عرض مشاركة واحدة
  #1093  
قديم 23-07-2025, 07:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ النمل
الحلقة (1093)
صــ 431 لى صــ 440






وقوله: (وَلَّى مُدْبِرًا) يقول تعالى ذكره: ولى موسى هاربا خوفا منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) يقول: ولم يرجع. من قولهم: عقب فلان: إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَلَمْ يُعَقِّبْ) قال: لم يرجع.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، عن قتادة، قال: لم يلتفت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَمْ يُعَقِّبْ) قال: لم يرجع (يَامُوسَى) قال: لما ألقى العصا صارت حية، فرعب منها وجزع، فقال الله: (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) قال: فلم يرعو لذلك، قال: فقال الله له: (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ) قال: فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال: (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى) قال: فالتفت فإذا هي عصا كما كانت، فرجع فأخذها، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها.
وقوله: (يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ) يقول تعالى ذكره: فناداه ربه: يا موسى لا تخف من هذه الحية، إني لا يخاف لديّ المرسلون. يقول: إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة، إلا من ظلم منهم، فعمل بغير الذي أذن له في العمل به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قوله: (يَامُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) قال: لا يخيف الله الأنبياء
إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبد الله الفزاري، عن عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر، عن الحسن، قال: قوله: (يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ) قال: إني إنما أخفتك لقتلك النفس، قال: وقال الحسن: كانت الأنبياء تذنب فتعاقب.
واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله: (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) بقوله: (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) .وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله: ما قام إلا زيد، فزيد مثبت له القيام، لأنه مستثنى مما قبل إلا وما قبل إلا منفيّ عنه القيام، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم: قام القوم إلا زيدًا; فزيد منفيّ عنه القيام; ومعناه: إن زيدًا لم يقم، القوم مثبت لهم القيام (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين، فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت إلا في هذا الموضع؛ لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام، كمثل قول العرب: ما أشتكي إلا خيرا، فلم يجعل قوله: إلا خيرا على الشكوى، ولكنه علم أنه إذا قال: ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا، كأنه قال: ما أذكر إلا خيرا.
وقال بعض نحويي الكوفة يقول القائل: كيف صير خائفا من ظلم، ثم بدّل حسنا بعد سوء، وهو مغفور له؟ فأقول لك: في هذه الآية وجهان: أحدهما أن يقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة، ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو، فهذا وجه. والآخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة، لأن المعنى: لا يخاف لديّ المرسلون، إنما الخوف على من سواهم، ثم استثنى فقال: (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا) يقول: كان مشركا، فتاب من الشرك، وعمل حسنا، فذلك مغفور له، وليس يخاف. قال: وقد قال بعض النحويين: إن إلا في اللغة بمنزلة الواو، وإنما معنى هذه الآية: لا يخاف لديّ المرسلون، ولا من ظلم ثم بدّل حسنا، قال: وجعلوا مثله كقول الله: (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) قال: ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأني لا أجيز: قام الناس إلا عبد الله، وعبد الله قائم، إنما
معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا. وقد أراه جائزا أن يقول: لي عليك ألف سوى ألف آخر; فإن وضعت إلا في هذا الموضع صلحت، وكانت إلا في تأويل ما قالوا، فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو، وليست بها قوله (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) هو في المعنى. والذي شاء ربك من الزيادة، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو، ولكن بمنزلة سوى; فإذا كانت "سوى" في موضع "إلا" صلحت بمعنى الواو، لأنك تقول: عندي مال كثير سوى هذا: أي وهذا عندي، كأنك قلت: عندي مال كثير وهذا أيضا عندي، وهو في سوى أبعد منه في إلا لأنك تقول: عندي سوى هذا، ولا تقول: عندي إلا هذا.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ) عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما، وهو أن قوله: (إِلا مَنْ ظُلِمَ) استثناء صحيح من قوله (لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ) منهم فأتى ذنبا، فإنه خائف لديه من عقوبته، وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك، وهو قوله قال: إني إنما أخفتك لقتلك النفس.
فإن قال قائل فما وجه قيله إن كان قوله (إِلا مَنْ ظُلِمَ) استثناء صحيحا، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة؟ قيل: إن قوله: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) كلام آخر بعد الأوّل، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم، ومن لم يظلم عند قوله (إِلا مَنْ ظُلِمَ) ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل، وسائر الناس غيرهم، وقيل: فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم.
فإن قال قائل: فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت ب (ثُمَّ) إن لم يكن عطفا على قوله: (ظَلَمَ) ؟ قيل: على متروك استغني بدلالة قوله (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) عليه عن إظهاره، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره، وهو فمن ظلم من الخلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية، فقد قالوا على مذهب العربية، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل. وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه
من التأويل، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل.
وقوله: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) يقول تعالى ذكره: فمن أتى ظلما من خلق الله، وركب مأثما، ثم بدل حسنا، يقول: ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم، (فَإِنِّي غَفُورٌ) يقول: فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه، وترك عقوبته عليه (رَحِيمٌ) به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) ثم تاب من بعد إساءته (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لنبيه موسى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) ذكر أنه تعالى ذكره أمره أن يدخل كفه في جيبه; وإنما أمره بإدخاله في جيبه، لأن الذي كان عليه يومئذ مِدرعة من صوف. قال بعضهم: لم يكن لها كُمٌّ. وقال بعضهم: كان كمها إلى بعض يده.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) قال: الكف فقط في جيبك، قال: كانت مدرعة إلى بعض يده، ولو كان لها كُمٌّ أمره أن يدخل يده في كمه.
قال: ثني حجاج، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن عمرو بن ميمون قال: قال ابن مسعود: إن موسى أتى فرعون حين أتاه في ذُرْ مانقة، يعني جبة صوف.
وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) يقول: تخرج اليد بيضاء بغير لون موسى (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يقول: من غير برص (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) ، يقول تعالى ذكره: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء، فهي آية في تسع آيات مُرسل أنت بهنّ إلى فرعون; وترك ذكر مرسل لدلالة قوله (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) على أن ذلك معناه، كما قال الشاعر:
رأتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مخافَةً ... وفِي الحَبْلِ رَوْعاءُ الفُؤَادِ فَرُوقُ (1)
ومعنى الكلام: رأتني مقبلا بحبليها، فترك ذكر "مقبل" استغناء بمعرفة السامعين معناه في ذلك، إذ قال: رأتني بحبليها; ونظائر ذلك في كلام العرب كثيرة.
والآيات التسع: هنّ الآيات التي بيَّناهنّ فيما مضى.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) قال: هي التي ذكر الله في القرآن: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والطوفان، والدم، والحجر، والطمس الذي أصاب آل فرعون في أموالهم.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) يقول: إن فرعون وقومه من القبط كانوا قوما فاسقين، يعني كافرين بالله، وقد بيَّنا معنى الفسق فيما مضى.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) }
(1)
سبق الكلام مفصلا على هذا الشاهد في الجزء (7: 113) وهو لحميد بن ثور الهلالي. وانظره في (اللسان: حبل) وفرق. وفي الأساس (روع) . وفي معاني القرآن للفراء (الورقة 232) قال الفراء أراد رأتني أقبلت بحبليها: بحبلى الناقة، فأضمر فعلا، كأنه قال: رأتني مقبلا

القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاءت فرعون آياتنا، يعني: أدلتنا وحججنا، على حقيقة ما دعاهم إليه موسى وصحته، وهي الآيات التسع التي ذكرناها قبل. وقوله (مُبْصِرَةً) يقول: يبصر بها من نظر إليها ورآها حقيقة ما دلت عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) قال: بينة (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، يقول: قال فرعون وقومه: هذا الذي جاءنا به موسى سحر مبين، يقول: يبين للناظرين له أنه سحر.
وقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا) يقول: وكذبوا بالآيات التسع أن تكون من عند الله.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (وَجَحَدُوا بِهَا) قال: الجحود: التكذيب بها. وقوله: (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) يقول: وأيقنتها قلوبهم، وعلموا يقينا أنها من عند الله، فعاندوا بعد تبينهم الحق، ومعرفتهم به.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) قال: يقينهم في قلوبهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) قال: استيقنوا أن الآيات من الله حق، فلم جحدوا بها؟ قال: ظلما وعلوّا.
وقوله: (ظُلْمًا وَعُلُوًّا) يعني بالظلم: الاعتداء، والعلو: الكبر، كأنه قيل: اعتداء وتكبرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، في قوله: (ظُلْمًا وَعُلُوًّا) قال: تعظما واستكبارا، ومعنى ذلك: وجحدوا بالآيات التسع ظلما وعلوّا، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، فعاندوا الحقّ بعد وضوحه لهم، فهو من المؤخر الذي معناه التقديم.
وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) .
ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد بعين قلبك
كيف كان عاقبة تكذيب هؤلاء الذين جحدوا آياتنا حين جاءتهم مبصرة، وماذا حل بهم من إفسادهم في الأرض ومعصيتهم فيها ربهم، وأعقبهم ما فعلوا، فإن ذلك أخرجهم من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، إلى هلاك في العاجل بالغرق، وفي الآجل إلى عذاب دائم لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. يقول: وكذلك يا محمد سنتي في الذين كذّبوا بما جئتهم به من الآيات على حقيقة ما تدعوهم إليه من الحق من قومك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) وذلك علم كلام الطير والدواب، وغير ذلك مما خصهم الله بعلمه. (وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) يقول جلّ ثناؤه: وقال داود وسليمان: الحمد لله الذي فضلنا بما خصنا به من العلم الذي آتاناه، دون سائر خلقه من بني آدم في زماننا هذا على كثير من عباده المؤمنين به في دهرنا هذا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) }
يقول تعالى ذكره: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ) أباه (دَاودَ) العلم الذي كان آتاه الله في حياته، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه داود دون سائر ولد أبيه (وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) يقول: وقال سليمان لقومه: يا أيها الناس علمنا منطق الطير، يعني فهمنا كلامها; وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها.
وقد حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب: (وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) قال: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ: خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب; فيها ثلاث مائة صريحة، وسبع مائة سرية، فأمر الريح العاصف فرفعته، وأمر الرخاء
فسيرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد أردت أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرته. وقوله: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يقول: وأعطينا ووهب لنا من كلّ شيء من الخيرات (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) يقول: إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا المبين، يقول: الذي يبين لمن تأمَّله وتدبره أنه فضل أعطيناه على من سوانا من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره: وجمع لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطير في مسير لهم، فهم يوزعون.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله (فَهُمْ يُوزَعُونَ) فقال بعضهم: معنى ذلك: فهم يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: جعل على كل صنف من يرد أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير، كما تصنع الملوك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، عن قَتادة في قوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال: يردّ أوّلهم على آخرهم.
وقال آخرون: معنى ذلك فهم يساقون.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال: يوزعون: يُساقون.
وقال آخرون: بل معناه: فهم يتقدمون.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، قال: قال الحسن: (يُوزَعُونَ) يتقدمون.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: يردّ أوّلهم على آخرهم; وذلك أن الوازع في كلام العرب هو الكافّ، يقال منه: وزع فلان فلانا عن الظلم: إذا كفَّه عنه، كما قال الشاعر:
أَلَمْ يَزَعِ الهَوَى إذْ لَمْ يُؤَاتِ ... بَلى وَسَلَوْت عَنْ ضَلَب الفَتاة (1)
وقال آخر:
عَلى حِينَ عاتَبْتُ الْمَشيبَ عَلى الصّبا ... وقُلْتُ ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازع (2)
وإنما قيل للذين يدفعون الناس عن الولاة والأمراء: وزعة: لكفهم إياهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ) حتى إذا أتى سليمان وجنوده على وادي النمل (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ) يقول: لا يكسرنكم ويقتلنكم سليمان وجنوده (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يقول: وهم لا يعلمون أنهم يحطمونكم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل يقال له الحكم، عن عوف في قوله: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ) قال: كان نمل سليمان بن داود مثل الذباب.
القول في تأويل قوله تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
(1)
الوزع: كف النفس عن هواها. وزعه وبه يزع (بفتح الزاي وكسرها) وزعًا كفه، ويؤات يوافق. قال في اللسان: واتاه على الأمر: طاوعه. والمؤاتاة: حسن المطاوعة وآتيته على ذلك الأمر مؤاتاه: إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول: واتَيْتُهُ. ولا تقل. واتَيْتُهُ. إلا في لغة لأهل اليمن ومثله آسيت، وآكلت، وآمرت وإنما جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة

(2)
البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر (مختار الشعر لجاهلي شرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي 156 وما بعدها) قال صحا: أفاق والوازع الكاف الزاجر عن اللهو والصبا الصبوة، والميل إلى التشبه بأعمال الصبيان من الطيش واللهو

تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
يقول تعالى ذكره: فتبسم سليمان ضاحكا من قول النملة التي قالت ما قالت، وقال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) يعني بقوله (أَوْزِعْنِي) ألهمني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) يقول: اجعلني.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) قال: في كلام العرب، تقول: أوزع فلان بفلان، يقول: حرض عليه. وقال ابن زيد: (أوْزِعْني) ألهمني وحرّضني على أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ.
وقوله: (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) يقول: وأوزعني أن أعمل بطاعتك وما ترضاه (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) يقول: وأدخلني برحمتك مع عبادك الصالحين، الذين اخترتهم لرسالتك وانتخبتهم لوحيك، يقول: أدخلني من الجنة مداخلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) قال: مع عبادك الصالحين الأنبياء والمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) }
يقول تعالى ذكره: (وَتَفَقَّدَ) سليمان (الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) . وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير، ما حدثنا ابن عبد الأعلى،




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.37%)]