«عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
تفسير قوله تعالى:
﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 75 - 80].
قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
ذكر عز وجل في الآيات السابقة مودة طائفة من أهل الكتاب إضلال المؤمنين، وخيانتهم في الأمور الدينية من لبسهم الحق بالباطل، وكتمانهم الحق وكفرهم، ثم أتبع ذلك في ذكر خيانتهم في تعاملهم في الأمور الدنيوية استمرارًا بفضحهم، وبيان دخائلهم.
قوله: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ الواو: استئنافية، ﴿ مِنْ ﴾: تبعيضية.
﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾ «مَن»: موصولة، أي: الذي إن تأمنه، و﴿ إِنْ ﴾: شرطية، و﴿ تَأْمَنْهُ ﴾: فعل الشرط، والخطاب في قوله: ﴿ تَأْمَنْهُ ﴾ لكل من يصلح خطابه، ﴿ بِقِنْطَارٍ ﴾: أي: على قنطار، فالباء بمعنى: «على»؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 11]، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ﴾ [يوسف: 64]، و(القنطار): المال الكثير.
﴿ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾: قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر: «يؤدِّهْ» بإسكان الهاء، وقرأ الباقون بكسرها: ﴿ يُؤَدِّهِ ﴾.
و﴿ يُؤَدِّهِ ﴾: جواب شرط مجزوم بحذف حرف العلة الياء؛ لأن أصله «يؤديه».
أي: يرده إليك من غير خيانة، كما في الحديث: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خانك»[1].
والمعنى: ومن أهل الكتاب من هو أمين إن أمنته على مالٍ كثير مهما كثر يؤدهِ إليك كاملًا من غير نقص ولا مماطلة، أي: هذه حال فريق منهم، وإذا كان لا ينقص من المال الكثير شيء مع أنه لو أخذ منه الشيء القليل لا يتبين، فأمانته على المال القليل أولى وأحرى.
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: ومِن أهل الكتاب من هو خائن، وهو الذي إن تأمنه بدينار لا يؤدهِ إليك، أي: الذي إن أمِنته على مالٍ قليل مهما قلَّ ولو كان دينارًا واحدًا لا يؤدهِ إليك، أي: هذه حال فريق منهم.
و(الدينار): هو الوحدة من النقد الذهبي، وهو المسمى بـ «الجنيه»، وأصله «دِنَّا» ووزنه أربعة وعشرون قيراطًا، والقيراط ثلاث حبات شعير معتدلة، فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة.
﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ أي: لا يرده إليك.
﴿ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ «إلا»: أداة استثناء، والاستثناء هنا مفرع من أعم الأوقات أو الأحوال، أي: لا يؤده إليك في وقتٍ من الأوقات، أو في حالٍ من الأحوال إلا في وقت دوام قيامك عليه، أو في حال قيامك عليه بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك.
وإذا كان هذا صنيعه في القليل كالدينار ونحوه، ففي الكثير من باب أولى وأحرى.
وقدَّم الجار والمجرور ﴿ عَلَيْهِ ﴾ على متعلقه ﴿ قَائِمًا ﴾ للتأكيد، أي: إذا لم يكن قيامك عليه لم يرجع لك أمانتك.
وذكر القنطار والدينار من باب التمثيل فقط، فمثَّل للمال الكثير بالقنطار، ومثَّل للمال القليل بالدينار.
وقد قيل: «المأمون على الكثير هم النصارى؛ لأن الخيانة فيهم قليلة، والخائن في القليل هم اليهود؛ لأن الغالب عليهم الخيانة».
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ﴾ «ذلك»: إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله: ﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾.
﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ الباء: للسببية، أي: بسبب أنهم.
وضمير الجمع في «أنهم» يعود إلى معنى «مَن» في قوله: ﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾؛ أي: إن ترك هذا الفريق للأداء وخيانتهم الأمانة بسبب أنهم ﴿ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾؛ أي: بسبب قولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.
ويعنون بالأُميين «العرب»؛ لأنهم لا يقرؤون ولا يكتبون، كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]؛ يعني في العرب.
وكما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
وقال صلى الله عليه وسلم: «نحن أمة أمية لا نكتُب ولا نحسب»[2].
والأُمِّي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ كما قال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة: 78].
﴿ سَبِيلٌ ﴾: حرج أو مؤاخذة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 93].
والمعنى: ليس علينا في ديننا في معاملة العرب، ومَن ليس من أهل الكتاب حرج ولا مؤاخذة في أكل أموالهم وأخذ حقوقهم وظلمهم، فيرون إعجابًا منهم بأنفسهم، واحتقارًا لغيرهم أن مَن سواهم لا حُرمة لهم، وقد أكذبهم الله تعالى في هذا المقال.
﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾، الجملة: مستأنفة، أي: ويفترون على الله الكذب بقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾؛ لأنهم ينسبون ذلك إلى الله تعالى وإلى دينه، أي: ليس علينا في ديننا، وفيما جاء في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا.
﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنهم يعلمون أنهم يكذبون فيتعمدون الكذب على الله تعالى، وفي الحديث: «إن يهود قوم بُهت»[3].
فجمعوا بين الخيانة وبين احتقار غيرهم، وبين الكذب على الله تعالى وهم يعلمون ذلك، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 24].
قوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ ﴾ «بلى»: حرف جواب مختص بإبطال النفي، فهو هنا لإبطال ما نفوه بقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ وإثبات ضده، أي: بلى عليهم سبيل في الأُميين فلا يجوز لهم أكل أموالهم وظلمهم وأخذ حقوقهم.
و﴿ مَنْ ﴾: شرطية، ﴿ أَوْفَى ﴾: فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾، و﴿ أَوْفَى ﴾ فيها ثلاث لغات: «أوفى» بإثبات الهمزة، و«وفَّى» بحذف الهمزة مع تخفيف الفاء وتشديدها، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].
وجملة: ﴿ مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ ﴾: استئنافية مقررة للجملة التي دلَّت عليها ﴿ بَلَى ﴾؛ حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يفِ بالعهود مطلقًا.
﴿ بِعَهْدِهِ ﴾: يُحتمل أن يعود الضمير في ﴿ بِعَهْدِهِ ﴾ إلى الله؛ لقوله قبله: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾؛ أي: بلى من أوفى بعهد الله، ويُحتمل أن يعود على ﴿ مَنْ ﴾؛ أي: بلى من أوفى بعهده الذي عاهد عليه.
أي: أتم عهد الله الذي عاهده عليه من الإيمان بالله وكتبه ورسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وامتثل ما أمر الله تعالى به من أداء الأمانة وغير ذلك، وأتم ما بينه وبين الخلق من عهود وعقود، وهي أيضًا مما أوجب الله الوفاء به، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40].
﴿ وَاتَّقَى ﴾ أي: واتقى الله في البعد عما نهى الله تعالى عنه من نقض العهود والأيمان، ونكثها، والخيانة.. وغير ذلك.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾: جواب الشرط «من»، وربط الفاء؛ لأنه جملة إسمية، أي: فإن الله يحب المتقين الذين اتقوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والوفاء بعهده وعدم نقضه.
وأظهر في موضع الإضمار، ولم يقل: «فإن الله يحبه»، بل قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾؛ لبيان علة الحكم؛ أي: يحبهم لتقواهم، وليعم هذا الحكم كل من اتقى فإن الله يحبه، إضافة إلى ما في الإظهار مقام الإضمار من تنبيه المخاطب.
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
سبب النزول:
عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجرٌ؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان»، فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة»؟ قلت: لا، فقال لليهودي: «احلف» قلت: يا رسول الله، إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ الآية»[4].
وعن عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف بالله، لقد أعطي بها ما لم يعط؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزلت: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ الآية»[5].
امتدح الله سبحانه وتعالى من أوفى بعهده واتقى الله، وبيَّن محبته للمتقين، ثم أتبع ذلك بذم ووعيد الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا في إشارة إلى أهل الكتاب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾، وهكذا كل من سلك طريقهم.
قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾؛ أي: إن الذين يعتاضون ويستبدلون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، والعهد: الميثاق والعقد.
و«عهد الله»: ما أخذه عليهم من الميثاق من الإيمان به، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وبيان ما عندهم من العلم في كتبهم في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187]، وقال تعالى: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41].
وأيضًا ما بينهم وبين الخلق من عهود وعقود؛ فهي من عهد الله؛ لأن الله تعالى أوجب الوفاء بها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].
﴿ وَأَيْمَانِهِمْ ﴾: معطوف على «عهد الله»، أي: ويشترون بأيمانهم، و«الأيمان» جمع (يمين) وهو الحلف، أي: ويأخذون بحلفهم وأيمانهم الكاذبة الفاجرة ثمنًا قليلًا.
والمعنى: إن الذين يعتاضون بعهد الله وبأيمانهم عوضًا زهيدًا من المال وحطام الدنيا ومتاعها الزائل، فينقضون عهد الله، وينكثون في أيمانهم، ويحلفون الأيمان الكاذبة من أجل ذلك، فيدَّعون ما ليس لهم ويحلفون على ذلك، وينكرون ما يجب عليهم ويحلفون على ذلك.
﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾ «أولئك»: خبر «إنَّ» في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ﴾، والإشارة فيها إلى الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا.
و«الخلاق»: الحظ والنصيب؛ كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 200، 201].
فقابل عز وجل بين قوله: ﴿ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ وقوله: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ [البقرة: 202]، فدل على أن (الخلاق) هو النصيب.
والمعنى: أولئك الذين يشترون بعهدهم وأيمانهم ثمنًا قليلًا لا حظ ولا نصيب لهم في ثواب الدار الآخرة ونعيمها، وهذا يدل على كفرهم بسبب هذا العمل؛ لأنه لا يُنفى نصيب الآخرة إلا عمن كان كافرًا.
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، هذا معطوف على قوله: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾.
ونفي تكليم الله تعالى لهم في الآخرة ونظره إليهم، وتزكيته لهم هو من أعظم نصيب الآخرة الذي حرموه، ونصَّ عليه والله أعلم؛ لبيان عِظَم ما حُرِمُوه.
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ﴾؛ أي: لا يكلمهم الله تعالى تكليم لُطف بهم ورضا عنهم، وبما يَسُرُّهم، كما في تكليم الله - عز وجل - للمؤمنين، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله - عز وجل - يُدْنِي الْـمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ»[6]، فيقرره بذنوبه، ويقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقول عز وجل: «إِنِّي سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرهَا لَك الْيَوْم»[7].
وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ قال: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟...» الحديث[8].
أما تكليم الله - عز وجل - لهؤلاء المذكورين وغيرهم من الكفار تكليم سخط وإهانة وتقريع وتوبيخ لهم، وبما يسوؤهم، فهو ثابت كما في قوله تعالى مخاطبًا أهل النار: ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108]، وغير ذلك.
﴿ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾: قرأ حمزة بضم الهاء «إليهُم»، وقرأ الباقون بكسرها، أي: ولا ينظر إليهم نظر رحمة ورأفة.
﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ أي: يوم البعث والمعاد والحساب والجزاء، وسُمِّي يوم القيامة لقيام الناس فيه من قبورهم لرب العالمين، كما قال الله تعالى في سورة المطففين: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 4 - 6]، ولقيام الحساب فيه، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
ولقيام الأشهاد فيه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
ولقيام العدل والقسط فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، والله تعالى لا ينظر إليهم نظر رحمة ورأفة لا في الدنيا ولا يوم القيامة، لكن حرمانهم من ذلك يوم القيامة أعظم عليهم؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وكرباته وعذابه.
﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾؛ أي: ولا يطهرهم مما تلبَسُّوا به من رجس الكفر ودنس المعاصي والذنوب، ولا يغفر لهم يوم القيامة، كما أنه لا يطهرهم في الدنيا بسبب كفرهم وعدم إيمانهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110].
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: وهو عذاب النار، والعذاب: النكال والعقوبة.
﴿ أَلِيمٌ ﴾: على وزن «فعيل» بمعنى «مفعل»، أي: مؤلم موجِع حسيًّا ومعنويًّا، فرتب الله تعالى على هذا الفعل- وهو الشراء بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا - خمس عقوبات.
وهي: حرمانهم من أي نصيب في الآخرة، ومن تكليم الله لهم تكليم رضا، ومن نظر الله لهم نظر رحمة ورأفة وعطف، ومن تزكية الله لهم، مع توعدهم بالعذاب الأليم.
فهؤلاء وإن نالوا باستبدالهم بعهد الله وأيمانهم قليلًا من حطام الدنيا ومتاعها الحقير الفاني، فقد حرموا نصيب الآخرة التي هي دار الحياة الحقة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].