء مدة حياتها، ويتوفى أيضا التي لم تمت في منامها، كما التي ماتت عند مماتها (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ذكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى وذلك إلى انقضاء مدة حياتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، في قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) ... الآية. قال: يجمع بين أرواح الأحياء، وأرواح الأموات، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويُرسل الأخرى إلى أجسادها.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السديّ، في قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) قال: تقبض الأرواح عند نيام النائم، فتقبض روحه في منامه، فتلقى الأرواح بعضها بعضا: أرواح الموتى وأرواح النيام، فتلتقي فتساءل، قال: فيخلي عن أرواح الأحياء، فترجع إلى أجسادها، وتريد الأخرى أن ترجع، فيحبس التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، قال: إلى بقية آجالها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) قال: فالنوم وفاة (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى) التي لم يقبضها (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعدُ نَفس هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبر، وبيانا له أن الله يحيي من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم. وقوله: (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، ولا يعقلون شيئا، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك، وتشفع لكم عند الله، فأخلصوا عبادتكم لله، وأفردوه بالألوهة، فإن الشفاعة
جميعا له، لا يشفع عنده إلا من أذن له، ورضي له قولا وأنتم متى أخلصتم له العبادة، فدعوتموه، وشفعكم (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ، يقول: له سلطان السموات والأرض ومُلكها، وما تعبدون أيها المشركون من دونه له، يقول: فاعبدوا الملك لا المملوك الذي لا يملك شيئا. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول: ثم إلى الله مصيركم، وهو معاقبكم على إشراككم به، إن متم على شرككم.
ومعنى الكلام: لله الشفاعة جميعا، له مُلك السموات والأرض، فاعبدوا المالك الذي له مُلك السموات والأرض، الذي يقدر على نفعكم في الدنيا، وعلى ضركم فيها، وعند مرجعكم إليه بعد مماتكم، فإنكم إليه ترجعون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ) الآلهة (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا) الشفاعة.
حدثني محمد بن عمرو، قال. ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) قال: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) }
يقول تعالى ذكره: وإذا أفرد الله جل ثناؤه بالذكر، فدعي وحده، وقيل لا إله إلا الله، اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات. وعنى بقوله: (اشْمَأَزَّتْ) : نفرت من توحيد الله. (وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)
يقول: وإذا ذُكر الآلهة التي يدعونها من دون الله مع الله، فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، إذ الذين لا يؤمنون بالآخرة يستبشرون بذلك ويفرحون.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|