
23-07-2025, 07:18 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء
الحلقة (1084)
صــ 341 لى صــ 350
الضلال، فتقول: قد جهل فلان الطريق وضل الطريق، بمعنى واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال: من الجاهلين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
قال ابن جُرَيج: وفي قراءة ابن مسعود: "وأنا مِنَ الجَاهِلِينَ" .
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال: من الجاهلين.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) فقال موسى: لم أكفر، ولكن فعلتها وأنا من الضالين. وفي حرف ابن مسعود: "فعلتها إذا وأنا من الجاهلين" .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قبل أن يأتيني من الله شيء كان قتلي إياه ضلالة خطأ. قال: والضلالة ههنا الخطأ، لم يقل ضلاله فيما بينه وبين الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) يقول: وأنا من الجاهلين.
وقوله (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) ... الآية، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى لفرعون: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) معشر الملأ من قوم فرعون (لَمَّا خِفْتُكُمْ) أن تقتلوني بقتلي القتيل منكم. (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) يقول: فوهب لي ربي نبوّة وهي الحكم.
كما حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السديّ: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) والحكم: النبوّة.
وقوله: (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) يقول: وألحقني بعداد من أرسله إلى خلقه، مبلغا عنه رسالته إليهم بإرساله إياي إليك يا فرعون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ) يعني بقوله: وتلك تربية فرعون إياه، يقول: وتربيتك إياي، وتركك استعبادي، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ بحقّ. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه، وهو: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني، فلم تستعبدني، فترك ذكر "وتركتني" لدلالة قوله (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) عليه، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام، ونظير ذلك في الكلام أن يستحق رجلان من ذي سلطان عقوبة، فيعاقب أحدهما، ويعفو عن الآخر، فيقول المعفو عنه هذه نعمة علي من الأمير أن عاقب فلانا، وتركني، ثم حذف "وتركني" لدلالة الكلام عليه، ولأن في قوله: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وجهين: أحدهما النصب، لتعلق "تمنها" بها، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام: وتلك نعمة تمنها علي لتعبدك بني إسرائيل. والآخر: الرفع على أنها ردّ على النعمة. وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام: وتلك نعمة تمنها عليّ تعبيدك بني إسرائيل. ويعني بقوله: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) : أن اتخذتهم عبيدا لك. يقال منه: عبدت العبيد وأعبدتهم، قال الشاعر:
عَلامَ يُعْبِدنِي قَومِي وقدْ كَثُرَتْ ... فِيها أباعِرُ ما شاءُوا وَعُبْدَانُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: قهرتهم واستعملتهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال:
(1) البيت من شواهد (اللسان: عبد) قال: تعبد الرجل (وعبده) بتشديد الباء فيهما، وأعبده: صيره كالعبد. قال الشاعر: "ختام يعبدني قومي.." البيت.
تمن علي أن عبَّدت بني إسرائيل، قال: قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل.
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وربيتني قبل وليدا.
وقال آخرون: هذا استفهام كان من موسى لفرعون، كأنه قال: أتمنّ عليّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ) قال: يقول موسى لفرعون: أتمنّ عليّ أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا.
واختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي البصرة: وتلك نعمة تمنها عليّ، فيقال: هذا استفهام كأنه قال: أتمنها علي؟ ثم فسر فقال: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وجعله بدلا من النعمة. وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول، ويقول: هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقى، وهو يطلب، فيكون الاستفهام كالخبر، قال: وقد استقبح ومعه أم، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا:
تَرُوحُ منَ الحَيّ أمْ تَبْتَكرْ ... وَماذَا يَضُرُّكَ لَوْ تَنْتظرْ? (1)
قال: وقال بعضهم: هو أتروح من الحيّ، وحذف الاستفهام أوّلا اكتفاء بأم. وقال أكثرهم: بل الأوّل خبر، والثاني استفهام، وكأن "أم" إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف، فأما وليس معه أم، فلم يقله إنسان.
وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا. وقال: معنى الكلام: وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي: أي لنعمة تربيتي لك، فأجابه فقال: نعم هي نعمة عليّ أن عبدت الناس ولم تستعبدني.
وقول (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) يقول: وأيّ شيء ربّ العالمين؟
(قال)
(1) البيت: لامرىء القيس بن حجر الكندي (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 115) تروح: أتروح، وتبتكر: تخرج مبكرًا. يقول: أتروح إلى أهلك آخر النهار، أم تخرج إليهم بكرة، وما الذي يعجلك عن الانتظار وهو خير لك. والبيت شاهد على أنه حذف همزة الاستفهام اكتفاء بدلالة أم عليه. وبعضهم يستقبح الحذف في هذا الموضع. ويمنعه فيما يلبس بالخبر.
موسى هو (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ومالكهن (وَمَا بَيْنَهُمَا) يقول: ومالك ما بين السموات والأرض من شيء. (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) يقول: إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو ربّ السموات والأرض وما بينهما.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) }
يعني تعالى ذكره بقوله (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) قال فرعون لمن حوله من قومه: ألا تستمعون لما يقول موسى، فأخبر موسى عليه السلام القوم بالحواب عن مسألة فرعون إياه وقيله له (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) ليفهم بذلك قوم فرعون مقالته لفرعون، وجوابه إياه عما سأله، إذ قال لهم فرعون (أَلا تَسْتَمِعُونَ) إلى قول موسى، فقال لهم الذي دعوته إليه وإلى عبادته (رَبُّكُمْ) الذي خلقكم (وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) فقال فرعون لما قال لهم موسى ذلك، وأخبرهم عما يدعو إليه فرعون وقومه: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) يقول: إن رسولكم هذا الذي يزعم أنه أرسل إليكم لمغلوب على عقله، لأنه يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه، وإنما قال ذلك ونسب موسى عدو الله إلى الجنة، لأنه كان عنده وعند قومه أنه لا رب غيره يعبد، وأن الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة، فقال موسى عند ذلك محتجًّا عليهم، ومعرفهم ربهم بصفته وأدلته، إذ كان عند قوم فرعون أن الذي يعرفونه ربًّا لهم في ذلك الوقت هو فرعون، وأن الذي يعرفونه لآبائهم أربابا ملوك أخر، كانوا قبل فرعون، قد مضوا فلم يكن عندهم أن موسى أخبرهم بشيء له معنى يفهمونه ولا يعقلونه، ولذلك قال لهم فرعون: إنه مجنون، لأن كلامه كان عندهم كلاما لا يعقلون معناه، وقوله: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا) فمعناه: الذي أدعوكم وفرعون إلى عبادته رب المشرق والمغرب وما بينهما يعني ملك مشرق الشمس ومغربها، وما بينهما من شيء لا إلى عبادة ملوك مصر الذين كانوا ملوكها قبل فرعون لآبائكم فمضوا، ولا إلى عبادة فرعون الذي هو ملكها. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: إن كان لكم عقول تعقلون بها ما يقال لكم، وتفهمون بها ما تسمعون مما يعين لكم؛ فلما أخبرهم عليه السلام بالأمر الذي علموا أنه الحق
الواضح، إذ كان فرعون ومن قبله من ملوك مصر لم يجاوز ملكهم عريش مصر، وتبين لفرعون ومن حوله من قومه أن الذي يدعوهم موسى إلى عبادته، هو الملك الذي يملك الملوك. قال فرعون حينئذ استكبارا عن الحق، وتماديا في الغي لموسى: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي) يقول: لئن أقررت بمعبود سواي (لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) يقول: لأسجننك مع من في السجن من أهله.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) }
يقول تعالى ذكره: قال موسى لفرعون لما عرفه ربه، وأنه رب المشرق والمغرب، ودعاه إلى عبادته وإخلاص الألوهة له، وأجابه فرعون بقوله (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) : أتجعلني من المسجونين (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) يبين لك صدق ما أقول يا فرعون وحقيقة ما أدعوك إليه؟ وإنما قال ذلك له، لأن من أخلاق الناس السكون للإنصاف، والإجابة إلى الحق بعد البيان؛ فلما قال موسى له ما قال من ذلك، قال له فرعون: فأت بالشيء المبين حقيقة ما تقول، فإنا لن نسجنك حينئذ إن اتخذت إلها غيري إن كنت من الصادقين: يقول: إن كنت محقا فيما تقول، وصادقا فيما تصف وتخبر، (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) يقول جلّ ثناؤه: فألقى موسى عصاه فتحوّلت ثعبانا، وهي الحية الذكر كما قد بيَّنت فيما مضى قبل من صفته وقوله (مُبِينٌ) يقول: يبين لفرعون والملأ من قومه أنه ثعبان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قوله: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) يقول: مبين له خلق حية.
وقوله: (وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ) يقول: وأخرج موسى يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع (للناظرين) لمن ينظر إليها ويراها.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام بن عليّ، قال: ثنا الأعمش، عن المنهال، قال: ارتفعت الحية في السماء قدر ميل، ثم سفلت حتى صار رأس فرعون بين نابيها، فجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، فجعل فرعون يقول: يا موسى أسألك. بالذي أرسلك، قال: فأخذه بطنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) }
يقول تعالى ذكره: قال فرعون لما أراه موسى من عظيم قدرة الله وسلطانه حجة عليه لموسى بحقيقة ما دعاه إليه، وصدق ما أتاه به من عند ربه (لِلْمَلإ حَوْلَهُ) يعني لأشراف قومه الذين كانوا حوله. (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) يقول: إن موسى سحر عصاه حتى أراكموها ثعبانا (عَلِيمٌ) ، يقول: ذو علم بالسحر وبصر به. (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) يقول: يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضكم إلى الشأم بقهره إياكم بالسحر. وإنما قال: يريد أن يخرجكم فجعل الخطاب للملإ حوله من القبط، والمعنيّ به بنو إسرائيل، لأن القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل، واتخذوهم خدما لأنفسهم ومهانا، فلذلك قال لهم: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) وهو يريد: أن يخرج خدمكم وعبيدكم من أرض مصر إلى الشأم.
وإنما قلت معنى ذلك كذلك، لأن الله إنما أرسل موسى إلى فرعون يأمره بإرسال بني إسرائيل معه، فقال له ولأخيه (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) .
وقوله: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) يقول: فأي شيء تأمرون في أمر موسى وما به تشيرون من الرأي فيه؟ (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) يقول تعالى ذكره: فأجاب فرعون الملأ حوله بأن قالوا له: أخِّر موسى وأخاه وأنظره، وابعث في بلادك وأمصار مصر حاشرين يحشرون إليك كل سحّار عليم بالسحر.
القول في تأويل قوله تعالى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) }
يقول تعالى ذكره: فجمع الحاشرون الذين بعثهم فرعون بحشر السحرة (لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يقول: لوقت واعد فرعون لموسى الاجتماع معه فيه من يوم معلوم، وذلك يوم الزينة (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) .
وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة، لموسى أو للسحرة؟ فلعلنا نتبع السحرة، ومعنى لعل هنا كي، يقول: كي نتبع السحرة، إن كانوا هم الغالبين موسى، وإنما قلت ذلك معناها: لأن قوم فرعون كانوا على دين فرعون، فغير معقول أن يقول من كان على دين: أنظر إلى حجة من هو على خلافي لعلي اتبع ديني، وإنما يقال: أنظر إليها كي ازداد بصيرة بديني، فأقيم عليه. وكذلك قال قوم فرعون. فإياها عنوا بقيلهم: (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) .
وقيل: إن اجتماعهم للميقات الذي اتعد للاجتماع فيه فرعون وموسى كان بالإسكندرية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) قال: كانوا بالإسكندرية، قال: ويقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذ، قال: وهربوا وأسلموا فرعون وهمت به، فقال: فخذها يا موسى، قال: فكان فرعون مما يلي الناس منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئا، قال: فأحدث يومئذ تحته، قال: وكان إرساله الحية في القبة الحمراء.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ) فرعون لوعد لموسى وموعد فرعون (قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا) سحرنا قبلك (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ مُوسَى قال) فرعون لهم (نَعَمْ) لكم الأجر على ذلك (وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) منا. فقالوا عند ذلك لموسى: إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقين، وترك ذكر قيلهم
ذلك لدلالة خبر الله عنهم أنهم قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون، على أن ذلك معناه ف (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من حبالكم وعصيكم. (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) من أيديهم (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) يقول: أقسموا بقوّة فرعون وشدّة سلطانه، ومنعة مملكته (إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) موسى.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) }
يقول تعالى ذكره: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ) حين ألقت السحرة حبالهم وعصيهم. (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) يقول: فإذا عصا موسى تزدرد ما يأتون به من الفرية والسحر الذي لا حقيقة له، وإنما هو مخاييل (1) وخدعة. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) يقول: فلما تبين السحرة أن الذي جاءهم به موسى حق لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غير الله الذي فطر السموات والأرض من غير أصل، خرّوا لوجوههم سجدا لله، مذعنين له بالطاعة، مقرّين لموسى بالذي أتاهم به من عند الله أنه هو الحقّ، وأن ما كانوا يعملونه من السحر باطل، قائلين: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الذي دعانا موسى إلى عبادته دون فرعون وملئه. (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) يقول جلّ ثناؤه: قال فرعون للذين كانوا سحرته فآمنوا: آمنتم لموسى بأن ما جاء به حق قبل أن آذن لكم في الإيمان به. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) يقول: إن موسى لرئيسكم في السحر، وهو الذي علَّمكموه، ولذلك آمنتم به. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند عقابي إياكم وبال ما فعلتم، وخطأ ما صنعتم من الإيمان به.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) }
(1) مخاييل: جمع مخيلة، بمعنى المظنة، وأصله مخايل. والكوفيون يزيدون في مثل هذا الجمع ياء قبل آخره، مثل دارهيم وصياريف جمعى درهم وصيرف.
يقول (لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) مخالفا في قطع ذلك منكم بين قطع الأيدي والأرجل، وذلك أن أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، ثم اليد اليسرى والرجل اليمنى، ونحو ذلك من قطع اليد من جانب، ثم الرجل من الجانب الآخر، وذلك هو القطع من خلاف (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) فوكد ذلك بأجمعين إعلاما منه أنه غير مُسْتَبْقٍ منهم أحدا. (قَالُوا لا ضَيْرَ) يقول تعالى ذكره: قالت السحرة: لا ضير علينا; وهو مصدر من قول القائل: قد ضار فلانٌ فلانا فهو يضير ضيرا، ومعناه: لا ضرر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لا ضَيْرَ) قال: يقول: لا يضرنا الذي تقول، وإن صنعته بنا وصلبتنا. (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) يقول: إنا إلى ربنا راجعون، وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا، وثباتنا على توحيده، والبراءة من الكفر به.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل السحرة: إنا نطمع: إنا نرجو أن يصفع لنا ربنا عن خطايانا التي سلفت منا قبل إيماننا به، فلا يعاقبنا بها.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا) قال: السحر والكفر الذي كانوا فيه. (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) يقول: لأن كنا أوّل من آمن بموسى وصدقه بما جاء به من توحيد الله وتكذيب فرعون في ادعائه الربوبية في دهرنا هذا وزماننا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها.
وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) يقول: وأوحينا إلى موسى إذ تمادى فرعون في غيه وأبى إلا الثبات على طغيانه بعد ما أريناه آياتنا، أن أسر بعبادي: يقول: أن سر ببني إسرائيل ليلا من أرض مصر. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) إن فرعون وجنده متبعوك وقومك من بني إسرائيل، ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرضهم، أرض مصر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) }
يقول تعالى ذكره: فأرسل فرعون في المدائن يحشر له جنده وقومه ويقول لهم (إِنَّ هَؤُلاءِ) يعني بهؤلاء: بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) يعني بالشرذمة: الطائفة والعصبة الباقية من عصب جبيرة، وشرذمة كل شيء: بقيته القليلة; ومنه قول الراجز:
جَاءَ الشِّتَاءُ وقَمِيصِي أخْلاقْ ... شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقْ (1)
وقيل: قليلون، لأن كل جماعة منهم كان يلزمها معنى القلة; فلما جمع جمع جماعاتهم قيل: قليلون، كما قال الكُمَيت:
فَرَدَّ قَوَاصِيَ الأحْيَاء مِنْهُمْ ... فَقَدْ صَارُوا كَحَيّ وَاحدينا (2)
(1) البيت في (اللسان: خلق) منسوب لراجز. قال: يقال: ثوب أخلاق، يصفون به الواحد، إذا كانت الخلوقة فيه كله، كما قالوا: برمة أعشار، وحبل أرمام، وأرض سباسب، وكذلك برمة أخلاق عن اللحياني، أي نواحيها أخلاق. وقال الراجز: "جاء الشتاء.." البيت اهـ. كأنه لما صار خلقًا كله، كان كل جزء فيه خلقًا، فجمعه باعتبار أجزائه، كما تفيده عبارة اللحياني. والتواق: اسم ولد الراجز. وفي (اللسان: شرذم) الشرذمة: القطعة من الشيء، والجمع شراذم والشرذمة: الجماعة من الناس القليلة، وفي التنزيل: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) وثياب شراذم أي: أخلاق متقطعة وثوب شراذم أي قطع. وأنشد البيت عن ابن برى.
(2) البيت للكميت (اللسان: وحد) . قال الجوهري: العرب تقول: أنتم حي واحد، وحي واحدون، كما يقال: شرذمة قليلون، وأنشد للكميت: "فرد قواصي الأحياء.." البيت. وهو يشبه كلام الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 229) قال: وقوله: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) يقول: عصبة قليلة، وقليلون وكثيرون. وأكثر كلام العرب أن يقولوا: قومك قليل وقومنا كثير. وقليلون وكثيرون: جائز عربي، وإنما جاز لأن القلة إنما تدخلهم جميعًا، فقيل: قليل؛ وأوثر "قليل" على "قليلين" ، وجاز الجمع إذا كانت القلة تلزم جميعهم في المعنى، فظهرت أسماؤهم على ذلك. ومثله أنتم حي واحد، وحي واحدون. ومعنى واحدون: واحد، كما قال الكميت: "فرد قواصي الأحياء.." البيت.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|