
21-07-2025, 11:50 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثامن عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ طه
الحلقة (1009)
صــ 281 إلى صــ 290
وروى ذلك آخرون: "عليّ ثنى" : أي مرّة بعد أخرى، وقالوا: طوى وثنى بمعنى واحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) كنا نحدّث أنه واد قدّس مرّتين، وأن اسمه طُوًى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه قدّس طوى مرّتين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال الحسن: كان قد قدِّس مرّتين.
وقال آخرون: بل طُوى: اسم الوادي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (طُوى) : اسم للوادي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: طُوى: قال: اسم الوادي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) قال: ذاك الوادي هو طوى، حيث كان موسى، وحيث كان إليه من الله ما كان، قال: وهو نحو الطور.
وقال آخرون: بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا صالح بن إسحاق، عن جعفر بن برقان، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله تبارك وتعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) قال: طأ الوادي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا الحسن، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله (طُوًى) قال: طأ الوادي.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن
سعيد بن جبير، في قول الله (طُوًى) قال: طأ الأرض حافيا، كما تدخل الكعبة حافيا، يقول: من بركة الوادي.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (طُوًى) طأ الأرض حافيا.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة (طُوَى) بضم الطاء وترك التنوين، كأنهم جعلوه اسم الأرض التي بها الوادي، كما قال الشاعر:
نَصَرُوا نَبِيَّهُم وَشَدُّوا أزْرَهُ ... بحُنْينَ حِينَ تَوَاكُلِ الأبْطالِ (1)
فلم يجرّ حنين، لأنه جعله اسما للبلدة لا للوادي: ولو كان جعله اسما للوادي لأجراه كما قرأت القرّاء (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) وكما قال الآخر:
ألَسْنا أكْرَمَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلا ... وأعْظَمَهُمْ بِبَطْنِ حرَاءَ نارَا (2)
فلم يجرّ حراء، وهو جبل، لأنه حمله اسما للبلدة، فكذلك طُوًى "في قراءة من لم يجره حمله اسما للأرض. وقرأ ذلك عامَّة قراء أهل الكوفة: (طُوى) بضم الطاء والتنوين; وقارئو ذلك كذلك مختلفون في معناه على ما قد ذكرت من اختلاف أهل التأويل; فأما من أراد به المصدر من طويت، فلا مؤنة في تنوينه، وأما من أراد أن يجعله اسما للوادي، فإنه إنما ينونه لأنه اسم ذكر لا مؤنث، وأن لام الفعل منه ياء، فزاده ذلك خفة فأجراه كما قال الله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) إذ كان حنين اسم واد، والوادي مذكر."
قال أبو جعفر: وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين، لأنه إن يكن اسما للوادي فحظه التنوين لما ذكر قبل من العلة لمن قال ذلك، وإن كان مصدرا أو مفسرا، فكذلك أيضا حكمه التنوين، وهو عندي اسم الوادي. وإذ كان ذلك كذلك، فهو في موضع خفض ردًّا على الوادي.
(1) البيت لحسان بن ثابت (اللسان: حنن) . والشاهد فيه أن حنين غير مصروف، لأنه جعله اسما للبلدة، كما قال المؤلف أو لبقة.
(2) البيت في (اللسان: حرى) قال الجوهري: لم يصرف حراء لأنه ذهب به إلى البلدة التي هو بها، وفي الحديث "كان يتحنث بحراء" مصروفًا، وهو جبل من جبال مكة، وفي رواية اللسان: طرا، في موضع، رحلا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة القرّاء الذين قرءوا "وأنَّا" بتشديد النون، و (أنا) بفتح الألف من "أنا" ردّا على: نودي يا موسى، كأن معنى الكلام عندهم: نودي يا موسى إني أنا ربك، وأنا اخترتك، وبهذه القراءة قرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة. وأما عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة فقرءوه: (وأنا اخْتَرْتُكَ) بتخفيف النون على وجه الخبر من الله عن نفسه أنه اختاره.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما قرّاء أهل العلم بالقرآن، مع اتفاق معنييهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه، وتأويل الكلام: نودي أنَّا اخترناك. فاجتبيناك لرسالتنا إلى من نرسلك إليه (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) يقول: فاستمع لوحينا الذي نوحيه إليك وعه، واعمل به.
(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ) يقول تعالى ذكره: إنني أنا المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، لا إلَهَ إلا أنا فلا تعبد غيري، فإنه لا معبود تجوز أو تصلح له العبادة سواي (فاعْبُدْنِي) يقول: فأخلص العبادة لي دون كلّ ما عبد من دوني (وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: معنى ذلك: أقم الصلاة لي فإنك إذا أقمتها ذكرتني.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) قال: إذا صلى ذكر ربه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) قال: إذا ذكر عَبد ربه.
قال آخرون: بل معنى ذلك: وأقم الصلاة حين تذكرها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن مُغيرة، عن إبراهيم في قوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) قال: يصليها حين يذكرها.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: ثني يونس ومالك بن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّها إذَا ذَكَرَها، قال الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) " . وكان الزهري يقرؤها: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) بمنزلة فعلى.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: أقم الصلاة لتذكرني فيها، لأن ذلك أظهر معنييه، ولو كان معناه: حين تذكرها، لكان التنزيل: أقم الصلاة لذكركها. وفي قوله: (لِذِكْرِي) دلالة بينة على صحة ما قال مجاهد في تأويل ذلك، ولو كانت القراءة التي ذكرناها عن الزهري قراءة مستفيضة في قراءة الأمصار، كان صحيحا تأويل من تأوّله بمعنى: أقم الصلاة حين تذكرها، وذلك أن الزهري وجَّه بقراءته (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) بالألف لا بالإضافة، إلى أقم لذكراها، لأن الهاء والألف حذفتا، وهما مرادتان في الكلام ليوفق بينها وبين سائر رءوس الآيات، إذ كانت بالألف والفتح. ولو قال قائل في قراءة الزهري هذه التي ذكرنا عنه، إنما قصد الزهري بفتحها تصييره الإضافة ألفا للتوفيق بينه وبين رءوس الآيات قبله وبعده، لأنه خالف بقراءته ذلك كذلك من قرأه بالإضافة، وقال: إنما ذلك كقول الشاعر:
أُطَوّفُ ما أُطَوّفُ ثُمَّ آوي ... إلى (1) أمَّا وَيُرْوِيني النَّقِيعُ (2)
وهو يريد: إلى أمي، وكقول العرب: يا أبا وأما، وهي تريد: يا أبي وأمي،
(1) في الأصل: إذ، ولعله تحريف عن "إلى" .
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصور الجامعة ص 196) قال: والعرب تقول: بيتًا وأما، يريدون: بأبي وأمي ومثله (يا ويلتا أعجزت) وإن شئت جعلتها يا إضافة، وإن شئت يا ندبة. أه. والنقيع والنقيعة: المحض من اللبن يبرد، قال ابن بري: شاده قول الشاعر: ". . ويكفين النقيع" .
كان له بذلك مقال.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) }
يقول تعالى ذكره: إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية (أَكَادُ أُخْفِيهَا) فعلى ضمّ الألف من أخفيها قراءة جميع قرّاء أمصار الإسلام، بمعنى: أكاد أخفيها من نفسي، لئلا يطلع عليها أحد، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَكَادُ أُخْفِيهَا) يقول: لا أظهر عليها أحدا غيري.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) قال: لا تأتيكم إلا بغتة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) قال: من نفسي.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (أَكَادُ أُخْفِيهَا) قال: من نفسي.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (أَكَادُ أُخْفِيهَا) قال: من نفسي.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا محمد بن عبيد الطنافسي، قال:
ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله (أَكَادُ أُخْفِيهَا) قال: يخفيها من نفسه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَكَادُ أُخْفِيهَا) وهي في بعض القراءة: أخفيها من نفسي. ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء المرسلين.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: في بعض الحروف: (إنَّ السَّاعَةَ آتِيهٌ أَكَادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي) .
وقال آخرون: إنما هو: (أكادُ أَخْفِيها) بفتح الألف من أخفيها بمعنى: أظهرها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا محمد بن سهل، قال: سألني رجل في المسجد عن هذا البيت.
دَابَ شَهْرَيْنِ ثُمَّ شَهْرًا دَمِيكًا ... بِأرِيكينِ يَخْفِيان غَمِيرًا (1)
فقلت: يظهران، فقال ورقاء بن إياس وهو خلفي: أقرأنيها سعيد بن جبير (أكادُ أَخْفِيها) بنصب الألف، وقد رُوي عن سعيد بن جبير وفاق لقول الآخرين الذين قالوا: معناه: أكاد أخفيها من نفسي.
* ذكر الرواية عنه بذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء، عن سعيد بن جبير ومنصور، عن مجاهد، قالا (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) قالا من نفسي.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير (أَكَادُ أُخْفِيهَا) قال: من نفسي.
(1) البيت لكعب (اللسان، والتاج، دمك) قالا: يقال أقمت عنده شهرًا دميكا، أي شهر تامًّا، قال كعب: "داب شهرين ثم شهرًا دميكًا" أه. ولم يذكر الشطر الثاني من البيت. وفي (معجم ما استعجم للبكري ص 144) قال أبو عبيدة: أريك في بلاد ذبيان. قال: وهما أريكان: أريك الأسود، وأريك الأبيض، والأريك: الجبل الصغير ويخيفان: بفتح الياء يخرجان والغير: له معاني كثيرة، منها في تاج العروس: الغمير، كأمير: حب البهمي الساقط من سنبله حين ييبس، أو نبات أخضر قد غمره اليبس. . إلخ.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، قول من قال: معناه: أكاد أخفيها من نفسي، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء، والذي ذُكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلا مستفيضا.
فإن قال قائل: ولم وجهت تأويل قوله (أَكَادُ أُخْفِيهَا) بضم الألف إلى معنى: أكاد أخفيها من نفسي، دون توجيهه إلى معنى: أكاد أظهرها، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين: أحدهما الإظهار، والآخر الكتمان، وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه، إذ كان محالا أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم، والله تعالى ذكره لا يخفى عليه خافية؟ قيل: الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وإنما وجَّهنا معنى (أُخْفِيها) بضمّ الألف إلى معنى: أسترها من نفسي، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب: الستر. يقال: قد أخفيت الشيء: إذا سترته، وأن الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهار، اعتمدوا على بيت لامرئ القيس ابن عابس الكندي.
حُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال: أنشدنيه أبو الخطاب، عن أهله في بلده:
فإنْ تُدْفِنُوا الدَّاءَ لا نُخْفِهِ ... وإنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُد (1)
بضمّ النون من لا نخفه، ومعناه: لا نظهره، فكان اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت، على ما وصفت
(1) البيت لامرئ القيس بن عابس الكندي. استشهد به صاحب (اللسان: خفا) على أن قوله لا نخفه، بفتح النون أي لا نظهره. وكذا ترى قوله تعالى: "أكاد أخفيها" أي أظهرها، حكاه اللحياني، عن الكسائي، عن محمد بن سهل، عن سعيد بن جبير. أه. قال في اللسان: يقال خفيت الشيء: أظهرته واستخرجته، يقال خفي المطر الفئار: إذا أخرجهن من أنفاقهن، أي من جحرتهن. قال امرئ القيس يصف فرسا: خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشي مجلب
وخفيت الشيء أخفيه: كتمته، وهو من الأضداد، وأخفيت الشيء: سترته وكتمته، ورواية المؤلف البيت كما في معاني القرآن للفراء. وفي (اللسان؛: خفا) : "فإن تكتموا السر لا نخفه" .
من ضم النون من نخفه، وقد أنشدني الثقة عن الفرّاء:
فإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ
بفتح النون من نخفه، من خفيته أخفيه، وهو أولى بالصواب لأنه المعروف من كلام العرب.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان الفتح في الألف من أخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا، ثبت وصحّ الوجه الآخر، وهو أن معنى ذلك. أكاد استرها من نفسي.
وأما وجه صحة القول في ذلك، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم، فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ: قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم، وما قد عرفوه في منطقهم وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا. وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم، فيما استفاض القول به منهم، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر، فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين، وعلى وجه يحتمل الكلام من غير وجهه المعروف، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم، فقال بعضهم: يحتمل معناه: أريد أخفيها، قال: وذلك معروف في اللغة، وذُكر أنه حُكي عن العرب أنهم يقولون: أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم، وقال: معناه: لا أنزل إلا عليهم. قال: وحُكي: أكاد أبرح منزلي: أي ما أبرح منزلي، واحتجّ ببيت أنشده لبعض الشعراء:
كادَتْ وكِدْتُ وتِلكَ خَيْرُ إرَادَةٍ ... لَوْ عادَ مِنْ عَهْد الصَّبابَةِ ما مَضَى (1)
(1) البيت في (اللسان: كيد) قال: ويقال: فلان يكيد أمرا ما أدري ما هو؟ إذا كان يريغه، ويحتال له، ويسعى له. وقال: "بلغوا الأمر الذي كادوا" : يريد: طلبوا أو أرادوا، وأنشد أبو بكر في كاد بمعنى أراد، للأفوه: فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
أراد: الذي أرادوا، وأنشد: كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو (كان) من أمر الصبابة ما مضى
قال: معناه: ما أرادت، قال: ويحتمله قوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا لأن الذي عاين من الظلمات آيسه من التأمل ليده، والإبصار إليها، والبيت شاهد على أن كاد بمعنى أراد، استشهد به المؤلف عند قوله تعالى: أَكَادُ أُخْفِيهَا.
وقال: يريد: بكادت: أرادت، قال: فيكون المعنى: أريد أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى. قال: ومما يُشبه ذلك قول زيد الخيل:
سريع إلى الهَيْجاءِ شاكٍ سِلاحُهُ ... فَمَا أنْ تَكادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ (1)
وقال: كأنه قال: فما يتنفس قرنه، وإلا ضعف المعنى; قال: وقال ذو الرُّمَّة:
إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبّ مَيَّةَ يَبْرَحُ (2)
قال: وليس المعنى: لم يكد يبرح: أي بعد يُسر، ويبرح بعد عُسر; وإنما
(1) البيت لزيد الخيل كما قال المؤلف. واستشهد به صاحب (اللسان: كاد) على أن كاد قد تجيء صلة في الكلام. قال: وتكون كاد صلة للكلام (زائدة) ، أجاز ذلك الأخفش وقطرب وأبو حاتم، واحتج قطرب بقول الشاعر: "سريع. . إلخ" . معناه: ما يتنفس قرنه، ولكن أبا جعفر الطبري جعله شبيهًا بالشاهد السابق عليه، وتوجيه قطرب لهذا الشاهد أوضح وأحسن، وإن التي قبل يكاد: زائدة، أو نافية مؤكدة لما النافية قبلها.
(2) هذا البيت من حائية ذي الرمة المشهورة (ديوان طبعة كيمبردج سنة 1919 ص 78) قال شارحه: النأي البعد، رسيس الهوى: مسه، وما خفي منه، أو أوله، ويقال: لم يجد رسيس الحمى، واستشهد المؤلف بالبيت على أن المعنى فيه: لم يبرح - أو لم يرد يبرح؛ وعلى هذا يكون الفعل (يكاد) زائدًا في الكلام، وقد جاء في (اللسان: رسس) رواية أخرى للبيت، تؤيد ما ذهب إليه المؤلف، من أن المعنى على زيادة (يكاد) ، وهي: إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وهذه الرواية هي التي عدل إليها الشاعر، حين خطأه ابن شبرمة قاضي البصرة لما سمعه ينشد القصيدة في المربد. ولكن المحققين قالوا إن بديهة ذي الرمة في الرواية الأولى، كانت أجود من روايته، (في الرواية الثانية) . وقد بين العلامة المحقق رضي الله الديلي الأستراباذي: محمد بن الحسن، صواب الرواية الأولى، بأن معنى لم يكد: لم يقرب وأن نفي مقاربة الشيء أبلغ من نفي الشيء فيكون معنى البيت: إذا غير البعاد قلوب المحبين، فبعاد مية عني لا يذهب بما أحس لها من حب ثابت مقيم ولا يقارب أن يذهب به. (وانظر شرح الرضي على كافية ابن الحاجب، طبعة الآستانة 2: 306 أفعال المقاربة) . وقد أبطل الرضي زعم من زعم من النحاة أن "نفي كاد إثبات وأن إثباته نفي" وهو كلام نفيس دال على ذكائه ودقة فهمه.
المعنى: لم يبرح، أو لم يرد يبرح، وإلا ضعف المعنى; قال: وكذلك قول أبي النجم:
وإنْ أتاكَ نَعِيّ فانْدُبَنَّ أبا ... قَدْ كَادَ يَضطْلِعُ الأعْداءَ والخُطَبَا (1)
وقال: يكون المعنى: قد اضطلع الأعداء، وإلا لم يكن مدحا إذا أراد كاد ولم يرد يفعل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الساعة آتية أكاد، قال: وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه: أكاد أن آتي بها، قال: ثم ابتدأ فقال: ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، قال: وذلك نظير قول ابن ضابي:
هَمَمَتُ وَلَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ ولَيْتَنِي ... تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكِي أقارِبُهُ (2)
فقال: كدت، ومعناه: كدت أفعل.
وقال آخرون: معنى (أُخفيها) أظهرها، وقالوا: الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار، واستشهد بعضهم لقيله ذلك ببيت الفرزدق:
(1) البيت لأبي النجم كما قال المؤلف، والشاهد في قوله "كاد يضطلع" فقد ذهب المؤلف أن معناه: قد اضطلع الأعداء وإلا لم يكن مدحا إذا أراد كاد. ولم يرد يفعل، وعلى التخريج للبيت يكون الفعل (كاد) صلة (زائدة) ، مثل الشاهدين السابقين عليه عنده. ويضطلع الأعداء: أي يضطلع بهم وبالخطب، أسقط البا، فعدى الفعل بنفسه إلى المعمول الذي كان مجرورا بالباء قبل إسقاطها. يقال اضطلع بحمله، أي قوي عليه ونهض به. وهو من الضلاعة أي القوة. وفي (اللسان: ضلع) : واضطلع الحمل أي احتمله أضلاعه. وقال ابن السكيت: يقال: هو مضطلع بحمله، أي قوي على حمله، وهو مفتعل مج الضلاعة. والنعي: الناعي الذي يخبر بموت من مات.
(2) البيت لضابئ ابن الحارث البرجمي، حبسه الخليفة عثمان، لأنه كان فاحشا، هجا قوما فأراد عثمان تأديبه، فلما دعي ليؤدب، شد سكينا في ساقه، ليقتل بها عثمان، فعثر عليه، ثم ضرب وأعيد إلى السجن حتى مات فيه. والبيت من مقطوعة لأمية له أنشدها أبو العباس المبرد انظر (رغبة الآمل، بشرح الكامل للمرصفي 4: 91) . فلا تتبعيني إن هلكت ملامة ... فليس بعار قتل من لا أقاتله
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
والشاهد في قوله: كدت، أي كدت أفعل ما هممت به من قتل عثمان. وهو نظير ما في القرآن (إن الساعة آتية أكاد) ذهب قوم إلى أن معناه: أكاد أن آتي بها. ثم ابتدأ فقال: ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى والبيت لضابئ لا لابنه كما قال المؤلف.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|