
23-07-2025, 06:57 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان
الحلقة (1078)
صــ 281 لى صــ 290
إليه من أن تعبد آلهتهم، فنذيقك ضعف الحياة وضعف الممات، ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها.
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) قال: بالقرآن.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) قال: الإسلام. وقرأ (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقرأ (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) وقال: هذا الجهاد الكبير.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) }
يقول تعالى ذكره: والله الذي خلط البحرين، فأمرج أحدهما في الآخر، وأفاضه فيه. وأصل المرج الخلط، ثم يقال للتخلية مرج؛ لأن الرجل إذا خلى الشيء حتى اختلط بغيره، فكأنه قد مرجه، ومنه الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله لعبد الله بن عمرو: "كَيْفَ بِكَ يا عَبْدَ اللهِ إذَا كُنْتَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ، وصَارُوا هَكَذا وشبَّك بين أصابعه. يعني بقوله: قد مرجت: اختلطت، ومنه قول الله: (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي مختلط. وإنما قيل للمرج مرج من ذلك، لأنه يكون فيه أخلاط من الدوابّ، ويقال: مَرَجْت دابتك: أي خليتها تذهب حيث شاءت. ومنه قول الراجز:"
رَعَى بِهَا مَرَجَ رَبيعٍ مَمْرَج (1)
وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
(1) البيت من مشطور الرجز، للعجاج الراجز (ديوانه طبع ليبسك سنة 1093 ص 9) وهو البيت الثاني والثمانون من أرجوزته التي مطلعها * ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا *
وضبط ناشره لفظ ممرج، بضم الميم الأول وكسر الراء، والصواب ما في اللسان، ونقلناه عنه، وهو اسم مكان من مرج الدابة يمرجها (من باب نصر) إذا أرسلها ترعى في المرج.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يعني أنه خلع أحدهما
على الآخر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أفاض أحدهما على الآخر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يقول: خلع أحدهما على الآخر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد (مَرَجَ) أفاض أحدهما على الآخر.
وقوله (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ) الفرات: شديد العذوبة، يقال: هذا ماء فرات: أي شديد العذوبة وقوله (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) يقول: وهذا ملح مرّ، يعني بالعذب الفرات: مياه الأنهار والأمطار، وبالملح الأجاج: مياه البحار.
وإنما عنى بذلك أنه من نعمته على خلقه، وعظيم سلطانه، يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج، ثم يمنع الملح من تغيير العذب عن عذوبته، وإفساده إياه بقضائه وقدرته، لئلا يضرّ إفساده إياه بركبان الملح منهما، فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلى الماء، فقال جلّ ثناؤه: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) يعني حاجزا يمنع كل واحد منهما من إفساد الآخر (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) يقول: وجعل كلّ واحد منهما حراما محرّما على صاحبه أن يغيره ويفسده.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر، فليس يفسد العذب المالح، وليس يفسد المالح العذب، وقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: البرزخ: الأرض بينهما (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) يعني: حجر أحدهما على الآخر بأمره وقضائه، وهو مثل قوله (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) .
وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: محبسا، قوله: (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) قال: لا يختلط البحر بالعذب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: حاجزا لا يراه أحد، لا يختلط العذب في البحر. قال ابن جُرَيج: فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب، فإن دجلة تقع في البحر، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر، فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر، والنيل يصبّ في البحر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) قال: البرزخ أنهما يلتقيان فلا يختلطان، وقوله (حِجْرًا مَحْجُورًا) : أي لا تختلط ملوحة هذا بعذوبة هذا، لا يبغي أحدهما على الآخر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) قال: هذا اليبس.
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) قال: جعل هذا ملحا أجاجًا، قال: والأجاج: المرّ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) يقول: خلع أحدهما على الآخر، فلا يغير أحدهما طعم الآخر (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) هو الأجل ما بين الدنيا والآخرة (وَحِجْرًا مَحْجُورًا) جعل الله بين البحرين حجرا، يقول: حاجزا حجز أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَجَعَلَ
بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) وجعل بينهما سترا لا يلتقيان. قال: والعرب إذا كلم أحدهم الآخر بما يكره قال حجرا، قال: سترا دون الذي تقول.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بينهما حاجزا من الأرض أو من اليبس، لأن الله تعالى ذكره أخبر في أوّل الآية أنه مرج البحرين، والمرج: هو الخلط في كلام العرب على ما بيَّنت قبل، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنه مرجهما، وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات، مع اختلاط كلّ واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كلّ واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه، فليس هناك مرج، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس، ويذكرون به، وإن كان كلّ ما ابتدعه ربنا عجيبا، وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) }
يقول تعالى ذكره: والله الذي خلق من النطف بشرا إنسانا فجعله نسبا، وذلك سبعة، وصهرا، وهو خمسة.
كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) النسب: سبع، قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ... إلى قوله (وَبَنَاتُ الأخْتِ) والصهر خمس، قوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ... إلى قوله (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) .
وقوله: (وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) يقول: وربك يا محمد ذو قدرة على خلق ما يشاء من الخلق، وتصريفهم فيما شاء وأراد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) }
يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهة لا تنفعهم، فتجلب
إليهم نفعا إذا هم عبدوها، ولا تضرّهم إن تركوا عبادتها، ويتركون عبادة من أنعم عليهم هذه النعم التي لا كفاء لأدناها، وهي ما عدّد علينا جلّ جلاله في هذه الآيات من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) إلى قوله: (قَدِيرًا) ، ومن قدرته القدرة التي لا يمتنع عليه معها شيء أراده، ولا يتعذّر عليه فعل شيء أراد فعله، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عباده أحلّ به ما أحلّ بالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرّسّ، وقرونا بين ذلك كثيرا، فلم يكن لمن غضب عليه منه ناصر، ولا له عنه دافع (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) يقول تعالى ذكره: وكان الكافر معينا للشيطان على ربه، مظاهرا له على معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: يظاهر الشيطان على معصية الله بعينه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: معينا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جُرَيج: أبو جهل معينا ظاهر الشيطان على ربه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: عونا للشيطان على ربه على المعاصي.
حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) قال: على ربه عوينا. والظهير: العوين. وقرأ قول الله: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) قال: لا تكونن لهم عوينا. وقرأ أيضا قول الله: (وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ) قال: ظاهروهم: أعانوهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) يعني: أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جهل بن هشام.
وقد كان بعضهم يوجه معنى قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) أي وكان الكافر على ربه هينا، من قول العرب: ظهرت به، فلم ألتفت إليه، إذا جعله خلف ظهره فلم يلتفت إليه، وكأنّ الظهير كان عنده فعيل صرف من مفعول إليه من مظهور به، كأنه قيل: وكان الكافر مظهورا به. والقول الذي قلناه هو وجه الكلام، والمعنى الصحيح، لأن الله تعالى ذكره أخبر عن عبادة هؤلاء الكفار من دونه، فأولى الكلام أن يتبع ذلك ذمه إياهم، وذمّ فعلهم دون الخبر عن هوانهم على ربهم، ولم يجر لاستكبارهم عليه ذكر، فيتبع بالخبر عن هوانهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) يا محمد إلى من أرسلناك إليه (إِلا مُبَشِّرًا) بالثواب الجزيل، من آمن بك وصدّقك، وآمن بالذي جئتهم به من عندي، وعملوا به (وَنَذِيرًا) من كذّبك وكذّب ما جئتهم به من عندي، فلم يصدّقوا به، ولم يعملوا (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يقول له: قل لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم، ما أسألكم يا قوم على ما جئتكم به من عند ربي أجرا، فتقولون: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه، فلا نتبعه فيه، ولا نعطيه من أموالنا شيئا، (إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) يقول: لكن من شاء منكم اتخذ إلى ربه سبيلا طريقا بإنفاقه من ماله في سبيله، وفيما يقربه إليه من الصدقة والنفقة في جهاد عدوّه، وغير ذلك من سبل الخير.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) }
يقول تعالى ذكره: وتوكل يا محمد على الذي له الحياة الدائمة التي لا موت معها، فثق به في أمر ربك وفوّض إليه، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه. قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) يقول: واعبده شكرا منك له على ما أنعم به عليك. قوله: (وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ
خَبِيرًا) يقول: وحسبك بالحي الذي لا يموت خابرا بذنوب خلقه، فإنه لا يخفى عليه شيء منها، وهو محص جميعها عليهم حتى يجازيهم بها يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) }
يقول تعالى ذكره: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فقال: (وَمَا بَيْنَهُمَا) وقد ذكر السماوات والأرض، والسماوات جماع، لأنه وجه ذلك إلى الصنفين والشيئين، كما قال القطامي:
ألَمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انقِطاعا (1)
يريد: وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع، لأنه أراد الشيئين والنوعين.
وقوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قيل: كان ابتداء ذلك يوم الأحد، والفراغ يوم الجمعة (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ) يقول: ثم استوى على العرش الرحمن وعلا عليه، وذلك يوم السبت فيما قيل. وقوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) يقول: فاسأل يا محمد خبيرا بالرحمن، خبيرا بخلقه، فإنه خالق كلّ شيء، ولا يخفى عليه ما خلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) قال: يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتك شيئا، فاعلم أنه كما أخبرتك، أنا الخبير، والخبير في قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) منصوب على الحال من الهاء التي في قوله به.
القول في تأويل قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا
(1) البيت للقطامي، وقد سبق الكلام عنه مفصلا، والشاهد فيه هنا: أن الشاعر قال: "تباينتا" بالتثنية، مع أن حبال جمع حبل. والمسوغ لذلك: أن حبال قيس جماعة، وحبال تغلب جماعة أخرى، فعاملهما في إعادة الضمير عليهما معاملة المفردين، ومثله في القرآن: {الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما} لأنه وجه ذلك إلى الصفتين.
وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: (اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ) أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الآلهة والأوثان. قالوا: (أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (لِمَا تَأْمُرُنَا) بمعنى: أنسجد نحن يا محمد لما تأمرنا أنت أن نسجد له. وقرأته عامة قرّاء الكوفة "لمَا يَأْمُرُنا" بالياء، بمعنى: أنسجد لما يأمر الرحمن، وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن، فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن، قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة؟ يعنون مُسَيلمة بالسجود له.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَزَادَهُمْ نُفُورًا) يقول: وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله، وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا.
القول في تأويل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) }
يقول تعالى ذكره: تقدّس الربّ الذي جعل في السماء بروجا، ويعني بالبروج: القصور، في قول بعضهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن المثنى وسلم بن جنادة، قالوا: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد، في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورا في السماء، فيها الحرس.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني أبو معاوية، قال: ثني إسماعيل، عن يحيى بن رافع، في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورا في السماء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورًا في السماء.
حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثني عليّ بن مسهر، عن إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: قصورا في السماء فيها الحرس.
وقال آخرون: هي النجوم الكبار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالح (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: النجوم الكبار.
قال: ثنا الضحاك، عن مخلد، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الكواكب.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (بُرُوجًا) قال: البروج: النجوم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هي قصور في السماء، لأن ذلك في كلام العرب (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وقول الأخطل:
كَأَنَّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيِّدُهُ ... بانٍ بِجِصّ وآجُر وأحْجارِ (1)
يعني بالبرج: القصر.
قوله: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) على التوحيد، ووجهوا تأويل ذلك إلى أنه جعل فيها الشمس، وهي السراج التي عني عندهم بقوله: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) .
كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) قال: السراج: الشمس.
وقرأته عامة قرّاء الكوفيين "وَجَعَلَ فِيها سُرُجا" على الجماع، كأنهم وجهوا تأويله: وجعل فيها نجوما (وَقَمَرًا مُنِيرًا) وجعلوا النجوم سرجا إذ كان يهتدي بها.
(1) البيت للأخطل كما قال المؤلف. والبرج: المراد به القصر كما قاله. وقد كثر في كلام العرب تشبيه إبل السفر القوية الموثقة الخلق بأبنية الرومي، ومن ذلك قول طرفة في وصف ناقته: كَقَنْطَرَةِ الرُّوميّ أقسَمَ رَبُّهَا ... لَتُكْتَفَنْ حَتَى تُشَادَ بِقَرْمَدِ
والبيت شاهد على أن البرج معناه: القصر.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار، لكل واحدة منهما وجه مفهوم، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَقَمَرًا مُنِيرًا) يعني بالمنير: المضيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) فقال بعضهم: معناه: أن الله جعل كل واحد منهما خلفًا من الآخر، في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله، أدرك قضاؤه في الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) قال: جعل أحدهما خلفا للآخر، إن فات رجلا من النهار شيء أدركه من الليل، وإن فاته من الليل أدركه من النهار.
وقال آخرون: بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا صاحبه، فجعل هذا أسود وهذا أبيض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) قال: أسود وأبيض.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|