عرض مشاركة واحدة
  #1013  
قديم 22-07-2025, 02:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثامن عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ طه
الحلقة (1013)
صــ 321 إلى صــ 330



وغذائكم، وارعوا فيما هو أرزاق بهائمكم منه وأقواتها أنعامكم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ) يقول: إن فيما وصفت في هذه الآية من قدرة ربكم، وعظيم سلطانه لآيات: يعني لدلالات وعلامات تدلّ على وحدانية ربكم، وأن لا إله لكم غيره (لأولِي النُّهَى) يعني: أهل الحجى والعقول، والنهى: جمع نُهية، كما الكُشَى: جمع كُشْيَة.
قال أبو جعفر: والكشَى: شحمة تكون في جوف الضبِّ، شبيهة بالسرّة، وخصّ تعالى ذكره بأن ذلك آيات لأولي النُّهَى، لأنهم أهل التفكُّر والاعتبار، وأهل التدبر والاتعاظ.
القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) }
يقول تعالى ذكره: من الأرض خلقناكم أيها الناس، فأنشأناكم أجساما ناطقة (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) يقول: وفي الأرض نعيدكم بعد مماتكم، فنصيركم ترابا، كما كنتم قبل إنشائنا لكم بشرا سويا (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ) يقول: ومن الأرض نخرجكم كما كنتم قبل مماتكم أحياء، فننشئكم منها، كما أنشأناكم أول مرة..
وقوله (تَارَةً أُخْرَى) يقول: مرّة أخرى.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) يقول: مرّة أخرى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (تَارَةً أُخْرَى) قال: مرّة أخرى الخلق الآخر.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: من الأرض أخرجناكم ولم تكونوا شيئا خلقا سويا، وسنخرجكم منها بعد مماتكم مرّة أخرى، كما أخرجناكم منها أوّل مرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) }
يقول تعالى ذكره: ولقد أرينا فرعون آياتنا، يعني أدلتنا وحججنا على
حقيقة ما أرسلنا به رسولينا، موسى وهارون إليه كلها (فَكَذَّبَ وَأَبَى) أن يقبل من موسى وهارون ما جاءا به من عند ربهما من الحق استكبارا وعتوّا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) }
يقول تعالى ذكره: قال فرعون لما أريناه آياتنا كلها لرسولنا موسى: أجئتنا يا موسى لتخرجنا من منازلنا ودورنا بسحرك هذا الذي جئتنا به (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا) لا نتعدّاه، لنجيء بسحر مثل الذي جئت به، فننظر أينا يغلب صاحبه، لا نخلف ذلك الموعد (نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى) يقول: بمكان عدل بيننا وبينك ونَصَف.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين (مَكانا سِوًى) بكسر السين، وقرأته عامة قراء الكوفة (مَكَانًا سُوًى) بضمها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما لغتان، أعني الكسر والضم في السين من "سوى" مشهورتان في العرب، وقد قرأت بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، مع اتفاق معنييهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وللعرب في ذلك إذا كان بمعنى العدل والنصف لغة هي أشهر من الكسر والضم وهو الفتح، كما قال جلّ ثناؤه (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) وإذا فتح السين منه مدّ، وإذا كسرت أو ضمت قصر، كما قال الشاعر:
فإنَّ أبانا كانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ ... سُوًى بينَ قَيْسٍ قَيْسَ عَيْلانَ والفِزْرِ (1)
(1)
البيت لموسى بن جابر الحنفي (اللسان: سوى) قال: قال الأخفش: سوى إذا كان بمعنى غير أو العدل يكون فيه ثلاث لغات: إن ضمت السين أو قصرت فيهما جميعا، وإن فتحت مددت. تقول: ما كان سوى وسوى وسواء: أي عدل ووسط بين الفريقين، قال موسى بن جابر: "وجدنا أبانا. . . البيت" . والفزر: أبو قبيلة من تميم، وهو سعد بن زياد مناة بن تميم.

ونظير ذلك من الأسماء: طُوَى، وطَوَى، وثنى وثُنَى، وعَدَى، وعُدَى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (مَكَانًا سُوًى) قال: منصفا بينهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (مَكَانًا سُوًى) : أي عادلا بيننا وبينك.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة، قوله (مَكَانًا سُوًى) قال: نصفا بيننا وبينك.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى) قال: يقول: عدلا.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (مَكانا سُوًى) قال: مكانا مستويا يتبين للناس ما فيه، لا يكون صوب ولا شيء فيغيب بعض ذلك عن بعض مستو حين يرى.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) }
يقول تعالى ذكره: قال موسى لفرعون، حين سأله أن يجعل بينه وبينه موعدا للاجتماع: (( مَوْعِدُكُمْ) للاجتماع (يَوْمُ الزِّينَةِ) يعني يوم عيد كان لهم، أو سوق كانوا يتزينون فيه (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) يقول: وأن يُساق الناس من كلّ فجّ وناحية (ضُحًى) فذلك موعد ما بيني وبينك للاجتماع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) فإنه يوم زينة يجتمع الناس إليه ويحشر الناس له.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) قال: يوم زينة لهم، ويوم عيد لهم (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) إلى عيد لهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد (يَوْمُ الزِّينَةِ) قال: يوم السوق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَوْمُ الزِّينَةِ) موعدهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال موسى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وذلك يوم عيد لهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) يوم عيد كان لهم، وقوله (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) يجتمعون لذلك الميعاد الذي وعدوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) قال: يوم العيد، يوم يتفرغ الناس من الأعمال، ويشهدون ويحضرون ويرون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) يوم عيد كان فرعون يخرج له (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) حتى يحضروا أمري وأمرك، وأن من قوله (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) رفع بالعطف على قوله (يَوْمُ الزِّينَةِ) .
وذُكر عن أبي نهيك في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نهيك يقول: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) يعني فرعون يحشر قومه.
وقوله (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) يقول تعالى ذكره: فأدبر فرعون معرضا عما أتاه به من الحقّ (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) يقول: فجمع مكره، وذلك جمعه سحرته بعد أخذه إياهم بتعلمه (ثُمَّ أَتَى) يقول: ثم جاء للموعد الذي وعده موسى، وجاء بسحرته.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) }
يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) يقول: لا تختلقوا على الله كذبا، ولا تتقوّلوه (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) فيستأصلكم بهلاك فيبيدكم. وللعرب فيه لغتان: سحت، وأسحت، وسحت، أكثر من أسحت، يقال منه: سحت الدهر، وأسحت مال فلان: إذا أهلكه فهو يسحته سحتا، وأسحته يسحته إسحاتا، ومن الإسحات قول الفرزدق:
وَعَضُّ زَمان يا بنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إلا مُسْحَتا أوْ مُجلَّف (1)
ويُروى: إلا مسحت أو مجلف.
(1)
هذا البيت للفرزدق من نقيضته التي مطلعه * عزفت بأعشاش وما كدت تعزف *

وقبل بيت الشاهد قوله (انظر ديوانه طبعة الصاوي ص 565) : إليك أمير المؤمنين رمت بنا ... هموم المنى والوجل المتعسف
ورواية الشاهد عند المؤلف موافقة لرواية (اللسان: جلف) . قال: قال أبو الغوث: المسحت: الملك. والمجلف: الذي بقيت منه بقية، أو هو الذي أخذ من جوانبه. والمجلف أيضا: الرجل الذي جلفته السنون، أي أذهبت أمواله. وفيه (اللسان: سحت) وقوله عز وجل: (فيسحتكم بعذاب) : قرئ: فيسحتكم بعذاب، ويسحتكم. بفتح الياء والحاء، ويسحت (بضم الياء) أكثر. فسحتكم (بفتح الياء والحاء) : يقشركم. ويسحتكم (بضم الياء) يستأصلكم، وأسحت ماله: استأصله وأفسده، قال الفرزدق: * وعفي زمان أو مجلف *
أما رفع مجلف، فهو على تقدير مبتدأ، كأنه قال أو هو مجلف. والبيت شاهد عند الطبري، على أن معنى قوله تعالى: فيسحتكم: يستأصلكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) يقول: فيهلككم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) يقول: يستأصلكم بعذاب.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) قال: فيستأصلكم بعذاب فيهلككم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) قال: يهلككم هلاكا ليس فيه بقيَّة، قال: والذي يسحت ليس فيه بقية.
حدثنا موسى قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) يقول: يهلككم بعذاب.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة (فَيَسْحَتَكُمْ) بفتح الياء من سحت يَسحت. وقرأته عامة قراء الكوفة (فَيُسْحِتَكُمْ) بضم الياء من أسحت يسحت.
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن الفتح فيها أعجب إلي لأنها لغة أهل العالية، وهي أفصح والأخرى وهي الضم في نجد.
وقوله (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) يقول: لم يظفر من يخلق كذبا، ويقول بكذبه ذلك بحاجته التي طلبها به، ورجا إدراكها به.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) }
يقول تعالى ذكره: فتنازع السحرة أمرهم بينهم.
وكان تنازعهم أمرهم بينهم فيما ذكر أن قال بعضهم لبعض، ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) قال السحرة بينهم: إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر.
وقال آخرون: بل هو أن بعضهم قال لبعض: ما هذا القول بقول ساحر.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حُدثت عن وهب بن منبه، قال: جمع كلّ ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى المجمع، وفرعون في مجلسه، معه أشراف أهل مملكته، قد استكف له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) فترادّ السحرة بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر.
وقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) يقول تعالى ذكره: وأسرّوا السحرة المناجاة بينهم.
ثم اختلف أهل العلم في السرار الذي أسروه، فقال بعضهم: هو قول بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه، وإن كان من أمر السماء فإنه سيغلبنا.
وقال آخرون:في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حُدثت عن وهب بن منبه، قال: أشار بعضهم إلى بعض بتناج (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا) .
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) من دون موسى وهارون، قالوا في نجواهم (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) قالوا: إن هذان لساحران، يَعْنُونَ بقولهم: إن هذان موسى وهارون، لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنْ هَذَانِ
لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا) موسى وهارون صلى الله عليهما.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار (إنَّ هَذَانِ) بتشديد إن وبالألف في هذان، وقالوا: قرأنا ذلك كذلك، وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: "إن" خفيفة في معنى ثقيلة، وهي لغة لقوم يرفعون بها، ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما، وقال بعض نحويي الكوفة: ذلك على وجهين: أحدهما على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، وقد أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث بن كعب:
فأطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأى ... مَساغا لِناباه الشُّجاعُ لصَمما (1)
قال: وحكى عنه أيضا: هذا خط يدا أخي أعرفه، قال: وذلك وإن كان قليلا أقيس، لأن العرب قالوا: مسلمون، فجعلوا الواو تابعة للضمة، لأنها لا تعرب، ثم قالوا: رأيت المسلمين، فجعلوا الياء تابعة لكسرة الميم، قالوا: فلما رأوا الياء من الاثنين لا يمكنهم كسر ما قبلها، وثبت مفتوحا، تركوا الألف تتبعه،
(1)
البيت للمتلمس: جرير بن عبد العزى، وقيل جرير بن عبد المسيح، من كلمة له رواها ابن الشجري (انظر كتاب الأشموني في النحو بشرح الأستاذ محيي الدين عبد الحميد، طبعة الحلبي 1: 47) . قال: أطرق: سكت فلم يتكلم وأرخى عينيه ينظر إلى الأرض. والشجاع: ضرب من الحيات لطيف دقيق، وهو أجرؤها. أو هو الحية العظيمة تثب على الفارس والراجل وتقوم على ذنبها، وربما بلغت رأس الفارس، وتكون في الصحاري. ومساغا: اسم مكان من ساغ يسوغ: إذا دخل ونفذ. وصمما عضد ونيب. والبيت جار على لغة بني الحارث بن كعب ومن لف لفهم، والشاهد فيه أن قوله لناباه مثنى مجرور باللام، وقد جاء بالألف، وهي لغة بني الحارث بن كعب وبني العنبر وبني الهجيم وبطون من ربيعة وبكر بن وائل، وزبيد وخثعم وهمدان وعذرة. ويخرج بعض النحويين على هذه اللغة قوله تعالى: "إن هذان لساحران" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة" . قال الفراء في معاني القرآن (الورقة 198 من مصورة الجامعة 24059) فقراءتنا بتشديد إن، وبالألف؛ على جهتين: إحداهما على لغة بني الحارث بن كعب يجعلون الاثنين في رفعهما وخفضهما بالألف، أنشدني رجل من الأسد عنهم "فأطرق إطراق الشجاع" . . . البيت. وحكى هذا الرجل عنهم: هذا خط يدا أخي، أعرفه بعينه وذلك وإن كان قليلا أقيس. (وساق المؤلف كلام الفراء إلى آخره) .

فقالوا: رجلان في كلّ حال. قال: وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في كلا الرجلين، في الرفع والنصب والخفض، وهما اثنان، إلا بني كنانة، فإنهم يقولون: رأيت كلي الرجلين، ومررت بكلي الرجلين، وهي قبيحة قليلة مضوا على القياس، قال: والوجه الآخر أن تقول: وجدت الألف من هذا دعامة، وليست بلام فعل، فلما بنيت زدت عليها نونا، ثم تركت الألف ثابتة على حالها لا تزول بكلّ حال، كما قالت العرب الذي، ثم زادوا نونا تدلّ على الجمع، فقالوا: الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم، كما تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه، قال: وكان القياس أن يقولوا: اللذون، وقال آخر منهم: ذلك من الجزم المرسل، ولو نصب لخرج إلى الانبساط.
وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى، قال: قال أبو عمرو وعيسى بن عمر ويونس: إن هذين لساحران في اللفظ، وكتب هذان كما يريدون الكتاب، واللفظ صواب، قال: وزعم أبو الخطاب أنه سمع قوما من بني كنانة وغيرهم، يرفعون الاثنين في موضع الجر والنصب، قال: وقال بشر بن هلال: إن بمعنى الابتداء والإيجاب، ألا ترى أنها تعمل فيما يليها، ولا تعمل فيما بعد الذي بعدها، فترفع الخبر ولا تنصبه، كما نصبت الاسم، فكان مجاز "إن هذان لساحران" ، مجاز كلامين، مَخْرجه: إنه إي نعم، ثم قلت: هذان ساحران. ألا ترى أنهم يرفعون المشترك كقول ضابئ:
فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فإنّي وَقيار بِهَا لَغَرِيبُ (1)
وقوله:
(1)
البيت لضابئ بن الحارث البرجمي، وهو أول أبيات قالها وهو محبوس بالمدينة، في زمن عثمان بن عفان. وبعده ثلاثة أبيات أنشدها أبو العباس المبرد في الكامل (خزانة الأدب للبغدادي 4: 323 - 328) واستشهد به النحاة على أن قوله (قيار) مبتدأ حذف خبره، والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها، والتقدير: فإني وقيار كذلك، لغريب. وإنما لم يجعل الخبر لقيار، ويكون خبر إن محذوفا؛ لأن اللام لا تدخل في خبر المبتدأ حتى يقدم، نحو لقائم زيد. وهذا تخريج له خلاف مذهب سيبويه، فإن الجملة عنده في نية التأخير، فهي معطوفة لا معترضة، وزعم الكسائي والفراء أن نصب إن ضعيف لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر، قال الزجاج: وهذا غلط، لأن إن قد عملت عملين: الرفع والنصب، وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع، لأن كل منصوب مشبه بالمفعول، والمفعول لا يكون بغير فاعل، إلا فيما لم يسم فاعله. وكيف يكون نصب إن ضعيفا وهي تتخطى الظروف وتنصب ما بعدها نحو "إن فيها قوما جبارين" ، ونصب إن من أقوى المنصوبات أه.

إنَّ السُّيوفَ غُدُوَّها ورَوَاحَها ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعْضَبِ (1)
قال: ويقول بعضهم: إن الله وملائكته يصلون على النبيّ، فيرفعون على شركة الابتداء، ولا يعملون فيه إنَّ. قال: وقد سمعت الفصحاء من المحرمين يقولون: إن الحمد والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك، قال: وقرأها قوم على تخفيف نون إن وإسكانها، قال: ويجوز لأنهم قد أدخلوا اللام في الابتداء وهي فصل، قال:
أُمُّ الحُلَيْس لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ (2)
قال: وزعم قوم أنه لا يجوز، لأنه إذا خفف نون "إن" فلا بدّ له من أن يدخل "إلا" فيقول: إن هذا إلا ساحران.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا (إنّ) بتشديد نونها،
(1)
البيت للأخطل (خزانة الأدب للبغدادي 2: 372) من قصيدة له ستة عشر بيتا مدح بها العباس بن محمد بن عبد الله بن العباس. والبيت شاهد عند النحاة على أنه قد يعتبر الأول في اللفظ دون الثاني، أي يعتبر المبدل منه في اللفظ دون البدل فإن قوله "غدوها" بدل من السيوف، قال المبرد في الكامل: هو بدل اشتمال، وقد روعي المبدل منه في اللفظ، بإرجاع الضمير إليه من الخبر، ولم يراع البدل ولو روعي لقيل "تركا" بالتثنية. وهوازن: أبو قبيلة، وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. والأعضب: الذي انكسر أحد قرنيه. وأورد المؤلف البيت شاهدا على أنهم قد يرفعون المشترك، أي المعطوف على اسم إن، وليس في البيت عطف على اسم إن، وإنما هو إبدال من المنصوب كما قرره المبرد وأبو علي الفارسي في إيضاح الشعر.

(2)
هذا بيت من مشطور الرجز نسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروش بالشين في آخره، وقيل بالسين، مولى ثقيف. (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4: 328 - 330) . وهو شاهد على أنه شذ دخول اللام على خبر المبتدأ المؤخر، مجردا من إن. وقدر بعضهم: لهي عجوز، لتكون في التقدير داخلة على المبتدأ. قال ابن السراج في الأصول: قال أبو عثمان: وقرأ سعيد بن جبير (إلا أنهم لا يأكلون الطعام) : فتح أن، وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله: أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة

انتهى. وعند ابن جني غير زائدة، لكنها في البيت ضرورة. قال في سر الصناعة: وأما الضرورة التي تدخل لها اللام في خبر إن فمن ضرورات الشعر، ولا يقاس عليها؛ والوجه أن يقال: لأم الحليس عجوز شهربه، كما يقال لزيد قائم. وأورد المؤلف البيت شاهدا على أن اللام فيه "وقيار بها لغريب" هي لام ابتداء أخرجت إلى الخبر، كما في قول الراجز: أم الحليس لعجوز، وأصله: لأم الحليس عجوز.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]