
21-07-2025, 01:39 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,583
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الإسراء
الحلقة (961)
صــ 451 إلى صــ 460
فيه، فقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) على الإضافة بمعنى: كل هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التي عددنا من مبتدأ قولنا (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) .... إلى قولنا (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا) (كانَ سَيِّئُهُ) يقول:
سيء ما عددنا عليك عند ربك مكروها.
وقال قارئو هذه القراءة: إنما قيل (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) بالإضافة، لأن فيما عددنا من قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) أمورا، هي أمر بالجميل، كقوله (وَبالوَالِدَيْنِ إِحْسانا) وقوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) وما أشبه ذلك، قالوا: فليس كلّ ما فيه نهيا عن سيئة، بل فيه نهى عن سيئة، وأمر بحسنات، فلذلك قرأنا (سَيِّئُهُ) ، وقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئَةً) وقالوا: إنما عنى بذلك: كلّ ما عددنا من قولنا (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ولم يدخل فيه ما قبل ذلك. قالوا: وكل ما عددنا من ذلك الموضع إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه، فالصواب قراءته بالتنوين. ومن قرأ هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون من نيته أن يكون المكروه مقدما على السيئة، وأن يكون معنى الكلام عنده: كلّ ذلك كان مكروها سيئه؛ لأنه إن جعل قوله: مكروها نعدّ السيئة من نعت السيئة، لزمه أن تكون القراءة: كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة، وذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين.
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) على إضافة السيئ إلى الهاء، بمعنى: كلّ ذلك الذي عددنا من (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ.... كانَ سَيِّئُهُ) لأن في ذلك أمورا منهيا عنها، وأمورا مأمورا بها، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الموضع دون قوله (وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ) إنما هو عطف على ما تقدّم من قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) فإذا كان ذلك كذلك، فقراءته بإضافة السيء إلى الهاء أولى وأحقّ من قراءته سيئةً بالتنوين، بمعنى السيئة الواحدة.
فتأويل الكلام إذن: كلّ هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التي عددناها عليك كان سيئة مكروها عند ربك يا محمد، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه، فاتق مواقعته والعمل به.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي بيَّنا لك يا محمد من الأخلاق الجميلة التي أمرناك بجميلها، ونهيناك عن قبيحها (مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) يقول: من الحكمة التي أوحيناها إليك في كتابنا هذا.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) قال: القرآن.
وقد بيَّنا معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) يقول: ولا تجعل مع الله شريكا في عبادتك، فتُلقى في جهنم ملوما تلومك نفسك وعارفوك من الناس (مَدْحُورًا) يقول:
مُبْعَدا مقصيا في النار، ولكن أخلص العبادة لله الواحد القهَّار، فتنجو من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في قوله (مَلُومًا مًدْحُورًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (مَلُومًا مَدْحُورًا) يقول: مطرودا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مَلُومًا مَدْحُورًا) قال: ملوما في عبادة الله، مدحورا في النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا (40) }
يقول تعالى ذكره للذين قالوا من مشركي العرب: الملائكة بنات الله (أفأصْفاكُمْ) أيها الناس (رَبُّكُمْ بالبَنينَ) يقول: أفخصكم ربكم بالذكور من
الأولاد (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا) وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهن، وتقتلونهن، فجعلتم لله ما لا ترضونه لأنفسكم (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين قالوا من الفرية على الله ما ذكرنا: إنكم أيها الناس لتقولون بقيلكم: الملائكة بنات الله، قولا عظيما، وتفترون على الله فرية منكم.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا) قال: قالت اليهود: الملائكة بنات الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا (41) }
يقول تعالى ذكره (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) لهؤلاء المشركين المفترين على الله (فِي هَذَا القُرآن) العِبَر والآيات والحجج، وضربنا لهم فيه الأمثال، وحذّرناهم فيه وأنذرناهم (لِيَذَّكَّرُوا) يقول: ليتذكروا تلك الحجج عليهم، فيعقلوا خطأ ما هم عليه مقيمون، ويعتبروا بالعبر، فيتعظوا بها، وينيبوا من جهالتهم، فما يعتبرون بها، ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنُّذُر، وما يزيدهم تذكيرنا إياهم (إِلا نُفُورًا) يقول: إلا ذهابا عن الحقّ، وبُعدا منه وهربا. والنفور في هذا الموضع مصدر من قولهم: نفر فلان من هذا الأمر ينفِر منه نَفْرا ونفورا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون: من أن معه
آلهة، وليس ذلك كما تقولون، إذن لابتغت تلك الآلهة القُربة من الله ذي العرش العظيم، والتمست الزُّلْفة إليه، والمرتبة منه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا) يقول: لو كان معه آلهة إذن لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم، فابتغوا ما يقرّبهم إليه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا) قال: لابتغَوا القُرب إليه، مع أنه ليس كما يقولون.
القول في تأويل قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) }
وهذا تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه عما وصفه به المشركون، الجاعلون معه آلهة غيره، المضيفون إليه البنات، فقال: تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم، من الفرية والكذب، فإن ما تضيفون إليه من هذه الأمور ليس من صفته، ولا ينبغي أن يكون له صفة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان. وقال تعالى (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا) ولم يقل: تعاليا، كما قال (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) كما قال الشاعر:
أَنْتَ الفِدَاءُ لكَعْبَةٍ هَدَّمْتَها ... وَنَقَرْتَها بِيَدَيْكَ كُلَّ مَنَقَّر ... مُنِعَ الحَمامُ مَقِيلَهُ مِنْ سَقْفِها ... ومِنَ الحَطِيم فَطَارَ كُلَّ مُطَيَّرِ (1)
(1) البيتان شاهدان على أن المصدرين منقر ومطير المضافين إلى كل المعرب مفعولا مطلقا ليس من لفظ الفعل السابق عليهما، لأن المنقر من نقر بتشديد القاف، والمطير من طير بتشديد الياء، مع أن الفعلين السابقين ثلاثيان. ولكن العرب تجيز وضع المصادر المختلفة عن الأفعال السابقة عليها، ومنه في القرآن: "وتبتل إليه تبتيلا" ومصدر تبتل: هو التبتل لا التبتيل، ولكن ذلك جائز لأن الحروف الأصول مشتركة في الأفعال والمصادر التي تليها.
وقوله (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) يقول:
تنزه الله أيها المشركون عما وصفتموه به إعظاما له وإجلالا السماوات السبع والأرض، ومن فيهنّ من المؤمنين به من الملائكة والإنس والجنّ، وأنتم مع إنعامه عليكم، وجميل أياديه عندكم، تفترون عليه بما تَفْتَرون.
وقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) يقول جلّ ثناؤه:
وما من شيء من خلقه إلا يسبح بحمده.
كما حدثني به نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ، قال: ثنا محمد بن يعلَى، عن موسى بن عبيدة، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ؟ إِنَّ نُوحا قالَ لابْنِهِ يا بُنَيَّ آمُرُكَ أنْ تَقُولَ سُبْحانَ الله وبِحَمْدِهِ فإنَّها صَلاةُ الخَلْق، وَتَسْبِيحُ الخَلْقِ، وبِها تُرْزَقُ الخَلْقُ، قالَ الله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ."
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عيسى بن عبيد، قال: سمعت عكرمة يقول: لا يَعِيبنّ أحدكم دابته ولا ثوبه، فإن كل شيء يسبح بحمده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال: الشجرة تسبح، والأسْطوانة تسبح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب، قالا ثنا
جرير أبو الخطاب، قال: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام، فقدّموا الخوان، فقال يزيد الرقاشي: يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان: فقال: كان يسبح مرّة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، ويونس، عن الحسن أنهما قالا في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قالا كلّ شيء فيه الروح.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الكبير بن عبد المجيد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: الطعام يسبح.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال: كلّ شيء فيه الروح يسبح، من شجر أو شيء فيه الروح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي، عن عبد الله بن عمرو، أن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها، فإذا قال الحمد لله، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قطّ حتى يقولها، فإذا قال الله أكبر، فهي تملأ ما بين السماء والأرض، فإذا قال سبحان الله، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْعُ الله أحد من خلقه إلا نوّره بالصلاة والتسبيح، فإذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله، قال: أسلم عبدي واستسلم.
وقوله (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولكن لا تفقهون تسبيح ما عدا تسبيح من كان يسبح بمثل ألسنتكم (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا) يقول: إن الله كان حليما لا يعجل على خلقه، الذين يخالفون أمره، ويكفرون به، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الآلهة والأنداد بالعقوبة (غَفُورًا) يقول: ساترا عليهم ذنوبهم، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا) عن خلقه، فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض (غَفُورًا) لهم إذا تابوا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) }
يقول تعالى ذكره: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث، ولا يقرّون بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم، فينتفعوا به، عقوبة منا لهم على كفرهم. والحجاب ههنا: هو الساتر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (حِجَابًا مَسْتُورًا) قال: هي الأكنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) قال: قال أُبيّ: لا يفقهونه، وقرأ (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) لا يخلص ذلك إليهم.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول: معنى قوله (حِجابًا مَسْتُورًا) حِجابا ساترا، ولكنه أخرج وهو فاعل في لفظ المفعول، كما يقال: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن، لأنه من شأمهم ويمنهم. قال: والحجاب ههنا: هو الساتر، وقال: مستورا. وكان غيره من أهل العربية يقول: معنى ذلك: حجابا مستورا عن العباد فلا يرونه.
وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام أن يكون المستور هو الحجاب، فيكون معناه: أن لله سترا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأوّل وجه مفهوم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) }
يقول تعالى ذكره: وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنة، وهي جمع كِنان، وذلك ما يتغشَّاها من خِذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلى عليهم (وفِي آذانهِمْ وَقْرًا) يقول: وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماعه، وصمما، والوَقر بالفتح في الأذن: الثقل. والوِقر بالكسر: الحِمْل. وقوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) يقول: وإذا قلت: لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) يقول: انفضوا، فذهبوا عنك نفورا من قولك استكبارا له واستعظاما من أن يوحِّد الله تعالى.
وبما قلنا في ذلك، قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا) وإن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، فصافها (1) إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نُصِر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فِئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) قال: بغضا لما تكلم به لئلا يسمعوه، كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا
(1) يقال: صافه، بتشديد الفاء، فهو مضاف: إذا رتب صفوفه في مقابله صفوف العدو، وتصافوا عليه: اجتمعوا صفا.
ما يأمرهم به من الاستغفار والتوبة، ويَستغشُون ثيابهم، قال: يلتفون بثيابهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ولا يُنظر إليهم.
وقال آخرون: إنما عُنِي بقوله (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) الشياطين، وإنها تهرب من قراءة القرآن، وذكر الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، في قوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) هم الشياطين.
والقول الذي قلنا في ذلك أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن الله تعالى أتبع ذلك قوله (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) فأن يكون ذلك خبرا عنهم أولى إذا كان بخبرهم متصلا من أن يكون خبرا عمن لم يجز له ذكر. وأما النفور، فإنها جمع نافر، كما القعود جمع قاعد، والجلوس جمع جالس؛ وجائز أن يكون مصدرا أخرج من غير لفظه، إذ كان قوله (وَلَّوْا) بمعنى: نفروا، فيكون معنى الكلام: نفروا نفورا، كما قال امرؤ القيس:
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةٌ أَيَّ إِذْلالِ (1)
إذا كان رُضْت بمعنى: أذللت، فأخرج الإذلال من معناه، لا من لفظه.
(1) هذا عجز بيت لامرئ القيس بن حجر الكندي، صدره * وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا *
وهو من قصيدة عدة أبياتها 54 بيتا، وهو الخامس والعشرون فيها، (انظر مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص 38) . وقد استشهد المؤلف على أن قول القرآن، "ولوا على أدبارهم نفورا" يجوز أن يكون لفظ (نفورا) جمع نافر، كجلوس جمع جالس، وقعود جمع قاعد، ويجوز أن يكون مصدر نفر، وهو مفعول مطلق للفعل "ولوا" لأنه يئول بمعنى نفورا كما يئول قول امرئ القيس (أي إذلال) بمعنى أي ذل مع ما بينهما من فرق في المعنى. ولكن العرب تتسمح في وضع بعض المصادر موضع بعض على التأويل.
القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (47) }
يقول تعالى ذكره: نحن أعلم يا محمد بما يستمع به هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قومك، إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ كتاب الله (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) . وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: النجوى: فعلهم، فجعلهم هم النجوى، كما يقول: هم قوم رضا، وإنما رضا: فعلهم. وقوله (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا) يقول: حين يقول المشركون بالله ما تتبعون إلا رجلا مسحورا. وعنى فيما ذُكِر بالنجوى: الذين تشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) قال: هي مثل قيل الوليد بن المُغيرة ومن معه في دار الندوة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) .... الآية، ونجواهم أن زعموا أنه مجنون، وأنه ساحر، وقالوا (أساطيرُ الأوَّلِينَ) .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يذهب بقوله (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا) إلى معنى: ما تتبعون إلا رجلا له سَحْر: أي له رئة، والعرب تسمي الرئة سَحْرا، والمسحَّر من قولهم للرجل إذا جبن: قد انتفخ سَحْره، وكذلك يقال لكل ما أكَلَ أو شرب من آدميّ وغيره: مَسحور ومُسَحَّر، كما قال لبيد:
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|