
25-07-2025, 03:39 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الحادى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الزمر
الحلقة (1194)
صــ 261 لى صــ 270
وقوله: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) يقول: وإن تومنوا بربكم وتطيعوه يرض شكركم له، وذلك هو إيمانهم به وطاعتهم إياه، فكنى عن الشكر ولم يُذْكر، وإنما ذكر الفعل الدالّ عليه، وذلك نظير قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) بمعنى: فزادهم قول الناس لهم ذلك إيمانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) قال: إن تطيعوا يرضه لكم.
وقوله: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يقول: لا تأثم آثمة إثم آثمة أخرى غيرها، ولا تؤاخذ إلا بإثم نفسها، يعلم عز وجل عباده أن على كل نفس ما جنت، وأنها لا تؤاخذ بذنب غيرها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) قال: لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
وقوله: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره: ثم بعد اجتراحكم في الدنيا ما اجترحتم من صالح وسيئ، وإيمان وكفر أيها الناس، إلى ربكم مصيركم من بعد وفاتكم، (فَيُنَبِّئُكُمْ) يقول: فيخبركم بما كنتم في الدنيا تعملونه من خير وشر، فيجازيكم على كل ذلك جزاءكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بما يستحقه، يقول عز وجل لعباده: فاتقوا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا بما لا يرضاه منكم فتهلكوا، فإنه لا يخفى عليه عمل عامل منكم.
وقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول تعالى ذكره: إن الله لا يخفى عليه ما أضمرته صدوركم أيها الناس مما لا تدركه أعينكم، فكيف بما أدركته العيون ورأته الأبصار. وإنما يعني جلّ وعزّ بذلك الخبر عن أنه لا يخفى عليه شيء، وأنه محص على عباده أعمالهم، ليجازيهم بها كي يتقوه في سرّ أمورهم وعلانيتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) }
يقول تعالى ذكره: وإذا مَسَّ الإنسان بلاء في جسده من مرض، أو عاهة، أو شدّة في معيشته، وجهد وضيق (دَعَا رَبَّهُ) يقول: استغاث بربه الذي خلقه من شدة ذلك، ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدة ذلك. وقوله: (مُنِيبًا إِلَيْهِ) يقول: تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به، وإشراك الآلهة والأوثان به في عبادته، راجعا إلى طاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ) قال: الوجع والبلاء والشدّة (دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) قال: مستغيثا به.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) يقول تعالى ذكره: ثم إذا منحه ربه نعمة منه، يعني عافية، فكشف عنه ضرّه، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاء.
والعرب تقول لكلّ من أعطى غيره من مال أو غيره: قد خوّله، ومنه قول أبي النجْم العِجْلِيّ:
أعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّل ... كُومَ الذرَا مِنْ خَوَلِ المَخَوِّلِ (1)
وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى أنه قال: سمعت أبا عمرو يقول في بيت زُهَيْر:
هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْوِلوا ... وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطوا وَإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا (2)
قال معمر: قال يونس: إنما سمعناه:
هُنَالكَ إنْ يُسْتَخْبِلُوا المَالَ يُخْبِلوا (3)
قال: وهي بمعناها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (ثُمَّ إِذَا
(1) البيت لأبي النجم العجلى الراجز المشهور (اللسان: خول) . وهو يمدح إنسانا أنه أعطى من سأله النوق السمينة العالية السنام والذرا: جمع ذروة، وهو أعلى الشيء. وهي مما خوله الله ومنحه، وكان عطاؤه كثيرا، فلم يبخل به، ولم ينسبه أحد إلى البخل. والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورثة 216) ، عند قوله تعالى: "ثم إذا خوله نعمة منه" : كل مال لك، وكل شيء أعطيته فقد خولته؛ قال أبو النجم: "أعطى فلم يبخل ... البيت"
(2) البيت لزهير بن أبي سلمى المزني (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ص 239) والرواية فيه "يستخلبوا" في موضوع يستخولوا قال في اللسان: والاستخوال أيضا مثل الاستخبال، من أخبلته المال: إذا أعرته ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها، أو فرسا يغزو عليه. ومنه قول زهير: "هنالك إن يستخولوا المال ... البيت" . ومعنى ييسروا: يقامروا. ويغلوا: يختاروا سمان الإبل بالثمن الغالي، ويقامروا عليها. والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (216 ب) قال: وسمعت أبا عمرو يقول في بيت زهير "هنالك ... الخ" : قال يونس: إنما سمعناه: "هنالك إن يستخلبوا المال" . أي يخبلوا: وهو بمعناها.
(3) تقدم الكلام على رواية هذا الشطر من بيت زهير بن أبي سلمى في الشاهد الذي قبله.
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) : إذا أصابته عافية أو خير.
وقوله: (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يقول: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) يعني: شركاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (نَسِيَ) يقول: ترك، هذا في الكافر خاصة.
ولـ "ما" التي في قوله: (نَسِيَ مَا كَانَ) وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى الذي، ويكون معنى الكلام حينئذ: ترك الذي كان يدعوه في حال الضر الذي كان به، يعني به الله تعالى ذكره، فتكون "ما" موضوعة عند ذلك موضع "من" كما قيل: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) يعني به الله، وكما قيل: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) . والثاني: أن يكون بمعنى المصدر على ما ذكرت. وإذا كانت بمعنى المصدر، كان في الهاء التي في قوله: (إِلَيْهِ) وجهان: أحدهما: أن يكون من ذكر ما. والآخر: من ذكر الربّ.
وقوله: (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) يقول: وجعل لله أمثالا وأشباها.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا، قال بعضهم: جعلوها له أندادا في طاعتهم إياه في معاصي الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) قال: الأنداد من الرجال: يطيعونهم في معاصي الله.
وقال آخرون: عنى بذلك أنه عبد الأوثان، فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى به أنه أطاع الشيطان
في عبادة الأوثان، فحصل له الأوثان أندادا، لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها.
وقوله: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) يقول: ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به عن توحيده، والإقرار به، والدخول في الإسلام. وقوله: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لفاعل ذلك: تمتع بكفرك بالله قليلا إلى أن تستوفي أجلك، فتأتيك منيتك (إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) : أي إنك من أهل النار الماكثين فيها. وقوله: (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) : وعيد من الله وتَهَدُّدٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (9) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَمِنَ) فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين: "أمن" بتخفيف الميم، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون الألف في "أمَّنْ" بمعنى الدعاء، يراد بها: يا من هو قانت آناء الليل، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا، فتقول: أزيد أقبل، ويا زيد أقبل، ومنه قول أوس بن حجر:
أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُم بِيَدٍ ... إلا يَدٌ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ (1)
(1) تقدم الاستشهاد بالبيت في الجزء (14: 110) وشرحناه شرحا مفصلا، فراجعه ثمة. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 284) وموضع الاستشهاد به في هذا الموضع أن العرب تنادي بالهمزة، كما تنادي بيا. قال الفراء: عند قوله تعالى "أم من هو قانت آناء الليل" قرأها يحيي بن وثاب بالتخفيف. وذكر ذلك عن نافع وحمزة، وفسروها: يريد: يا من هو قانت، وهو وجه حسن. العرب تدعو بألف كما يدعون بيا، فيقولون: يا زيد أقبل، وأزيد أقبل؛ قال الشاعر: "أبني لبيني ... البيت" وقال آخر: "أضمر بن ضمرة ... البيت" . وهو كثير في الشعر، فيكون المعنى مردودا بالدعاء، كالمنسوق، لأنه ذكر الناسي الكافر، ثم قص قصة الصالح بالنداء، كما تقول في كلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر. فهذا هو معناه. وقد تكون الألف استفهاما، وبتأويل أم، لأن العرب قد تضع "أم" في موضع الألف، إذا سبقها كلام، وقد وصفت من ذلك ما يكتفي به، فيكون المعنى أمن هو قانت؟ كالأول الذي ذكر بالنسيان والكفر. ومن قرأها بالتشديد، فإنه يريد معنى الألف وهو الوجه: أن تجعل "أم" إذا كانت مردودة على معنى قد سبق، قلتها بأم. وقد قرأها الحسن وعاصم وأبو جعفر المدني، يريدون "أم من هو" فقد تبين في الكلام أنه مضمر قد جرى معناه في أول الكلمة، إذ ذكر الضال، ثم ذكر المهتدي بالاستفهام فهو دليل على أنه يريد: أهذا مثل هذا؟ أو أهذا أفضل؟ ومن لم يعرف مذاهب العرب، ويتبين له المعنى في هذا وشبهه، لم يكتف ولم يشتف. اهـ.
وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام: قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة، ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة، الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن، إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا، ومعقولا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة، فحذف الخبر عما له، اكتفاءً بفهم السامع المراد منه من ذكره، إذ كان قد دلّ على المحذوف بالمذكور. والثاني: أن تكون الألف التي في قوله: "أمن" ألف استفهام، فيكون معنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضلّ عن سبيله، ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه، إذ كان مفهوما المراد بالكلام، كما قال الشاعر:
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا (1)
فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده. وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: (أمَّن) بتشديد الميم، بمعنى: أم من هو؟ ويقولون: إنما هي (أمَّن) استفهام اعترض في الكلام بعد
(1) تقدم الاستشهاد بالبيت وشرحناه مفصلا في الجزء (12: 18) فراجعه ثمة. وقد أورده الفراء في معاني القرآن (الورقة 284) بعقب كلامه الذي نقلناه عنه في الشاهد السابق على هذا، قال: ألا ترى قول الشاعر "فأقسم لو شيء أتانا رسوله.... البيت" أن معناه: لو أتانا رسول غيرك لدفعناه، فعلم المعنى ولم يظهر. وجرى قوله "أفمن شرح الله صدره للإسلام" على مثل هذا.
كلام قد مضى، فجاء بأم، فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخبر عن فريق الكفر، وما أعدّ له في الآخرة، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان، فعلم بذلك المراد، فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره، إذ كان معقولا أن معناه: هذا أفضل أم هذا؟.
والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القرّاء مع صحة كل واحدة منهما في التأويل والإعراب، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره، فكان بعضهم يقول: هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثني، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله، أنه قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا سُئل عن القنوت، قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام، وقرأ: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)
وقال آخرون: هو الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) يعني بالقنوت: الطاعة، وذلك أنه قال: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ... إلى (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قال: مطيعون.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) قال: القانت: المطيع.
وقوله: (آنَاءَ اللَّيْلِ) يعني: ساعات الليل.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) أوله، وأوسطه، وآخره.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (آنَاءَ اللَّيْلِ) قال: ساعات الليل.
وقد مضى بياننا عن معنى الآناء بشواهده، وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (سَاجِدًا وَقَائِمًا) يقول: يقنت ساجدا أحيانا، وأحيانا قائما، يعني: يطيع، والقنوت عندنا الطاعة، ولذلك نصب قوله: (سَاجِدًا وَقَائِمًا) لأن معناه: أمَّن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا، وقائما طورا، فهما حال من قانت.
وقوله: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ) يقول: يحذر عذاب الآخرة. كما حدثنا عليّ بن الحسن الأزديّ. قال: ثنا يحيى بن اليمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، في قوله: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ) قال: يحذر عقاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه، يقول: ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة.
وقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون بسيئها شرا؟ يقول: ما هذان بمتساويين.
وقد رُوي عن أبي جعفر محمد بن عليّ في ذلك ما حدثني محمد بن خلف، قال: ثني نصر بن مزاحم، قال: ثنا سفيان الجريري، عن سعيد بن أبي مجاهد، عن جابر، عن أبي جعفر، رضوان الله عليه (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) قال: نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون.
وقوله: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) يقول تعالى ذكره: إنما يعتبر حجج الله، فيتعظ، ويتفكر فيها، ويتدبرها أهل العقول والحجى، لا أهل الجهل والنقص في العقول.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (قُلْ) يا محمد لعبادي الذين آمنوا: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله، وصدقوا رسوله (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) بطاعته واجتناب معاصيه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة)
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: للذين أطاعوا الله حسنة في هذه الدُّنْيا، وقال "في" من صلة حسنة، وجعل معنى الحسنة: الصحة والعافية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) قال: العافية والصحة.
وقال آخرون "في" من صلة أحسنوا، ومعنى الحسنة: الجنة.
وقوله: (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) يقول تعالى ذكره: وأرض الله فسيحة واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد، قوله: (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) فهاجروا واعتزلوا الأوثان.
وقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول تعالى ذكره:
إنما يعطي الله أهل الصبر على ما لقوا فيه في الدنيا أجرهم في الآخرة بغير حساب، يقول: ثوابهم بغير حساب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) لا والله ما هُناكم مكيال ولا ميزان.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) قال: في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: إن الله أمرني أن أعبده مفردا له الطاعة، دون كلّ ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد (وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) : يقول: وأمرني ربي جل ثناؤه بذلك، لأن أكون بفعل ذلك أوَّل من أسلم منكم، فخضع له بالتوحيد، وأخلص له العبادة، وبريء من كل ما دونه من الآلهة. وقوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : يقول تعالى ذكره: قال يا محمد لهم إني أخاف إن عصيت ربي فيما أمرني به من عبادته، مخلصا له الطاعة، ومفرده بالربوبية. (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : يعني عذاب يوم القيامة، ذلك هو اليوم الذي يعظم هوله.
القول في تأويل قوله تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|