
16-07-2025, 09:57 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,730
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الأعراف
الحلقة (679)
صــ 521 إلى صــ 530
خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرَّأ منها؟ فلسنا فاعِلي ذلك، ولا نحن متبعوك على ما تدعونا إليه، (1) فأتنا بما تعدنا من العقابِ والعذاب على تركنا إخلاص التوحيد لله، وعبادتنا ما نعبد من دونه مِنَ الأوثان، إن كنت من أهل الصدق على ما تقول وتعِدُ.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم عذَابٌ وغضبٌ من الله.
* * *
وكان أبو عمرو بن العلاء = فيما ذكر لنا عنه = يزعم أن "الرجز" و "الرجس" بمعنى واحد، وأنها مقلوبة، قلبت السين زايًا، كما قلبت "ستّ" وهي من "سداس" بسين، (2) وكما قالوا "قَرَبُوس" و "قَرَبُوت" (3) وكما قال الراجز: (4)
(1) في المطبوعة: "ولا متبعيك" ، وفي المخطوطة: "ولا متبعوك" ، أسقط الناسخ "نحن" فأثبتها.
(2) في المطبوعة: "كما قلبت: شئز، وهي من: شئس" ، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب ما أثبت، يدل عليه شاهد الرجز الذي بعده.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقربوز" بالزاي (وهي في المخطوطة غير منقوطة) ، والصواب المحكي عنه بالتاء. و "القربوس" حنو السرج "وهو بقاف وراء مفتوحتان، بعدهما باء مضمومة."
(4) هو علباء بن أرقم اليشكري.
أَلا لَحَى اللهُ بَنِي السِّعْلاتِ ... عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتِ
لَيْسُوا بِأَعْفَافٍ وَلا أَكْيَاتِ (1)
يريد "الناس" ، و "أكياس" ، فقلبت السين تاء، كما قال رؤبة:
كَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَدِيدٍ مُبْزِي ... حَتَّى وَقَمْنَا كَيْدَهُ بالرِّجْزِ (2)
روي عن ابن عباس أنه كان يقول: "الرجس" ، السّخط. (3)
14808-حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: (قد وقع عليكم من ربكم رجس) يقول: سَخَط.
(1) نوادر أبي زيد: 104، 147، الحيوان 1: 187/ 6: 161، وفيه تخريج الأبيات، وغيرهما كثير. و "السعلاة" اسم الواحدة من نساء الجن، إذا لم تتغول لتفتن السفار. وزعموا أن عمرو بن يربوع تزوج السعلاة، وأولدها، وأنها أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم، فلما رأت برقًا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت إليهم، فقال عمرو بن يربوع: أَلا لِلهِ ضَيْفُكِ، يَا أُمَامَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يعرف تمام البيت كما قال أبو زيد في نوادره: 146. رَأَى بَرْقًا فَأَوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ ... فَلا، بِكِ، ما أسَالَ وما أَغَامَا.
وقوله: "ليسوا بأعفاف" ، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة. ورواية أبي زيد وغيره: "ليسوا أعفاء" ، وهي القياس، جمع "عفيف" ، وكأن "أعفاف" جمع "عف" ، وقد نصوا على أنهم لم يجمعوا "عفا" ، أو يكون كما جمع "شريف" على "أشراف" ، في غير المضعف.
(2) ديوانه: 64، هكذا جاء البيت الأول في المخطوطة والمطبوعة. وهو لا يكاد يصح، ورواية الديوان. مَا رَامَنَا من ذي عَدِيدٍ مَبْزى
يقال: "أبزى فلان بفلان" ، إذا غلبه وقهاه. و "وقم عدوه" ، أذله وقهره.
(3) في المطبوعة: "الرجز" مكان "الرجس" ، وبين أن الصواب ما أثبت.
= وانظر تفسير "الرجس" فيما سلف 10: 565/ 12: 111، 112، 194.
وأما قوله: (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) فإنه يقول: أتخاصمونني في أسماء سمَّيتموها أصنامًا لا تضر ولا تنفع (1) = (أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان) يقول: ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة تحتجُّون بها، ولا معذرة تعتذرون بها، (2) لأن العبادة إنما هي لمن ضرَّ ونفع، وأثابَ على الطاعة وعاقب على المعصية، ورزق ومنَع. فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس، فإنه لا نفع فيه ولا ضرّ، إلا أن تتخذ منه آلةً، ولا حجة لعابد عبده من دون الله في عبادته إياه، لأن الله لم يأذن بذلك، فيعتذر من عبدَه بأنه يعبده اتباعًا منه أمرَ الله في عبادته إياه. (3) ولا هو= إذ كان الله لم يأذن في عبادته= مما يرجى نفعه، أو يخاف ضرّه، في عاجل أو آجل، فيعبد رجَاء نفعه، أو دفع ضره - (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) يقول: فانتظروا حكمَ الله فينا وفيكم= (إني معكم من المنتظرين) حكمَه وفصل قضائه فينا وفيكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعَا إليه، من توحيد الله، وهجر الآلهة والأوثان= (برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) يقول: وأهلكنا الذين كذَّبوا من قوم هود بحججنا جميعًا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدًا، كما:-
(1) انظر تفسير "المجادلة" فيما سلف ص: 86، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "سلطان" فيما سلف ص: 404، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فيعذر من عبده" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
14809-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وقطعنا دابرَ الذين كذبوا بآياتنا) قال: استأصلناهم.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنعام: 45] ، بشواهده، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
= (وما كانوا مؤمنين) يقول: لم يكونوا مصَدّقين بالله ولا برسوله هود.
القول في تأويل قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا.
* * *
و "ثمود" ، هو ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَدِيس بن غاثر، (2) وكانت مساكنهما الحِجْر، بين الحجاز والشأم، إلى وادي القُرَى وما حوله.
* * *
ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحًا.
* * *
(1) انظر تفسير "قطع دابرهم" فيما سلف 11: 363، 364.
(2) في المطبوعة في الموضعين "ثمود بن عابر" ، و "جديس بن عابر" ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو كذلك في تاريخ الطبري 1: 103 "غاثر" بالغين والثاء، إلا أنه جاء في التاريخ 1: 115 "جاثر" بالجيم والثاء، وكأن الأول هو الأصل، وأن الآخر على القلب عن الغين، هذا إذا لم يكن خطأ.
وإنما منع "ثمود" ، لأن "ثمود" قبيلة، كما "بكر" قبيلة، وكذلك "تميم" .
* * *
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوزُ لكم أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حُجَّة وبرهان على صدق ما أقول، (1) وحقيقة ما إليه أدعو، من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، وتصديقي على أني له رسول. وبيِّنتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه، هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهَضْبة، دليلا على نبوّتي وصدق مقالتي، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحدٌ إلا الله.
* * *
وإنما استشهد صالح، فيما بلغني، على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة، لأنهم سألُوه إياها آيةً ودلالة على حقيقةِ قوله.
* ذكر من قال ذلك، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة:
14810-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين! قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض! فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة، فقال صالح: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (= (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، [سورة الشعراء:155] . فلما ملُّوها عقروها، فقال لهم: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) ، [سورة هود:65] قال عبد العزيز: وحدثني رجل آخر: أنّ صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا حُمْرًا، واليوم الثاني
(1) انظر تفسير "البينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
صُفْرًا، واليوم الثالث سُودًا. قال: فصبَّحهم العذاب، فلما رأوا ذلك تحنَّطُوا واستعدُّوا. (1)
14812-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإلى ثمود أخاهم صالحًا) ، قال: إن الله بعث صالحا إلى ثمود، فدعاهم فكذّبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، فسألوه أن يأتيهم بآية، فجاءهم بالناقة، لها شِرْب ولهم شِرْبُ يومٍ معلوم. وقال: (ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء) . فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قوله: (فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) ، [سورة فصلت: 17] . وكانوا قد أقرُّوا به على وجه النفاق والتقيَّة، وكانت الناقة لها شِرْبٌ، فيومَ تشرب فيه الماء تمرّ بين جبلين فيرحمانها، (2) ففيهما أثرُها حتى الساعة، ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبُوا اللبنَ، فيرويهم، إنما تصبُّ صبًّا، (3) ويوم يشربون الماءَ لا تأتيهم. وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح: إنه يولدُ في شهركم هذا غلامٌ يكون هلاككم على يديه! فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم وُلد للعاشر فأبَى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء. فكان ابن العاشر أزْرَق أحمرَ، فنبت نباتًا سريعًا، فإذا مرَّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءَ كانوا مثل هذا! فغضب التِّسعة على صالح، لأنه أمرهم بذبح أبنائهم= (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) ،
(1) الأثر: 14810 - "عبد العزيز بن رفيع الأسدي" ، تابعي ثقة، روى له الجماعة. روى عن أنس، وابن الزبير، وابن عباس، وابن عمر، وأبي الطفيل. مترجم في التهذيب. و "أبو الطفيل" ، هو: "عامر بن واثلة الليثي" ، مضى برقم: 9196.
وقوله: "تحنطوا" ، أي اتخذوا الحنوط، كما يفعلون بالميت: و "الحنوط" ، هو ذريرة من مسك أوعنبر أو كافور أو صندل مدقوق، أو صبر، يتخذ للميت حتى لا يجيف ولا ينتن، أو لا تظهر رائحته للحي. وسقط من الترقيم: "14811" : سهوًا مني.
(2) في المطبوعة: "فيرجمونها، ففيها أثرها ..." ، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فكانت تصب اللبن صبًا" ، غير ما في المخطوطة وبدله.
[النمل:49] . قالوا: نخرج، فيرى الناس أنّا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد، أتيناه فقتلناه، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا: (ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) ، يصدقوننا، يعلمون أنّا قد خرجنا إلى سفر! فانطلقوا، فلما دخلوا الغارَ أرادوا أن يخرجوا من الليل، فسقط عليهم الغارُ فقتلهم، فذلك قوله: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) حتى بلغ ها هنا: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة النمل: 48-51] . =وكبر الغلام ابن العاشر، ونبت نباتًا عجبًا من السرعة، فجلس مع قومٍ يصيبون من الشَّراب، فأرادُوا ماءً يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم يوم شِرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقةُ، فاشتدَّ ذلك عليهم، وقالوا في شأن الناقة: ما نَصْنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة، فنُسْقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيرًا لنا! فقال الغلام ابن العاشر: هل لكم في أن أعْقِرَها لكم؟ قالوا: نعم! فأظهروا دينَهم، فأتاها الغلام، فلما بَصُرت به شدَّت عليه، فهرب منها، فلما رأى ذلك، دخل خلف صخرةٍ على طريقها فاستتر بها، فقال: أحِيشوها عليّ! فأحَاشوها عليه، (1) فلما جازت به نادوه: عليك! (2) فتناولها فعقرها، فسقطت، فذلك قوله: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) ، [سورة القمر:29] . وأظهروا حينئذٍ أمرهم، وعقروا الناقة، وعَتَوْا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالحُ ائتنا بما تعِدنا. وفزع ناسٌ منهم إلى صالح، وأخبروه أن الناقة قد عُقرت، فقال: عليَّ بالفصيل! فطلبوا الفَصِيل فوجدوه على رَابية من الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلَّقت به في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رَغَا (3) الفصيلُ إلى الله، فأوحى الله إلى صالح: أنْ مُرْهم فليتمتَّعوا في دارهم ثلاثة أيام! فقال لهم صالح: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام، وآية ذلك أن تُصبح وجوهكم أوَّل يوم مصفَرَّة، والثاني محمرّة، واليوم الثالث مسوَدّة، واليومُ الرابعُ فيه العذاب. فلما رأوا العلامات تكفّنوا وتحنّطوا ولطَّخوا أنفسهم بالمرّ، ولبسوا الأنْطاع، وحفروا الأسراب فدخلوا فيها ينتظرون الصيحة، حتى جاءهم العذاب فهلكوا. فذلك قوله: (دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، لما أهلك الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا في الأرض، (4) فنزلوا فيها وانتشروا، ثم عتوا على الله. فلما ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا = وكانوا قومًا عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا = (5) رسولا (6) وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح، (7) وهو وادي القرى، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشأم! فبعث الله إليهم غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، (8) لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعَفون، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا = وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله، في يوم معلوم من السنة = فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن
(1) في المطبوعة: "أجيشوها ... فأجاشوها" بالجيم، والصواب بالحاء. "حاش عليه الصيد حوشًا وحياشًا" و "أحاشه عليه" ، إذا نفره نحوه، وساقه إليه، وجمعه عليه.
(2) "عليك" ، إغراء، بمعنى: خذه.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ثم دعا" ، والصواب ما أثبت. من "رغاء الناقة" ، وهو صوتها إذا ضجت.
(4) "عمر يعمر" (نحو: فرح يفرح) و "عمر يعمر" (نحو: نصر ينصر) : عاش وبقي زمانًا طويلا.
(5) في المطبوعة: "وكانوا قومًا عزبًا" ، وفي المخطوطة: "وكانوا قومًا عربًا وهم من أوسطهم" والصواب ما أثبت.
(6) السياق: "بعث إليهم صالحًا ... رسولا" .
(7) "قرح" (بضم فسكون) ، وهو سوق وادي القرى.
(8) "شمط" : ابيض شعره.
استجيب لك اتَّبعناك! وإن استجيب لنا اتَّبعتنا! فقال لهم صالح: نعم! فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك، وخرج صالح معهم إلى الله فدعَوْا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثم قال له جندع بن عمرو بن جواس بن عمرو بن الدميل، (1) وكان يومئذٍ سيّد ثمود وعظيمَهم: يا صالح، أخرج لنا من هذه الصخرة = لصخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها الكاثِبة = ناقةً مخترجة جَوْفاء وَبْرَاء = و "المخترجة" ، ما شاكلت البُخْت من الإبل. (2) وقالت ثمود لصالح مثل ما قال جندع بن عمرو = فإن فعلت آمنَّا بك وصَدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ! وأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ وفَعَل الله لتصدِّقُنِّي ولتؤمنُنَّ بي! قالوا: نعم! فأعطوه على ذلك عهودَهم. فدعا صالح ربَّه بأن يخرجَها لهم من تلك الهَضْبة، كما وصفوا.
= فحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدَّث: أنَّهم نظروا إلى الهضبة، حين دعا الله صالح بما دعا به، تتمخَّض بالناقة تمخُّض النَّتُوج بولدها، (3) فتحركت الهضبة، ثم انتفضت بالناقة، (4) فانصدعت عن ناقة، كما وصَفوا، جوفاءَ وَبْرَاء نَتُوج، ما بين جنبيها لا يعلمه إلا الله عِظمًا، فآمن به جندع بن عمرو ومَنْ كان معه على أمره من رهطه، وأراد أشرافُ ثمود أن يؤمنوا به ويصدِّقوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبُ أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكانوا
(1) في المطبوعة "حراش" ، ولعل ما في المخطوطة يقرأ كما أثبته، وكما سيأتي في نسب آخر بعد قليل.
(2) شرح "المخترجة" ، لم أجده في غير هذا الخب، وهو بمثله في قصص الأنبياء للثعلبي. و "البخت" من الإبل، جمال طوال الأعناق، وهي الإبل الخراسانية، تنتج من بين عربية وفالج.
(3) "النتوج" (بفتح النون) : الحامل.
(4) في المطبوعة: "ثم أسقطت الناقة" غير ما في المخطوطة، وفيها: "ثم استفصت الناقة" كل ذلك غير منقوطة، فرأيت صواب قرأتها ما أثبت.
من أشراف ثمود، فردُّوا أشرافَها عن الإسلام والدخول فيما دعاهم إليه صالح من الرَّحمة والنجاة، (1) وكان لجندع ابن عم يقال له: "شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس" ، فأراد أن يسلم، فنهاه أولئك الرهط عن ذلك، فأطاعهم، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فقال رجل من ثمود يقال له: "مهوس بن عنمة بن الدّميل" ، وكان مسلمًا:
وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْروٍ ... إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا (2) عَزِيزَ ثَمُودَ كُلِّهِمُ جَمِيعًا ... فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا
لأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا ... وَمَا عَدَلوا بصَاحِبِهم ذُؤَابَا
وَلكِنَّ الغُوَاةَ مِن َآلِ حُجْرٍ ... تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذُبَابَا (3)
فمكثت الناقة التي أخرجها الله لهم معها سَقْبها في أرض ثمودَ ترعى الشجر وتشرب الماء، فقال لهم صالح عليه السلام: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) ، وقال الله لصالح: إن الماء قسمةٌ بينهم، كُلّ شِرْبٍ مُحْتَضَر= أي: إن الماء نصفان، لهم يوم، ولها يوم وهي محتضرة، فيومها لا تدع شربها. (4) وقال: (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، [سورة الشعراء:155] . فكانت، فيما بلغني والله أعلم، إذا وردت، وكانت تَرِد غِبًّا، (5) وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها "بئر الناقة" ، فيزعمون أنها منها كانت تشرب إذا وردت، تضع رأسَها فيها، فما ترْفَعه حتى تشرب كل قطرة ماء في الوادي، ثم
(1) في المطبوعة: "وردوا أشرافها" بالواو، والأجود ما في المخطوطة.
(2) الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير 1: 134، وقصص الأنبياء للثعلبي: 57، 58.
(3) في المطبوعة: "ذئابًا" ، وفي البداية والنهاية "ذآبا" ، وكأن الصواب ما في قصص الأنبياء، وهو ما أثبته. والمخطوطة غير منقوطة.
(4) هذا تفسير آية "سورة القمر" : 28.
(5) "غبا" (بكسر الغين) ، أي: ترد يومًا، وتدع يومًا، ثم ترد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|