عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-07-2025, 07:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان
الحلقة (1081)
صــ 311 لى صــ 320





الضحاك يقول في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وهذه الآية مكية نزلت بمكة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) يعني: الشرك، والقتل، والزنا جميعا. لما أنزل الله هذه الآية قال المشركون من أهل مكة: يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار، وليس له عند الله خير، فأنزل الله (إِلا مَنْ تَابَ) من المشركين من أهل مكة، (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) يقول: يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا: الإيمان بالله، والدخول في الإسلام، وهو التبديل في الدنيا. وأنزل الله في ذلك (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) يعنيهم بذلك (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) يعني ما كان في الشرك، يقول الله لهم: (أَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) ، يدعوهم إلى الإسلام، فهاتان الآيتان مكيتان والتي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ... الآية، هذه مدنية، نزلت بالمدينة، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين، وهي مبهمة ليس منها مخرج.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تُمَيْلة، قال ثنا أبو حمزة، عن جابر، عن مجاهد، قال: سُئل ابن عباس عن قول الله جلّ ثناؤه: (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) فقال:
بُدِّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَرِيفا ... وَبَعْدَ طُولِ النَّفَسِ الوَجِيفا (1)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى قوله: (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) فقال المشركون: ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا، قال: فأنزل الله (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) قال: تاب من الشرك، قال: وآمن بعقاب الله ورسوله (وَعَمِلَ عَمَلا
(1)
هذا بيت للبيد العامري الشاعر. وروايته هكذا غامضة. ولم أجده في أصل ديوانه، وإنما وجدته في الملحق بالديوان (طبع ليدن ص 56) ، وروايته فيه كرواية السيوطي في الإتقان: وهذه الرواية أجود وأوضح، وهي: بَدّلْنَ بَعْدَ النَّفَش الوَجِيفا ... وَبَعْدَ طُولِ الحِرَّةِ الصَّرِيفا

يصف لبيد جماعة من الإبل، بأنها كانت ترعى ليلا زمنًا طويلا، ثم بدلت بذلك الوجيف، وهو ضرب من سير الإبل والخيل سريع، يقال: وجف البعير والفرس وجفًا، ووجيفًا أسرع وبدلت بعد طول الاجتراء في مباركها الصريف. والاجتراء: أن يخرج دو الكرش جزءًا من الطعام ليمضغه جيدًا ثم يعيده والصريف يطلق على معان، منها اللبن ساعة يحلب، والخمر؛ والمراد به هنا صوت ناب الناقة إذا حركته، وإنما يكون ذلك إذا نالها الإعياء والكلال فكأن لبيدًا يقول تبدلت أحوالها بعد النعيم بؤسًا.
صَالِحًا) قال: صدّق، (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: يبدّل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان.
وقال آخرون: بل معنى ذلك، فأولئك يبدل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا قريش بن أنس أبو أنس، قال: ثني صالح بن رستم، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا محمد بن حازم أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعْرِفُ آَخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الجَنَّةَ، قال: يُؤتَى بِرجُلٍ يَومَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ: نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قال: فَيُقُالُ لَهُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، وَعَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، قال: فيَقُولُ: يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْيَاءَ ما أرَاها هاهُنَا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ" .
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّله: فأولئك يبدل الله سيئاتهم: أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى، فيجب إن فعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجا.
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) يقول تعالى ذكره: وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها. قوله: (وَمَنْ تَابَ) يقول: ومن تاب من المشركين، فآمن بالله ورسوله
(وَعَمِلَ صَالِحًا) يقول: وعمل بما أمره الله فأطاعه، فإن الله فاعل به من إبداله سيئ أعماله في الشرك بحسنها في الإسلام، مثل الذي فعل من ذلك بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الآية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) قال: هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى قوله (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان هؤلاء إلا معنا، قال: ومن تاب وعمل صالحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) لم تُحظر التوبة عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) }
اختلف أهل التأويل في معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه، فقال بعضهم: معناه الشرك بالله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: الشرك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: هؤلاء المهاجرون، قال: والزور قولهم لآلهتهم، وتعظيمهم إياها.
وقال آخرون: بل عني به الغناء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن عبد الأعلى المحاربيّ قال: ثنا محمد بن مروان، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: لا يسمعون الغناء.
وقال آخرون: هو قول الكذب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: الكذب.
قال أبو جعفر: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسَّن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظنّ صاحبه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور.
فإذا كان ذلك كذلك، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من الباطل لا شركا، ولا غناء، ولا كذبا ولا غيره، وكلّ ما لزمه اسم الزور، لأن الله عمّ في وصفه إياهم أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر أو عقل.
وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) اختلف أهل التأويل في معنى اللغو الذي ذُكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: ما كان المشركون يقولونه للمؤمنين، ويكلمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما إعراضهم عنهم وصفحهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: صفحوا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: إذا أوذوا مرّوا كراما، قال: صفحوا.
وقال آخرون: بل معناه: وإذا مرّوا بذكر النكاح، كفوا عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام
بن حوشب، عن مجاهد (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: إذا ذكروا النكاح كفوا عنه.
حدثني الحارث، قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن مجاهد، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كفوا عنه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبي مخزوم، عن سيار (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) إذا مرّوا بالرفث كفُّوا.
وقال آخرون: إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: هؤلاء المهاجرون، واللغو ما كانوا فيه من الباطل، يعني المشركين وقرأ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ)
وقال آخرون: عُني باللغو هاهنا: المعاصي كلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: اللغو كله: المعاصي.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مما يُستقبح في بعض الأماكن، فهو من اللغو، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عُني به بعض ذلك دون بعض، إذ لم يكن لخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وإذا مرّوا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مرّوا كراما، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أو ذوا بإسماع القبيح من القول، وفي بعضه بأن يَنْهَوْا عن
ذلك، وذلك بأن يروا من المنكر ما يغير بالقول فيغيروه بالقول. وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم، فيستصرخهم المراد ذلك منهم، فيصرخونهم، وكلّ ذلك مرورهم كراما.
وقد حدثني ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، قال: مرّ ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيما" .
وقيل: إن هذه الآية مكية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت السديّ يقول: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: هي مكية، وإنما عني السديّ بقوله هذا إن شاء الله، أن الله نسخ ذلك بأمره المؤمنين بقتال المشركين بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وأمرهم إذا مرّوا باللَّغو الذي هو شرك، أن يُقاتلوا أمراءه، وإذا مرّوا باللغو، الذي هو معصية لله أن يغيروه، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة، وهذا القول نظير تأويلنا الذي تأولناه في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) }
يقول تعالى ذكره: والذين إذا ذكَّرهم مذكِّر بحجج الله، لم يكونوا صما لا يسمعون، وعميا لا يبصرونها ولكنهم يِقَاظُ القلوب، فهماء العقول، يفهمون عن الله ما يذِّكرهم به، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه، فيوعون مواعظه آذانا سمعته، وقلوبا وعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يفقهون حقا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن
مجاهد، قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) قال: لا يفقهون، ولا يسمعون، ولا يبصرون.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علَية، عن ابن عون، قال: قلت للشعبيّ: رأيت قوما قد سجدوا ولم أعلم ما سجدوا منه أسجد (1) قال: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) قال: هذا مثل ضربه الله لهم، لم يدعوها إلى غيرها، وقرأ قول الله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ... الآية.
فإن قال قائل: وما معنى قوله (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) أوَ يَخرّ الكافرون صما وعميانا إذا ذكروا بآيات الله، فَيُنْفَى عن هؤلاء ما هو صفة للكفار؟ قيل: نعم، الكافر إذا تُليت عليه آيات الله خرّ عليها أصم وأعمى، وخرّه عليها كذلك: إقامته على الكفر، وذلك نظير قول العرب: سببت فلانا، فقام يبكي، بمعنى فظلّ يبكي، ولا قيام هنالك، ولعله أن يكون بكى قاعدا، وكما يقال: نهيت فلانا عن كذا، فقعد يشتمني: ومعنى ذلك: فجعل يشتمني، وظلّ يشتمني، ولا قعود هنالك، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب، حتى قد فهموا معناه. وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني; قال: وأنشد بعض بني عامر:
لا يُقْنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ ... ولا الوِشاحانِ ولا الجِلْبابُ ... منْ دُونِ أنْ تَلْتَقِي الأرْكابُ ... وَيَقْعُدَ الأيْرُ لَهُ لُعابُ (2)
(1)
أي فكنت أسجد معهم. ولكنه اختصر الكلام. وكثير من هؤلاء القائلين والمجيبين يختصرون الكلام إلى حد الرمز والإشارة، اكتفاء بدلالة الحال.

(2)
هذه أربعة أبيات من مشطور الرجز، رواها الفراء في معاني القرآن عن بعض العرب (مصور الجامعة ص 227) قال: وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني، وأنشد بعض العرب: * لا يقنع الجارية *

الأبيات. وفي البيت الرابع: "ويقعدّ الهنُ" ... إلخ كقولك: يصير. وقوله: الأركاب، هو جمع ركب، كسبب، وهو العانة أو منبتها، أو ظاهر الفرج. قال الخليل: هو للمرأة خاصة وقال الفراء: هو للرجل والمرأة. وأنشد الفراء: "لا يقنع الجارية ..." الأبيات. وفي التهذيب: ولا يقال: ركب للرجل. وقيل: يجوز أن يقال: ركب للرجل. والهن (في رواية الفراء) : الحر.
بمعنى: يصير، فكذلك قوله: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) إنما معناه: لم يصَمُّوا عنها، ولا عموا عنها، ولم يصيروا على باب ربهم صُمًّا وعمْيانًا، كما قال الراجز:
وَيَقْعَدَ الهَنُ لَهُ لُعَابُ
بمعنى: ويصير.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) }
يقول تعالى ذكره: والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) يعنون: من يعمل لك بالطاعة فتقرّ بهم أعيننا في الدنيا والآخرة.
حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا حزم، قال: سمعت كثيرا سأل الحسن، قال: يا أبا سعيد، قول الله: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) في الدنيا والآخرة؟ قال: لا بل في الدنيا، قال: وما ذاك؟ قال: المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله.
حدثنا الفضل بن إسحاق، قال: ثنا سالم بن قُتَيبة، قال: ثنا حزم، قال: سمعت الحسن فذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: قرأ حضرمي (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن جُرَيج فيما قرأنا عليه في قوله: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك،
ولا يجرُّون الجرائر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قوله: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: يعبدونك يحسنون عبادتك، ولا يجرّون علينا الجرائر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
حدثنا محمد بن عون، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، قال: ثني أبي، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير، عن أبيه، قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود، فقال: لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالة بُعث عليها نبيّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام، فيعلم أنه إن مات دخل النار، فلا تقرّ عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها للتي قال الله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) ... الآية.
حدثني ابن عوف، قال: ثني علي بن الحسن العسقلاني، عن عبد الله بن المبارك، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَيرٍ، عن أبيه، عن المقداد، نحوه.
وقيل: هب لنا قرّة أعين، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع، وقوله: (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) واحدة لأن قوله: قرّة أعين مصدر من قول القائل: قرّت عينك قرة، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه.
وقوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أئمة يَقْتَدِي بنا من بعدنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني عون بن سلام، قال: أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) يقول: أثمة يُقْتَدَى بنا.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) .
وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للمتقين إمامًا: نأتمّ بهم، ويأتمّ بنا من بعدنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) قال: اجعلنا مؤتمين بهم، مقتدين بهم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما، وقال: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ولم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة، لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلانا إماما، كما يقال: قام فلان قياما وصام يوم كذا صياما. ومن جمع الإمام أئمة، جعل الإمام اسما، كما يقال: أصحاب محمد إمام، وأئمة للناس. فمن وحَّد قال: يأتمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويِّي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية: الإمام في قوله: (لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) جماعة، كما تقول: كلهم عُدُول. قال: ويكون على الحكاية كما يقول القائل: إذا قيل له: من أميركم، هؤلاء أميرنا، واستشهد لذلك بقول الشاعر:
يا عاذِلاتي لا تُرِدْنَ مَلامَتِي ... إنَّ العوَاذلَ لَسْنَ لي بأمِيرِ (1)
(1)
البيت من شواهد بن هشام في المغني في حرف اللام، على أن قوله: "لا تردن ملامتي" أبلغ من: لا تلمني لأنه نهى عن السبب، والنهي عن إرادة الفعل أبلغ من النهي عن الفعل نفسه. وقال الأمير في حاشيته: قوله: "بأمير" : أخبر به عن الجمع، إما لكونه "فعيلا" يستوي فيه الواحد وغيره، قال الله تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير} . أو أنه صفة لمفرد لفظًا، جمع معنى محذوف، أي بفريق أمير. فلاحظ في الإخبار معناه وفي وصفه لفظه. قلت: ولم ينسب البيت ابن هشام ولا الأمير، ولا ذكره السيوطي في شرح شواهد المغني في حرف اللام. وتوحيد الأمير في البيت نظير توحيد الإمام في قوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إمامًا} ، وكلاهما يراد به الجمع في المعنى. قال في اللسان: وقوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إمامًا} . قال أبو عبيدة: هو واحد يدل على الجمع. اهـ.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]