
21-07-2025, 03:21 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,114
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الكهف
الحلقة (977)
صــ 601 إلى صــ 610
والأرض، وما فيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف، وحجتي بكل ذلك ثابتة على هؤلاء المشركين من قومك، وغيرهم من سائر عبادي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) قال محمد بن عمرو في حديثه، قال: ليسوا عجبا بأعجب آياتنا، وقال الحارث في حديثه بقولهم: أعجب آياتنا: ليسوا أعجب آياتنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) كانوا يقولون هم عجب.
حدثنا بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) أي وما قدروا من قَدْر فيما صنعت من أمر الخلائق، وما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عَجَبا، فإن الذي آتيتك من العلم والحكمة أفضل منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وإنما قلنا: إن القول الأول أولى بتأويل الآية، لأنّ الله عزّ وجلّ أنزل قصة أصحاب الكهف على نبيه احتجاجا بها على المشركين من قومه على ما ذكرنا في الرواية عن ابن عباس، إذ سألوه عنها اختبارا منهم له بالجواب عنها صدقه، فكان تقريعهم بتكذييهم بما هو أوكد عليهم في الحجة مما سألوا عنهم، وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الخبر عما أنعم الله على رسوله من النعم.
وأما الكهف، فإنه كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قصّ الله شأنهم في هذه السورة.
وأما الرقيم، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم: هو اسم قرية، أو واد على اختلاف بينهم في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن عبد الأعلى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: يزعم كعب أن الرقيم: القرية.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) قال: الرقيم: واد بين عُسْفان وأيَلة دون فلسطين، وهو قريب من أيَلة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية، قال: الرقيم: واد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) كنَّا نحدّث أن الرقيم: الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله (الرَّقِيمِ) قال: يزعم كعب: أنها القرية.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله: (الرَّقِيمِ) قال: يقول بعضهم: الرقيم: كتاب تبانهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
حدثنا عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: أما الكهف: فهو غار الوادي،
والرقيم: اسم الوادي.
وقال آخرون: الرقيم: الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) يقول: الكتاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا أبي، عن ابن قيس، عن سعيد بن جبير، قال: الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرقيم: كتاب، ولذلك الكتاب خبر فلم يخبر الله عن ذلك الكتاب وعنا فيه، وقرأ: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ) .
وقال آخرون: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الرقيم: الجبل الذي فيه الكهف.
قال أبو جعفر: وقد قيل إن اسم ذلك الجبل: بناجلوس.
حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: وقد قيل: إن اسمه بنجلوس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبئي (1) أن اسم جبل الكهف: بناجلوس. واسم الكهف: حيزم. والكلب: حُمران.
(1) شعيب الجبئي: هو شعيب بن الأسود الجبئي المحدث من أقران طاووس، أخذ العلم عنه محمد بن إسحاق وسلمة بن وهران. وهو منسوب إلى الجبأ، بالهمز والقصر، كما قال الهمداني في صفة جزيرة العرب في مواضع، وهو كورة المعافر، بالقرب من الجند (انظر معجم ما استعجم للبكري، طبعة القاهرة، في رسم الجبأ ص 360) .
وقد روي عن ابن عباس في الرقيم ما حدثنا به الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه، إلا حنانا، والأوّاه، والرقيم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب، أم بنيان؟ .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في الرقيم أن يكون معنيا به: لوح، أو حجر، أو شيء كُتب فيه كتاب، وقد قال أهل الأخبار: إن ذلك لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلى الكهف.
ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح في خزانة الملك، وقال بعضهم: بل جُعل على باب كهفهم، وقال بعضهم: بل كان ذلك محفوظا عند بعض أهل بلدهم، وإنما الرقيم: فعيل، أصله: مرقوم، ثم صُرف إلى فعيل، كما قيل للمجروح: جريح، وللمقتول: قتيل، يقال منه: رقمت كذا وكذا: إذا كتبته، ومنه قيل للرقم في الثوب رقم، لأنه الخطّ الذي يعرف به ثمنه، ومن ذلك قيل للحيَّة: أرقم، لما فيه من الآثار، والعرب تقول: عليك بالرقمة، ودع الضفة: بمعنى عليك برقمة الوادي حيث الماء، ودع الضفة الجانبة. والضفتان: جانبا الوادي، وأحسب أن الذي قال الرقيم: الوادي، ذهب به إلى هذا، أعني به إلى رقمة الوادي.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة، وقوله وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا
رَشَدًا) يقول: وقالوا: يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، (رَشَدا) يقول: سدادا إلى العمل بالذي تحبّ.
وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفِتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه، فقال بعضهم: كان سبب ذلك، أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى، وكان لهم ملك عابد وَثَن، دعاهم إلى عبادة الأصنام، فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم، أو يقتلهم، فاستخفوا منه في الكهف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو في قوله: (أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) كانت الفِتية على دين عيسى على الإسلام، وكان ملكهم كافرا، وقد أخرج لهم صنما، فأبَوا، وقالوا: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) قال: فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله، فقال أحدهم: إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه، فانطلقوا بنا نكن فيه، فدخلوه، وفُقدوا في ذلك الزمان فطُلبوا، فقيل: دخلوا هذا الكهف، فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشدّ من أن نردم عليهم هذا الكهف، فبنوه عليهم ثم ردموه، ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى، ورفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم، فقال بعضهم لبعض: (كَمْ لَبِثْتُمْ) ؟ ف (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ... ) حتى بلغ (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) وكان ورق ذلك الزمان كبارا، فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام وشراب، فلما ذهب ليخرج، رأى على باب الكهف شيئا أنكره، فأراد أن يرجع، ثم مضى حتى دخل المدينة، فأنكر ما رأى، ثم أخرج درهما، فنظروا إليه فأنكروه، وأنكروا الدرهم، وقالوا: من أين لك هذا، هذا من ورِق غير هذا الزمان، واجتمعوا عليه يسألونه، فلم يزالوا به حتى انطلفوا به إلى ملكهم
، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون، فنظروا في ذلك اللوح، وسأله الملك، فأخبره بأمره، ونظروا في الكتاب متى فقد، فاستبشروا به وبأصحابه، وقيل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك، فانطلق وانطلقوا معه، ليريهم، فدخل قبل القوم، فضرب على آذانهم، فقال الذين غلبوا على أمرهم: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: مَرِج أمر أهل الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم على ذلك بقايا على أمر عيسى ابن مريم، متمسكون بعبادة الله وتوحيده، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم، ملك من الروم يقال له: دَقْيَنوس، كان قد عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم، كان ينزل في قرى الروم، فلا يترك في قرية ينزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم إلا قتله، حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نزل دقينوس مدينة الفِتية أصحاب الكهف، فلما نزلها دقينوس كبر ذلك على أهل الإيمان، فاستخْفُوا منه وهربوا في كلّ وجه. وكان دقينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيمان فيُجمعوا له، واتخذ شُرَطا من الكفَّار من أهلها، فجعلوا يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم التي يستخفون فيها، فيستخرجونهم إلى دقينوس، فقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت فيخيرهم بين القتل، وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ويُفْظَع بالقتل فيَفتِتن. ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل، فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله، جعلوا يُسْلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون، ثم يربط ما قطع من أجسادهم، فيعلَّق على سور المدينة من نواحيها كلها، وعلى كلّ باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان، فمنهم من كفر فتُرك، ومنهم من صُلب على دينه فقُتل، فلما رأى ذلك الفِتية أصحاب الكهف، حزنوا حزنا شديدا، حتى تغيرت ألوانهم،
ونَحِلت أجسامهم، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة، والتحميد، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والبكاء، والتضرّع إلى الله، وكانوا فتية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم.
فحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لقد حُدّثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورق، قال ابن عباس: فكانوا كذلك في عبادة الله ليلهم ونهارهم، يبكون إلى الله، ويستغيثونه، وكانوا ثمانية نفر: مَكْسِلمينا، وكان أكبرهم، وهو الذي كلم الملك عنهم، ومُحْسيميلنينا، وَيمليخا، ومَرْطوس، وكشوطوش، وبيرونس، ودينموس، ويطونس قالوس (1) فلما أجمع دقينوس أن يجمع أهل القرية لعبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، بكوا إلى الله وتضرعوا إليه، وجعلوا يقولون: اللهم رب السماوات والأرض، لن ندعو من دونك إلها (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك، ومُنِعوا عبادتك إلا سرّا، مستخفين بذلك، حتى يعبدوك علانية، فبينما هم على ذلك، عرفهم عُرفاؤهم من الكفار، ممن كان يجمع أهل المدينة لعبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، وذكروا أمرهم، وكانوا قد خَلوا في مُصَلّى لهم يعبدون الله فيه، ويتضرّعون إليه، ويتوقَّعون أن يُذْكَروا لدقينوس، فانطلق أولئك الكفرة حتى دخلوا عليهم مُصلاهم، فوجدوهم سجودا على وجوههم يتضرّعون، ويبكون، ويرغبون إلى الله أن ينجيهم من دقينوس وفتنته، فلما رآهم أولئك الكفرة من عُرفائهم قالوا لهم: ما خَلَّفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه! ثم خرجوا من عندهم، فرفعوا أمرهم إلى دقينوس، وقالوا: تجمع الناس للذبح لآلهتك، وهؤلاء فِتية من أهل بيتك، يسخَرون منك، ويستهزئون بك، ويعصون أمرك، ويتركون آلهتك، يَعمِدون إلى مُصَلّى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريم يصلون فيه، ويتضرّعون إلى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى، فلم تتركهم يصنعون هذا وهم بين ظَهراني
(1) قال القرطبي في تفسيره (10: 360) وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه، ونقلها عن الطبري.
سلطانك ومُلكك، وهم ثمانية نفر: رئيسهم مكسلمينا، وهم أبناء عظماء المدينة؟ فلما قالوا ذلك لدقينوس، بعث إليهم، فأتي بهم من المصلَّى الذي كانوا فيه تفيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم، ولمن حضر منَّا من الناس؟ اختاروا مني: إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس، وإما أن أقتلكم! فقال مكسلمينا: إن لنا إلها نعبده ملأ السموات والأرض عظَمتُه، لن ندعو من دونه إلها أبدا، ولن نقر بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنا نعبد الله ربنا، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد، وإياه نسأل النجاة والخير. فأما الطواغيت وعبادتها، فلن نقرّ بَها أبدا، ولسنا بكائنين عُبَّادا للشياطين، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عُبادا لها، بعد إذ هدانا الله له رهبتَك، أو فَرَقا من عبودتك، اصنع بنا ما بدا لك، ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقينوس مثل ما قال، قال: فلما قالوا ذلك له، أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثم قال: أما إذ فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم أن تكونوا من أهل مملكتي وبطانتي، وأهل بلادي، وسأفرُغ لكم، فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجِّل ذلك لكم إلا أني أراكم فتيانا حديثة أسنانُكم، ولا أحبُّ أن أهلككم حتى أستأنّي بكم، وأنا جاعل لكم أجلا تَذكرون فيه، وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة، فنزعت عنهم، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده، وانطلق دقينوس مكانه إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبا منها لبعض ما يريد من أمره.
فلما رأى الفتية دقينوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم، فأتمروا بينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بيت أبيه، فيتصدّقوا منها، ويتزوّدوا بما بقي، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له: بنجلوس فيمكثوا فيه، ويعبدوا الله حتى إذا رجع دقينوس أتوه فقاموا بين يديه، فيصنع بهم ما شاء، فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم، فأخذ من بيت أبيه نفقة، فتصدّق منها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، واتبعهم كلْب لهم، حتى أتوا ذلك الكهف، الذي في ذلك الجبل، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد، ابتغاء
وجه الله تعالى، والحياة التي لا تنقطع، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له يمليخا، فكان على طعامهم، يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا من أهلها، وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم، فكان يمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثم يأخذ ورقه، فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا، ويتسمَّع ويتجسَّس لهم الخبر، هل ذكر هو وأصحابه بشيء في ملإ المدينة، ثم يرجع إلى أصحابه بطعامهم وشرابهم، ويخبرهم بما سمع من أخبار الناس، فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم قدم دقينوس الجبَّار المدينة التي منها خرج إلى مدينته، وهي مدينة أفَمْوس، فأمر عظماء أهلها، فذبحوا للطواغيت، ففزع في ذلك أهل الإيمان، فتخبئوا في كل مخبأ، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن الجبار دقينوس قد دخل المدينة، وأنهم قد ذكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت، فلما أخبرهم بذلك، فزعوا فزعا شديدا، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله، ويتضرّعون إليه، ويتعوّذون به من الفتنة، ثم إن يمليخا قال لهم: يا إخوتاه، ارفعوا رؤوسكم، فاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به، وتوكلوا على ربكم، فرفعوا رؤوسهم، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوّفا على أنفسهم، فطعموا منه، وذلك مع غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم، مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر، فبينا هم على ذلك، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون، مصدّقون بالوعد، ونفقتهم موضوعة عندهم، فلما كان الغد فقدهم دقينوس، فالتمسهم فلم يجدهم، فقال لعظماء أهل المدينة: لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أوّل شأنهم، لجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتي، ولو فعلوا لتركتهم، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم، فقال له عظماء أهل المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مَردة عُصاة، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنتَ أجَّلتهم أجلا وأخَّرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينزعوا ولم يندموا على ما فعلوا، وكانوا منذ انطلقت يبذرون أموالهم بالمدينة، فلما علموا بقدومك فرّوا فلم يُروا بعد، فإن أحببت أن تُؤْتَى بهم، فأرسل إلى آبائهم فامتحنهم، واشدُد عليهم يدُلوك عليهم، فإنهم مختبئون منك، فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار، غضب غضبا شديدا. ثم أرسل إلى آبائهم، فأتي بهم فسألهم عنهم وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري، وتركوا آلهتي، ائتوني بهم، وأنبئوني بمكانهم، فقال له آباؤهم: أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك، قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم، فلم تقتلنا في قوم مردة، قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس، وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هرَبا منك، فلما قالوا ذلك خلَّى سبيلهم، وجعل يأتمر ماذا يصنع بالفتية، فألقى الله عز وجل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسدّ عليهم كرامة من الله، أراد أن يكرمهم، ويكرم أجساد الفتية، فلا يجول، ولا يطوف بها شيء، وأراد أن يحييهم، ويجعلهم آية لأمة تُستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. فأمر دقينوس بالكهف أن يسدّ عليهم، وقال: دعوا هؤلاء الفتية المَرَدة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم، ففعل بهم ذلك عدوّ الله، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد تَوَفّى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، قد غَشَّاه الله ما غشاهم، يُقلَّبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقينوس يكتمان إيمانهما: اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر: روناس، فأتمرا أن يكتبا شأن الفتية أصحاب الكهف، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبائهم، وقصة خبرهم في لوحين من رَصاص، ثم يصنعا له تابوتا من نحاس، ثم يجعلا اللوحين فيه، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان، ويختما على التابوت بخاتمهما، وقالا لعل الله أن يُظْهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم، ففعلا ثم بنيا عليه في البنيان، فبقي دقينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا، ثم هلك دقينوس والقرن الذي كانوا معه، وقرون بعده كثيرة، وخلفت الخلوف بعد الخلوف.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم، وأهل شرفهم، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسنهم: إني لأجد في نفسي شيئا ما أظنُّ أن أحدا يجده، قالوا: ماذا تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي ربّ السماوات والأرض، وقالوا: نحن نجد، فقاموا جميعا، فقالوا: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف، وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس، فلبثوا في الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا رقدا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان أصحاب الكهف فتيانا ملوكا مُطَوّقين مُسَوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب، وأخرجوا معهم آلهتم التي يعبدون، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان فآمنوا، وأخفى كلّ واحد منهم الإيمان عن صاحبه، فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر إيمان بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظلّ شجرة، فجلس فيه، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر منه، فجاء حتى جلس إليه، ثم خرج الآخرون، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فاجتمعوا، فقال بعضهم: ما جمعكم؟ وقال آخر: بل ما جمعكم؟ وكل يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه، ثم قالوا: ليخرج منكم فَتَيان، فيخْلُوَا، فيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما على صاحبه، ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره، فإنا نرجو أن نكون على أمر واحد، فخرج فتيان منهم فتواثقا، ثم تكلما، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرَين إلى أصحابهما قد اتفقا على أمر واحد، فإذا هم جميعا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: ائتوا إلى الكهف (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|