
20-07-2025, 10:24 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الإسراء
الحلقة (960)
صــ 441 إلى صــ 450
ذلك عباده، وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام: قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثِّل به. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة (فَلا يُسْرفْ) بالياء، بمعنى فلا يسرف وليّ المقتول، فيقتل غير قاتل وليه. وقد قيل: عنى به: فلا يسرف القاتل الأول لا ولي المقتول.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي في أحكام الدين، قضاء منه بذلك على جميع عباده، وكذلك أمره ونهيه بعضهم، أمر منه ونهى جميعهم، إلا فيما دلّ فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض، فإن كان ذلك كذلك بما قد بيَّنا في كتابنا [كتاب البيان، عن أصول الأحكام] فمعلوم أن خطابه تعالى بقوله (فَلا تُسْرِف في القَتْلِ) نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان موجَها إليه أنه معنيّ به جميع عباده، فكذلك نهيه وليّ المقتول أو القاتل عن الإسراف في القتل، والتعدّي فيه نهي لجميعهم، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك نحو اختلاف القرّاء في قراءتهم إياه.
* ذكر من تأوّل ذلك: بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن منصور، عن طلق بن حبيب، في قوله (فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال لا تقتل غير قاتله، ولا تمثِّل به.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير. عن منصور، عن طلق بن حبيب، بنحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، في قوله (فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال: لا تقتل اثنين بواحد.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) كان هذا بمكة، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون يغتالون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الله تبارك وتعالى: من قتلكم من المشركين، فلا يحملنَّكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا من عشيرته، وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلا قاتلكم؛ وهذا قبل أن تنزل براءة، وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين، فذلك قوله (فَلا تُسْرِفْ فِي القَتْلِ) يقول: لا تقتل غير قاتلك، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين، لا يحلّ لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم.
* ذكر من قال: عُنِي به وليّ المقتول حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) قال: كان الرجل يُقتل فيقول وليه: لا أرضى حتى أقتل به فلانا وفلانا من أشراف قبيلته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال: لا تقتل غير قاتلك، ولا تمثِّل به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ) قال: لا يقتل غير قاتله؛ من قَتَل بحديدة قُتل بحديدة؛ ومن قَتَل بخشبة قُتِل بخشبة؛ ومن قَتل بحجر قُتل بحجر. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إِنَّ مِنْ أعْتَى النَّاسِ على الله جَلَّ ثَناؤُهُ ثَلاثَةً رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قاتِلِهِ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ في الجاهِلِيَّة، أو قَتَل فِي حَرَمِ الله" .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سمعته، يعني ابن زيد، يقول في قول الله جلّ ثناؤه (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) قال: إن العرب كانت إذا قُتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم، حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فقال الله جلّ ثناؤه (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) ينصره وينتصف من حقه (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) يقتل بريئا.
* ذكر من قال عُنِي به القاتل حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) قال: لا يسرف القاتل في القتل.
وقد ذكرنا الصواب من القراءة في ذلك عندنا، وإذا كان كلا وجهي القراءة عندنا صوابا، فكذلك جميع أوجه تأويله التي ذكرناها غير خارج وجه منها من الصواب، لاحتمال الكلام ذلك، وإن في نهي الله جلّ ثناؤه بعض خلقه عن الإسراف في القتل، نهى منه جميعَهم عنه.
وأما قوله (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُنِي بالهاء التي في قوله (إِنَّهُ) وعلى ما هي عائدة، فقال بعضهم: هي عائدة على وليّ المقتول، وهو المعنيّ بها، وهو المنصور على القاتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) قال: هو دفع الإمام إليه، يعني إلى الوليّ، فإن شاء قتل، وإن شاء عفا.
وقال آخرون: بل عُنِي بها المقتول، فعلى هذا القول هي عائدة على "مَن" في قوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما) .
* ذكر مَن قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) إن المقتول كان منصورا.
وقال آخرون: عُنِي بها دم المقتول، وقالوا: معنى الكلام: إن دم القتيل كان منصورا على القاتل.
وأشبه ذلك بالصواب عندي، قول من قال: عُنِي بها الوليّ، وعليه عادت، لأنه هو المظلوم، ووليه المقتول، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول، وهو المنصور أيضا، لأن الله جلّ ثناؤه قضى في كتابه المنزل، أنه سلَّطه على قاتل وليه، وحكَّمه فيه، بأن جعل إليه قتله إن شاء، واستبقاءه على الدية إن أحبّ، والعفو عنه إن رأى، وكفى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه، فلذلك قلنا: هو المعنيّ بالهاء التي في قوله (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا (34) }
يقول تعالى ذكره: وقضى أيضا أن لا تقربوا مال اليتيم بأكل، إسرافا وبدارا أن يَكْبَروا، ولكن اقرَبوه بالفَعْلة التي هي أحسن، والخَلَّة التي هي أجمل، وذلك أن تتصرّفوا فيه له بالتثمير والإصلاح والحيطة.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لما نزلت هذه الآية، اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام أو أكل ولا غيره، فأنزل الله تبارك وتعالى (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فكانت هذه لهم فيها رُخْصة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب، حتى نزلت (وإِنْ تُخالِطُوهُم فإخْوَانُكُمْ) .
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: الأكل بالمعروف، أن تأكل معه إذا احتجت إليه، كان أُبيّ يقول ذلك.
وقوله (حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ) يقول: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل، وتدبير ماله، وصلاح حاله في دينه (وأوْفُوا بالعَهْدِ) يقول: وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) يقول: إن الله جلّ ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أن العهد كان مطلوبا، يقال في الكلام: ليسئلنّ فلان عهد فلان.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (35) }
يقول تعالى ذكره: (وَ) قضى أن (أوْفُوا الكَيْلَ) للناس (إِذَا كِلْتُمْ) لهم حقوقهم قِبَلَكم، ولا تبخَسُوهم (وَزِنُوا بالقِسْطاس المُسْتَقِيمِ) يقول:
وقَضَى أن زنوا أيضا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه، ولا دَغَل، ولا خديعة.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى القسطاس، فقال بعضهم: هو القبان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا الحسن بن ذكوان، عن الحسن (وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ) قال: القَبَّان.
وقال آخرون: هو العدل بالرومية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: القِسطاس: العدل بالرومية.
وقال آخرون: هو الميزان صغر أو كبر؛ وفيه لغتان: القِسطاس بكسر القاف، والقُسطاس بضمها، مثل القِرطاس والقُرطاس؛ وبالكسر يقرأ عامَّة قرّاء أهل الكوفة، وبالضمّ يقرأ عامه قرّاء أهل المدينة والبصرة، وقد قرأ به أيضا بعض قرّاء الكوفيين، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لأنهما لغتان مشهورتان، وقراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار.
وقوله (ذلكَ خَيْرٌ) يقول: إيفاؤكم أيها الناس من تكيلون له الكيل، ووزنكم بالعدل لمن توفون له (خَيْرٌ لَكُمْ) من بخسكم إياهم ذلك، وظلمكموهم فيه. وقوله (وأحْسَنُ تَأْوِيلا) يقول: وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم، فيُحسن لكم عليه الجزاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) أي خير ثوابا وعاقبة.
وأخبرنا أن ابن عباس كان يقول: يا معشر الموالي، إنكم وَلِيتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: هذا المِكيال، وهذا الميزان. قال: وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يَقْدِرُ رَجُلٌ على حَرَام ثُمَّ يَدَعُهُ، لَيْسَ بِهِ إِلا مَخافَةُ الله، إِلا أَبْدَلَهُ الله فِي عاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ ما هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذلكَ" .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وأحْسَنُ تَأْوِيلا) قال: عاقبة وثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا (36) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فقال بعضهم: معناه: ولا تقل ما ليس لك به علم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) يقول: لا تقل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) قال: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم.
حُدثت عن محمد بن ربيعة، عن إسماعيل الأزرق، عن أبى عمر البزار، عن ابن الحنفية قال: شهادة الزور.
وقال آخرون: بل معناه: ولا ترم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) يقول: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تَقْفُ) ولا ترمِ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادّعاء سماع ما لم يسمعه، ورؤية ما لم يره. وأصل القفو: العضه والبهت، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنانَة لا نَقْفُو أمِّنا ولا نَنْتَفِي مِنْ أبِينا" ، وكان بعض البصريين ينشد في ذلك بيتا:
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ العَرَانِينِ ساكِنٌ ... بِهِنَّ الحَياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافِيا (1)
(1) البيت للنابغة الجعدي: وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 379) شاهد على أن معنى التقافي: التقاذف. وفي (اللسان: قفو) قال أبو عبيد الأصل في القفو واتقافي: البهتان يرمى به الرجل صاحبه. أهـ. قال أبو بكر: قولهم قد قفا فلان فلانا قال أبو عبيد: معناه أتبعه أمرا كلاما قبيحا. وقال الليث: القفو: مصدر قولك قفا يقفو وقفوا (الثاني بتشديد الواو) ، وهو أن يتبع الشيء: قال تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" قال الفراء: أكثر القراء يجعلونها من قفوت، كما تقول: لا تدع من دعوت. قال: وقرأ بعضهم: ولا تقف مثل ولا تقل. وقال الأخفش في قوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" : أي لا تتبع ما لا تعلم. وقيل: ولا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم؛ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا. أ. هـ. والدمى جمع دمية، وهي التمثال من المرمر أو العاج أو نحوهما. وشم العرانين: جمع شماء العرنين، أي مرتفعات قصبات الأنوف، وهو من أمارات جمالهن.
يعني بالتقافي: التقاذف. ويزعم أن معنى قوله (لا تَقْفُ) لا تتبع ما لا تعلم، ولا يعنيك. وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة، يزعم أن أصله القيافة، وهي اتباع الأثر، وإذ كان كما ذكروا وجب أن تكون القراءة (وَلا تَقُفْ) بضم القاف وسكون الفاء، مثل: ولا تقل. قال: والعرب تقول: قفوت أثره، وقُفت أثره، فتقدِّم أحيانا الواو على الفاء وتؤخرها أحيانا بعدها، كما قيل: قاع الجمل الناقة: إذا ركبها وقَعَا وعاثَ وَعَثَى؛ وأنشد سماعا من العرب:
ولَوْ أنّي رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍ ... لَعاقَكَ مِنْ دُعاءٍ الذّئْبِ عاقِ (1)
يعني عائق، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحقّ، فذلك هو القفو.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه.
وأما قوله (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) فإن
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 179) على أن العرب تقول قفا الشيء: إذا تتبعه كما تقول قافه. وكما قال الشاعر: عاقى، يريد عائق. قال الفراء: أكثر القراء يجعلونها من قفوت ... وبعضهم قال: ولا تقف. والعرب تقول: قفت أثره، وقفوته؛ ومثله: يعتام ويعتمي، وعاث وعثى، من الفساد، وهو كثير، منه شاك السلاح، وشاكي السلاح. وسمعت بعض قضاعة يقول: اجتحى ماله، واللغة الفاشية: اجتاح ماله. وقد قال الشاعر: "ولو أني رأيتك" ... إلخ البيت. هذا وقد نقلنا في الشاهد الذي قبل هذا عبارة الفراء، كما جاءت في اللسان، وفيها اختلال عن عبارته هنا في معاني القرآن، ولعله من اختلاف النسخ. وأورد الفراء بعد بيت الشاهد بيتا آخر من وزنه وقافيته، وهو لذي الخرق الطهوي كما في (اللسان: بغم) : حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَنَاقَا ... وَما هِيَ وَيْبَ غَيرِك بالعَناقِ
وقد سبق الاستشهاد به في أكثر من موضع من هذا التفسير.
معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ، وقال أولئك، ولم يقل تلك، كما قال الشاعر:
ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنزلَةِ اللَّوَى ... والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ (1)
وإنما قيل: أولئك، لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث، وهذه وتلك للجمع الكثير، فالتذكير للقليل من باب أَنْ كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث لك التذكير للجمع الأوّل، والتأنيث للجمع الثاني، وهو الجمع الكثير، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) }
يقول تعالى ذكره: ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ) يقول: إنك لن تقطع الأرض باختيالك، كما قال رُؤْبة:
وقاتِمِ الأعماقِ خاوِي المُخْتَرَق (2)
(1) البيت لجرير بن الخطفي (ديوانه طبعة الصاوى ص 551) وهو البيت الثاني من قصيدة يجيب بها الفرزدق، مطلعها: سَرتِ الهُمومُ فَبِتْنَ غَيرَ نِيامِ ... وأخُو الهُمومِ يَرُومُ كلَّ مَرَامِ
الشاهد في هذا البيت أنه أشار إلى الأيام بأولئك، ولم يقل تلك، لأن أولئك يشار بها إلى الجمع الكثير، وهؤلاء إلى الجمع القليل، للمذكر والمؤنث والعاقل وغيره.
(2) البيت مطلع أرجوزة مطولة (171 بيتا في ديوان رؤبة طبع ليبج سنة 1903م، ص 104) وهو شاهد على أن قوله المخترق بمعنى القطع كما في قوله تعالى: "إنك لن تخرق الأرض" أي لن تقطع الأرض. ويريد بقائم الأعماق: واديا مظلم النواحي لما كثر فيه من الغبار الثائر. والخاوي: الخالي. والمخترق: الممر والمقطع. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 380) "إنك لن تخرق الأرض" : مجاز "لن تقطع الأرض. وقال رؤبة: ... البيت أي المقطع. وقال آخرون: إنك لن تنقب الأرض وليس بشيء."
يعني بالمخترق: المقطع (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) بفخرك وكبرك، وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخُيَلاء، وتقدم منه إليهم فيه معرِّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) يعني بكبرك ومرحك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا) قال: لا تمش في الأرض فخرا وكبرا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ) قال: لا تفخر.
وقيل: لا تمش مرَحا، ولم يقل مرِحا، لأنه لم يرد بالكلام: لا تكن مرِحا، فيجعله من نعت الماشي، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرَحا، ففسر المعنى المراد من قوله: ولا تمش، كما قال الراجز:
يُعْجَبُهُ السَّخُونُ والعَصِيدُ ... والتَّمْرُ حبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ (1)
فقال: حبا، لأن في قوله: يعجبه، معنى يحبّ، فأخرج قوله: حبا، من معناه دون لفظه.
وقوله (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) فإن القرّاء اختلفت
(1) البيتان في الملحق بشعر رؤبة بن العجاج، بآخر ديوانه (طبع ليبسج سنة 1903 ص 172) وروايتهما فيه: يُعْجِبُهُ السِّخُونُ والبَرُودُ ... والقَزُّ حُبًّا مالَهُ مَزِيدُ
ورواية البيت في (اللسان: سخن) كرواية المؤلف. قال: ويروى: "حتى ماله مزيد" . وقال: السخون من المرق: ما يسخن. وقال في (برد) : كل ما برد به شيء: برود. أهـ. ولعله يريد الماء البارد، تنقع به الغلة، وقال في (عصد) : العصيدة: دقيق يلت بالسمن ويطبخ. والشاهد في البيت: أن قوله حبا مفعول مطلق، لأنه بمعنى إعجابا، لأن في قوله يعجبه، معنى يحبه، فكأنه مرادف له. وهو نظير قوله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحا، أي المرح. وقد سبق الاستشهاد بالبيت في بعض أجزاء التفسير."
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|