
16-07-2025, 09:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الأعراف
الحلقة (676)
صــ 491 إلى صــ 500
فروى ذلك بعضهم عنه: (بُشْرًا) ، بالباء وضمها، وسكون الشين.
وبعضهم، بالباء وضمها وضم الشين.
وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) [سورة الروم: 46] ، تبشر بالمطر، وأنه جمع "بشير" يبشر بالمطر، جُمِع "بُشُرًا" ، كما يجمع "النذير" "نُذُرًا" . (1)
* * *
وأما قرأة المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرؤوا ذلك: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِل الرِّيَاحَ نُشُرَا) ، بضم "النون" ، و "الشين" بمعنى جمع "نَشور" جمع "نشرًا" ، كما يجمع "الصبور" "صُبُرًا" ، و "الشكور" "شُكُرًا" .
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معناها إذا قرئت كذلك: أنها الريح التي تهبّ من كل ناحية، وتجيء من كل وجه. (2)
* * *
وكان بعضهم يقول: إذا قرئت بضم النون، فينبغي أن تسكن شينها، لأن ذلك لغة بمعنى "النَّشْر" بالفتح. وقال: العرب تضم النون من "النُّشْر" أحيانًا، وتفتح أحيانًا بمعنى واحد. قال: فاختلاف القرأة في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه. وكان يقول: هو نظير "الخَسْف" ، "والخُسْف" ، بفتح الخاء وضمها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأ ذلك: (نَشْرًا) و (نُشُرًا) ، بفتح "النون" وسكون "الشين" ، وبضم "النون" و "الشين" قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار.
(1) في المطبوعة: "وأنه جمع بشير بشرًا، كما يجمع النذير نذرًا" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 217.
. . ... .... ... ... ... ... (1) .
فلا أحب القراءة بها، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإعراب، لما ذكرنا من العلة.
* * *
وأما قوله: "بين يدي رحمته" ، فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها.
* * *
والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه: "جاء بين يديه" ، لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله فيهم، حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يَدَ له. (2)
* * *
و "الرحمة" التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع، المطر.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: والله الذي يرسل الرياح ليّنًا هبوبها، طيبًا نسيمها، أمام غيْثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابًا ثقالا حتى إذا أقلتها = و "الإقلال" بها، حملها، كما يقال: "استقلّ البعير بحمله" ، و "أقله" ، إذا حمله فقام به = ساقه الله لإحياء بلد ميت، قد تعفَّت مزارعه، ودَرَست مشاربه، وأجدب أهلُه، (3) فأنزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14782 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(1) في موضع هذه النقط سقط لا شك فيه، ذكر فيه العلة التي سيشير إليها بعد. ولم أستطع أن أجد نقلا عن أبي جعفر يهدي إلى ما يسد هذا الخرم.
(2) انظر تفسير: "بين يديه" فيما سلف 6: 160، 438.
(3) انظر تفسير "ميت" و "موت الأرض" فيما سلف 3: 274/ 5: 446.
حدثنا أسباط، عن السدي: "وهو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته" إلى قوله: "لعلكم تذكرون" ، قال: إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين، طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان، فيخرجه من ثَمَّ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء، فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما "رحمته" ، فهو المطر.
* * *
وأما قوله: "كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون" ، فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقُحُوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم ودروس آثارهم = "لعلكم تذكرون" ، يقول تعالى ذكرُه للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربتُ لكم، أيها القوم، هذا المثل الذي ذكرت لكم: من إحياء البلد الميت بقَطْر المطر الذي يأتي به السحاب الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن مَنْ كان ذلك من قدرته، فيسيرٌ في قدرته إحياء الموتى بعد فنائها، وإعادتها خلقًا سويًّا بعد دُرُوسها. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14783 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون" ، وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء.
* * *
14784 - وقال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى، أمطر
(1) انظر تفسير "التذكر" فيما سلف ص: 299، تعليق: 1، والمراجع هناك.
عليهم من ماء تحت العرش يُدعى "ماء الحيوان" أربعين سنة، فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. حتى إذا استكملت أجسادهم، نفخ فيهم الروح، ثم تُلْقى عليهم نَوْمة، فينامون في قبورهم. فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا، وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم، كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) ، فناداهم المنادي: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [سورة يس: 52] . (1)
* * *
14785 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "كذلك نخرج الموتى" ، قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح، فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.
* * *
(1) الأثر: 14784 - هذا الخبر عن أبي هريرة، رواه بغير إسناد، وكنت أظنه من رواية السدي في الأثر السالف، ولكني شككت في ذلك، فآثرت أن أضع له رقمًا مستقلا. وأيا ما كان، فإني لم أجد نص هذا الخبر في شيء من مراجعي. وحديث أبي هريرة في البعث، رواه مسلم في صحيحه 18: 91، قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة: أربعون يومًا؟ قال: أَبَيْتُ. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيتُ. قالوا: أربعون سنة؟ قال أبيتُ، ثم ينزل الله من السماء ماءً فيَنْبُتُون كما يَنْبُتُ البَقْل. وَليس من الإنسانِ شيء إلا يَبْلَى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عَجْبُ الذنب، ومنه يُرَكَّبُ الخلقُ يوم القيامة" .
القول في تأويل قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا، بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. والذي خَبُث فردؤت تربته، وملحت مشاربه، لا يخرج نباته إلا نكدًا =
= يقول: إلا عَسِرًا في شدة، كما قال الشاعر: (1)
لا تُنْجِزُ الوعْدَ، إِنْ وَعَدْتَ، وإن ... أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تَافِهًا نَكِدَا (2)
يعني بـ "التافه" ، القليل، وبـ "النكد" العسر. يقال منه: "نكِد يَنْكَد نكَدًا، ونَكْدًا = فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ" ، والنُّكْد، المصدر. ومن أمثالهم: "نَكْدًا وجحدًا" ، "ونُكدًا وجُحْدا" . و "الجحد" ، الشدة والضيق. ويقال: "إذا شُفِه وسئل: (3) قد نَكَدوه ينكَدُونه نَكْدًا" ، كما قال الشاعر: (4)
وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا ... لا خَيْرَ فِي المَنْكُودِ والنَّاكِدِ (5)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة: (إلا نَكَدًا) ، بفتح الكاف.
* * *
(1) م أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 217 ولسان العرب (تفه) .
(3) "شفه الرجل" (بالبناء للمجهول) ، إذا كثر سؤال الناس إياه فأعطى حتى نفد ما عنده فأفنى ماله. "فهو مشفوه" ومثله "منكود، ومثمود، ومعروك، ومعجوز، ومصفوف، ومكثور عليه" . ويقال: "ماء مشفوه" ، كثير الشاربة، وكذلك الماء والطعام.
(4) م أعرف قائله.
(5) اللسان (نكد) ، وقد ذكرت البيت آنفًا 1: 442، تعليق: 1
وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف: (نَكْدًا) .
* * *
وخالفهما بعد سائر القرأة في الأمصار، فقرؤوه: (إلا نَكِدًا) ، بكسر الكاف.
* * *
كأن من قرأه: "نكَدًا" بنصب الكاف أراد المصدر.
وكأنّ من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها، فسكنها على لغة من قال: "هذه فِخْذ وكِبْد" ، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر "النون" من "نكد" حتى يكون قد أصاب القياس.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءةُ من قرأهُ: (نَكِدًا) ، بفتح "النون" وكسر "الكاف" ، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه.
* * *
وقوله: "كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون" ، يقول: كذلك: نُبين آية بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلا بعد مثل، (1) لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية، وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرَهم باتباعه، وتجنُّبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضرَبه الله للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، مثل للمؤمن = والذي خَبُث فلا يخرج نباته إلا نكدًا، مثلٌ للكافر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14786 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: "والبلد الطيب يخرج نباته"
(1) انظر تفسير "التصريف" فيما سلف 3: 275، 276/ 11: 356، 433/ 12: 25
= وتفسير "الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا "، فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثلَ الكافر كالبلدة السَّبِخة المالحة التي يخرج منها النز (1) فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث."
14787 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "والبلد الطيب" ، و "الذي خبث" قال: كل ذلك من الأرض السِّباخ وغيرها، مثل آدم وذريته، فيهم طيب وخبيث.
14788 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
14789 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا" ، قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن.
14790 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد = يعني ابن المفضل = قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث" ، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا = و "النكد" ، الشيء القليل الذي لا ينفع. فكذلك القلوب لما نزل القرآن، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع، كما لم يُخْرِج هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات.
(1) في المطبوعة: "التي تخرج منها البركة" ، زاد "لا" ، وليست في المخطوطة اتباعًا لما في الدر 3: 93. وفي المخطوطة مثلها أنه كتب "النزله" غير المنقوطة. وهو غير مفهوم إذا قرئ: "تخرج منها البركة" . وصفة الأرض "السبخة" أنها أرض ذات ملح ونز، وهو الماء تتحلب عنه الأرض، فيصير مناقع. ومن أجل ذلك صار راجحًا عندي أن ما أثبته هو الصواب، وأن ما في المخطوطة من فعل الناسخ.
14791 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا" ، قال: الطيب ينفعه المطر فينبت، "والذي خبث" السباخُ، لا ينفعه المطر، لا يخرج نباته إلا نكدًا. قال: هذا مثل ضربه الله لآدم وذريته كلهم، إنما خلقوا من نفس واحدة، فمنهم من آمن بالله وكتابه، فطابَ. ومنهم من كفر بالله وكتابه، فخَبُث.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) }
قال أبو جعفر: أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية: أنه أرسل نوحًا إلى قومه، منذرَهم بأسَه، ومخوِّفَهم سَخَطه، على عبادتهم غيره، فقال لمن كفر منهم: يا قوم، اعبدوا الله الذي له العبادة، وذِلُّوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنه ليس لكم معبودٌ يستوجب عليكم العبادةَ غيرُه، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك "عذابَ يوم عظيم" ، يعني: عذابَ يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربِّكم.
* * *
وقد اختلفت القَرَأة في قراءة قوله: "غيره" .
فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِهِ) ، بخفض "غير" على النعت لـ "إله" .
* * *
وقرأه جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه) ،
برفع "غير" ، ردًّا لها على موضع "من" ، لأن موضعها رفع، لو نزعت من الكلام لكان الكلام رفعًا، وقيل: "ما لكم إله غيرُ الله" . (1) فالعرب [لما وصفت من أن المعلوم بالكلام] (2) أدخلت "من" فيه أو أخرجت، وأنها تدخلها أحيانًا في مثل هذا من الكلام، وتخرجها منه أحيانًا، تردّ ما نعتت به الاسم الذي عملت فيه على لفظه، فإذا خفضت، فعلى كلام واحد، لأنها نعت لـ "الإله" . وأما إذا رفعت، فعلى كلامين: "ما لكم غيره من إله" ، وهذا قول يستضعفه أهل العربية.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن جواب مشركي قوم نوح لنوح، وهم "الملأ" = و "الملأ" ، الجماعة من الرجال، لا امرأة فيهم (3) = أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له: "إنا لنراك" ، يا نوح = "في ضلال مبين" ، (4) يعنون في أمر زائل عن الحق، مبين زوالهُ عن قصد الحقّ لمن تأمله. (5)
* * *
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 382، 383.
(2) هكذا جاءت العبارة في المطبوعة والمخطوطة، وفي الكلام سقط لا شك فيه، لم أستطع أن أرده إلى أصله، ولذلك وضعت هذه العبارة بين القوسين. والظاهر أن السقط طويل، لأن أبا جعفر خالف هنا في هذا السياق ما درج عليه من ذكر أولي القراءتين بالصواب عنده.
(3) انظر تفسير "الملأ" فيما سلف 5: 291، وقد فسره هناك بما فسرته كتب اللغة، أنهم وجوه القوم ورؤساؤهم وأشرافهم. وأما التفسير الذي هنا، فلم يرد فيها، وهو شيء ينبغي أن يقيد. وهذا نص الفراء في معاني القرآن 1: 383.
(4) انظر تفسير "الضلال" و "مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) و (بين) .
(5) في المطبوعة: "عن قصد الحد" ، وهو لا معنى له، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة، وهذا صواب قراءتها. وانظر تفسير الآية التالية.
القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه مجيبًا لهم: يا قوم، لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالطاعة دون الأنداد والآلهة، زوالا مني عن محجة الحقّ، وضلالا لسبيل الصواب، وما بي ما تظنون من الضلال، ولكنّي رسول إليكم من رب العالمين بما أمرتكم به: من إفراده بالطاعة، والإقرار له بالوحدانية، والبراءة من الأنداد والآلهة.
* * *
القول في تأويل قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذبوه: "ولكني رسول من رب العالمين" ، أرسلني إليكم، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم في تحذيري إياكم عقابَ الله على كفركم به، وتكذيبكم إياي، وردّكم نصيحتي = "وأعلم من الله ما لا تعلمون" ، من أن عقابه لا يردُّ عن القوم المجرمين.
* * *
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|