
17-07-2025, 11:18 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (755)
صــ 141 إلى صــ 150
القول في تأويل قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أنّى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله، وبأيِّ معنى، يكون للمشركين بربهم عهدٌ وذمة عند الله وعند رسوله، يوفّى لهم به، ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد؟ (1) وإنما معناه: لا عهد لهم، وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم، إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم، فإن الله جل ثناؤه أمرَ المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم، والاستقامة لهم عليه، ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) .
فقال بعضهم: هم قوم من جذيمة بن الدُّئِل.
* ذكر من قال ذلك:
16490- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، هم بنو جذيمة بن الدُّئِل. (2)
(1) انظر تفسير "العهد" و "المعاهدة" فيما سلف ص: 132، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) هكذا جاء هنا "بنو جذيمة بن الدئل" ، وفي رقم: 16491: "جذيمة بكر كنانة" . ولا أعلم في "الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة" ، "جذيمة" فإن "جذيمة كنانة" إنما هم: "بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة" ، أبناء عمومة "الدئل" ، و "بكر بن عبد مناة" .
وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة، هم أهل الغميصاء، الذين أوقع بهم خالد بن الوليد بعد الفتح، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليتلافى خطأ خالد بن الوليد، فودي لهم الدماء وما أصيب من الأموال، حتى إنه إنه ليدي لهم ميلغة الكلب.
(انظر سيرة ابن هشام 4: 70 - 73) .
16491- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) ، قال: هم جذيمة بكر كنانة. (1)
16492- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (كيف يكون للمشركين) ، الذين كانوا هم وأنتم على العهد العام، (2) بأن لا تخيفوهم ولا يخيفوكم في الحرمة ولا في الشهر الحرام (3) = (عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية، إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نَقَضَها إلا هذا الحيُّ من قريش، وبنو الدُّئِل من بكر. فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته = (فما استقاموا لكم) ، الآية. (4)
* * *
وقال آخرون: هم قريش.
(1) الأثر: 16491 - راجع التعليق السالف. وكان في المطبوعة: "بكر، من كنانة" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "كانوا وأنتم" ، واثبتت ما في سيرة ابن هشام.
(3) في المطبوعة: "بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم" ، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يحسن قراءتها. والصواب ما في المخطوطة، مطابقا لما في السيرة.
وقوله: "في الحرمة" ، يعني في مكة البلد الحرام، وسائر مناسك الحج، وهي بضم الحاء وسكون الراء. وهي من "الحرمة" ، وهو ما لا يحل انتهاكه. وقد قصرت كتب اللغة في إثبات لفظ "الحرمة" بهذا المعنى الذي فسرته، وهو كثير في أخبارهم بالمعنى الذي ذكرت، فأثبته هناك. ومن أجل هذا ظن الناشر أنه حين كتب "من الحرم" ، أن "الحرمة" لا تأتي بمعنى "الحرم" .
(4) الأثر: 16492 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16481.
* ذكر من قال ذلك:
16493- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس قوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، هم قريش.
16494- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يعني: أهل مكة.
16495- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يقول: هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة، ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلمَ الجزيةَ. (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، يعني: أهل العهد من المشركين.
16496- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال: هؤلاء قريش. وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم، وغدروا بهم فلم يستقيموا، كما قال الله. فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر، يختارون من أمرهم: إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بأيِّ بلاد شاؤوا. قال: فأسلموا قبل الأربعة الأشهر، وقبل قَتْلٍ. (1)
16497- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال: هو يوم الحديبية، (2) قال: فلم يستقيموا، نقضوا عهدهم،
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وقبل وقبل" ، ولا معنى له، ولكنه في المخطوطة غير منقوط والصواب إن شاء الله ما أثبت.
(2) كان في المطبوعة: "هم قوم جذيمة" ، وهذا كلام فاسد كل الفساد. وفي المخطوطة:
"هم يوم الحديبية" ، وصواب قراءته ما أثبت. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية، تواثبت بنو بكر بن عبد مناة فقالت: "نحن في عقد قريش وعهدهم" ، وتواثبت خزاعة فقالت: "نحن في عقد محمد وعهده" (سيرة ابن هشام 3: 332) . ثم كان بعد ذلك بمدة أن تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وهم حلف رسول الله، فكان ذلك أحد الأسباب الموجبة المسير إلى مكة وفتحها. وهذا ما دل عليه سائر الخبر.
أي أعانوا بني بكرٍ حِلْفِ قريش، على خزاعة حِلْفِ النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وقال آخرون: هم قوم من خزاعة.
* ذكر من قال ذلك:
16498- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، قال: أهل العهد من خزاعة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قولُ من قال: هم بعضُ بني بكر من كنانة، ممن كان أقام على عهده، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش، حين نقضوه بمعونتهم حلفاءَهم من بني الدُّئِل، على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
* * *
وإنما قلتُ: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام، ما استقاموا على عهدهم. وقد بينَّا أن هذه الآيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة، وذلك بعد فتح مكة بسنة، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافرٌ يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده، لأنّ من كان منهم من ساكني مكة، كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الآيات.
* * *
(1) هو "حلفه" ، أي: حليفة، وهو الذي بينه وبينه عهد.
وأما قوله: (إن الله يحب المتقين) ، فإن معناه: إن الله يحب من اتقى الله وراقبه في أداء فرائضه، والوفاء بعهده لمن عاهده، واجتناب معاصيه، وترك الغدر بعهوده لمن عاهده.
* * *
القول في تأويل قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم، أيها المؤمنون، عهد وذمة، وهم = (إن يظهروا عليكم) ، يغلبوكم = (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) .
* * *
واكتفى بـ "كيف" دليلا على معنى الكلام، لتقدم ما يراد من المعني بها قبلها. وكذلك تفعل العرب، إذا أعادت الحرف بعد مضيّ معناه، استجازوا حذف الفعل، كما قال الشاعر: (1)
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ فِي الْقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وَكَثِيبُ (2)
فحذف الفعل بعد "كيف" ، لتقدم ما يراد بعدها قبلها. ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى، وهذي هضبة وكثيب، لا ينجو فيهما منه أحد.
* * *
(1) هو كعب بن سعد الغنوي.
(2) الأصمعيات: 99، طبقات فحول الشعراء: 176، أمالي القالي: 151، جمهرة أشعار العرب: 135، ومعاني القرآن للفراء: 1: 424 وغيرها كثير. وهي من أشهر المرائي وأنبلها. وكان لكعب بن سعد أخ يقال له "أبو المغوار" ، فأخذ المدينة وباء، فنصحوه بأن يفر بأخيه من الأرض الوبيئة، لينجو من طوارق الموت، فلما خرج به إلى البادية هلك أخوه، فتفجع عليه تفجع العربي النبيل.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) .
فقال بعضهم، معناه: لا يرقبوا الله فيكم ولا عهدًا.
* ذكر من قال ذلك:
16499- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، [سورة التوبة: 10] ، قال: الله.
16500- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، قال: مثل قوله: "جبرائيل" ، "ميكائيل" ، "إسرافيل" ، كأنه يقول: يضيف "جَبْر" و "ميكا" و "إسراف" ، إلى "إيل" ، (1) يقول: عبد الله = (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، كأنه يقول: لا يرقبون الله.
16501- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثني محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا ولا ذمة) ، لا يرقبون الله ولا غيره.
* * *
وقال آخرون: "الإلّ" ، القرابة.
* ذكر من قال ذلك:
16502- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، يقول: قرابةً ولا عهدًا. وقوله: (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: "الإل" ، يعني: القرابة، و "الذمة" ، العهد.
16503- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
(1) في المخطوطة: "كأنه يقول: يضاف جبر" ، وفي المخطوطة: "كأنه يقول جبر يضف جبر. . ." . وفي المخطوطة أيضا "سراف" بغير ألف.
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، "الإلّ" ، القرابة، و "الذمة" ، العهد، يعني أهل العهد من المشركين، يقول: ذمتهم.
16504- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية وعبدة، عن جويبر، عن الضحاك، "الإل" ، القرابة. (1)
16505- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا محمد بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، قال: "الإلّ" ، القرابة، و "الذمة" ، العهد.
16506- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، قال سمعت، الضحاك يقول في قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، "الإل" ، القرابة، و "الذمة" ، الميثاق.
16507- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف وإن يظهروا عليكم) ، المشركون = (لا يرقبوا فيكم) ، عهدًا ولا قرابة ولا ميثاقًا.
* * *
وقال آخرون: معناه: الحلف.
* ذكر من قال ذلك:
16508- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: "الإل" ، الحلف، و "الذمة" ، العهد.
* * *
وقال آخرون: "الإلّ" ، هو العهد، ولكنه كرِّر لما اختلف اللفظان، وإن كان معناهما واحدًا.
(1) الأثر: 16504 - في المطبوعة: "عن حوشب، عن الضحاك" ، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب وهذا إسناد مضى مثله مرارا.
* ذكر من قال ذلك:
16509- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا) ، قال: عهدًا.
16510- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: لا يرقبوا فيكم عهدًا ولا ذمة. قال: إحداهما من صاحبتها كهيئة "غفور" ، "رحيم" ، قال: فالكلمة واحدة، وهي تفترق. قال: والعهد هو "الذمة" .
16511- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن خصيف، عن مجاهد (ولا ذمة) ، قال: العهد.
16512- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن خصيف، عن مجاهد: (ولا ذمة) ، قال: "الذمة" ، العهد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيَّه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وحصرهم والقعود لهم على كل مرصد: أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم "إلا" .
و "الإلّ" : اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد، والعقد، والحلف، والقرابة، وهو أيضا بمعنى "الله" . فإذْ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خصّ من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يُعَمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة، فيقال: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ، ولا قرابةً، ولا عهدًا، ولا ميثاقًا.
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى "القرابة" قول ابن مقبل:
أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الإلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ (1)
(1) من أبيات مفرقة، لم أجدها مجموعة في مكان، وهذا بيت لم أجده أيضا في مكان آخر.
و "خلوف" جمع "خلف" (بفتح فسكون) ، وهو بقية السوء والأشرار تخلف من سبقها. وفي المخطوطة: "أخلفوا" بالألف، والصواب ما في المطبوعة. و "الأعراق" جمع "عرق" وعرق كل شيء: أصله الذي منه ثبت. ويقال منه: "تداركه أعراق خير، وأعراق شر" .
بمعنى: قطعوا القرابة، وقول حسان بن ثابت:
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ (1)
وأما معناه إذا كان بمعنى "العهد" ، فقول القائل: (2)
وَجَدْنَاهُمُ كَاذِبًا إلُّهُمْ ... وَذُو الإلِّ وَالْعَهْدِ لا يَكْذِبُ
* * *
وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين: أن "الإلّ" ، و "العهد" ، و "الميثاق" ، و "اليمين" واحد = وأن "الذمة" في هذا الموضع، التذمم ممن لا عهد له، والجمع: "ذِمَم" . (3)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول: عنى بهذه الآية أهل العهد العام.
16513- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (كيف وإن يظهروا عليكم) ، أي: المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد
(1) ديوانه: 407، واللسان (ألل) ، من أبيات هجا بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وكان ممن يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو سفيان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويهجوه، ويؤذي المسلمين، فانبرى له حسان فأخذ منه كل ما أخذ. ثم أسلم في فتح مكة، وشهد حنينا، وثبت فيمن ثبت مع نبي الله، وظل آخذا بلجام بغلة رسول الله يكفها ورسول الله يركضها إلى الكفار. ثم ظل أبو سفيان بعد ذلك لا يرفع رأسه إلى رسول الله حياء منه.
ولكن كان من هجاء حسان له، بعد البيت: فَإنَّكَ إِن تَمُتَّ إلى قُرَيْشٍ ... كَذَاتِ البَوِّ جائِلَةَ المَرَامِ
وَأَنْتَ مُنَوَّطٌ بِهِمُ هَجِينٌ ... كما نِيطَ السَّرَائِحُ بالخِدَامِ
فَلا تَفْخَر بِقَوْمٍ لَسْتَ مِنْهُمْ ... ولا تَكُ كاللِّئَامِ بَنِي هِشامِ
"السقب" ، ولد الناقة ساعة يولد. و "الرأل" ، ولد النعام. يقول: ما قرابتك في قريش، إلا كقرابة الفصيل، من ولد النعام! .
(2) لم أعرف قائله.
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 253.
العام = (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) . (1)
* * *
فأما قوله: (يرضونكم بأفواههم) ، فإنه يقول: يعطونكم بألسنتهم من القول، خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء (2) = (وتأبى قلوبهم) ، أي: تأبَى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم، بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذِّر جل ثناؤه أمرَهم المؤمنين، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله، وأن لا يقصِّروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه = (وأكثرهم فاسقون) ، يقول: وأكثرهم مخالفون عهدَكم، ناقضون له، كافرون بربهم، خارجون عن طاعته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم الله، أيها المؤمنون، بقتلهم حيث وجدتموهم، بتركهم اتباعَ ما احتج الله به عليهم من حججه، يسيرًا من العوض قليلا من عرض الدنيا. (4)
* * *
وذلك أنهم، فيما ذُكر عنهم، كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول
(1) الأثر: 16513 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16492.
(2) انظر تفسير "بدت البغضاء من أفواههم" 7: 145 - 147 / و "يقولون بأفواههم" 7: 378 / و "قالوا آمنا بأفواههم" ، 10: 301 - 308.
(3) انظر تفسير "الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) .
(4) انظر تفسير "اشترى" فيما سلف 10: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير "الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة "(أيي) ."
= وتفسير "الثمن القليل" فيما سلف 10: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|