
15-07-2025, 12:57 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,805
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الحادى عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (587)
صــ 176 إلى صــ 185
يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم" . قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، (1) ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: "إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبهم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها."
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال: "تحبسونهما من بعد صلاة العصر" . لأن الله تعالى عرَّف "الصلاة" في هذا الموضع بإدخال "الألف واللام" فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت "الصلاة" في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
(1) "العلج" (بكسر العين وسكون اللام) : الرجل من كفار العجم.
صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات (1) = كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة" ، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله: "لا نشتري به ثمنًا" ، ما:-
12955 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "لا نشتري به ثمنًا" ، قال: نأخذ به رشوة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (ولا نكتم شهادة الله) ، بإضافة "الشهادة" إلى "الله" ، وخفض اسم الله تعالى = يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا.
* * *
وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:-
12956 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عامر: أنه كان يقرأ: (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين) = بقطع "الألف" ، وخفض اسم الله = هكذا حدثنا به ابن وكيع.
* * *
وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا،
(1) انظر خبر العجلانيين في السنن الكبرى للبيهقي 7: 398، وما بعدها.
ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين.
* * *
وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية، وذلك ما:-
12957- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد، عن ابن عون، عن الشعبي: أنه قرأ: (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين) = (1) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن "شهادة" ويخفض "الله" على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع "الألف" على الاستفهام. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. (3)
* * *
وقرأها بعضهم: (ولا نكتم شهادة الله) ، بتنوين "الشهادة" ، ونصب اسم "الله" بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: (ولا نكتم شهادة الله) ، بإضافة "الشهادة" إلى اسم "الله" ، وخفض اسم "الله" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة.
* * *
(1) في المطبوعة: "شهادة الله" ، هو خطأ، صوابه في المخطوطة. وقراءة الشعبي أو قراءاته التي رويت عنه - مذكورة في تفسير أبي حيان 4: 44، والمحتسب لابن جني، فراجعها هناك.
(2) الأثر: 12957 - "أحمد بن يوسف التغلبي الأحول" ، مضى برقم: 5919، 5954، 7664، وكان في المطبوعة هنا "الثعلبي" ، وهو خطأ بيناه هناك.
و "عباد بن عباد الرملي الأرسوفي" ، "أبو عتبة الخواص" . روى عن ابن عون. مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة: "وخفض إنا لقراءة الشعبي" ، وهو خلط لا معنى له، صوابه من المخطوطة.
وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. (1)
12958 - حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن زيد، عنه.
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فإن عُثِر" ، فإن اطُّلع منهما أو ظهر. (2)
وأصل "العثر" ، الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم: "عثرت إصبع فلان بكذا" ، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس:
بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا (3)
(1) في المطبوعة: "وإن كان صاحبها بعيدًا" ، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك منه على كل حال، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. ولم أجد مقالة ابن زيد فيما بين يدي من الكتب.
(2) في المطبوعة: "فيهما" ، والصواب "منهما" .
(3) ديوانه: 83، من قصيدته في هوذة بن علي الحنفي، وقد مضى خبرها 2: 94، تعليق: 1، ومضى منها أبيات في 1: 106/2: 540، وقيل البيت في ذكر أرض مخوفة الليل، وهي "البلدة" المذكورة في البيت التالي: وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الجَوًّابُ دُلْجَتَهَا ... حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا
لاَ يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤَنِّسُهُ ... بِاللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُومِ والضُّوَعَا
كَلَّفْتُ مَجْهُولَها نَفْسِي، وَشَايَعَنِي ... هَمِّي عَلَيْهَا، إذَا مَا آلُهَا لَمَعَا
"الدلجة" : سير الليل. و "الشيع" الأصحاب. و "النئيم" : صوت البوم، أو الصوت الضعيف من صوته. و "الضوع" ، طائر من طيور الليل، إذا أحس بالصباح صدح، وقيل هو: "الكروان" . و "الآل" السراب، و "اللوث" : القوة، يصف ناقته أنها ذات لحم وشحم، قوية على السير. وقوله: "بذات لوث" ، متعلق بقوله: "كلفت" و "عفرناة" (بفتح العين والفاء) صفة للناقة بأنها قوية كأنها من نشاطها مجنونة. و "التعس" ؛ الانحطاط والعثور.
وقوله: "ولعًا" ، كلمة تقال للعاثر، يدعى له بأن ينتعش من عثرته، ومعناها الارتفاع، "لعا لفلان" أي أقامه الله من عثرته، لما وصف الأعشي ناقته بالقوة والنشاط، أنكر أن يكون لها عثرة في سرعتها، فإذا عثرت، كان الدعاء عليها بأن يكبها الله لمنخريها، أولى به من أن يدعو بإقالة عثرتها.
يعني بقوله: "عثرت" ، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. (1) ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا، كقولهم: (عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ) ، بمعنى: وقعت. (2)
* * *
وأما قوله: "على أنهما استحقا إثمًا" ، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية = بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله = "على أنهما استحقا إثمًا" ، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا، أو غيرا وصيته، أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما (3) = "فآخران يقومان مقامهما" ، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما.
(1) في المطبوعة: "ميسم خفها حجر أو غيره" ، والصواب ما أثبت. و "المنسم" (بفتح فسكون فكسر) : طرف خف البعير، والنعامة والفيل. و "منسما البعير" ظفراه اللذان في يديه، وهما له كالظفر للإنسان.
(2) هذا مثل. مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 181، الأمثال للميداني 1: 395، والأمثال لأبي هلال العسكري: 142. قوله "بأخرة" (بفتح الألف والخاء والراء) أي: أخيرًا. تقول: "ما عرفته إلا بأخرة" ، أي: أخيرًا. "ونجد" ، هي الأرض المعروفة. "قردة" . وجمعها "قرد" (كله بفتحات) ، هو: ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد، وهو نفاية الصوف. وأصله أن المرأة تترك الغزل وهي تجد ما تغزل من قطن أو كتان، حتى إذا فاتها، تتبعت القرد (نفاية الصوف) في القمامات، ملتقطة لتغزله. ويضرب مثلا في التفريط مع الإمكان، ثم الطلب مع الفوت. قال أبو هلال: "وهذا مثل قول العامة: نعوذ بالله من الكسلان إذا نشط" . وروى هذا المثل صاحب لسان العرب في (قرد) ، ونصه "عكرت على الغزل. . ." ، وفسره "عكرت، أي: عطفت" . وهو بهذه الرواية لا شاهد فيه.
(3) قوله "فأثما. . . بربهما" ، انظر ما قلت في "أثم بربه" فيما سلف 4: 530 تعليق: 3، / ثم 6: 92، تعليق: 2، وبيانه هناك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
12959 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: "أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا.
12960 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
12961 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: "أو آخران من غيركم" ، من غير المسلمين= "تحبسونهما من بعد الصلاة" ، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: "إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد" . فذلك قوله: "فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا = "فآخران يقومان مقامهما" ، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله: "إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد" ، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.
19262 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين
بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، (1) بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا.
فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. (2) وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله.
* ذكر من قال ذلك:
12963 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله: "ذوا عدل منكم" ، من أهل الإسلام = "أو آخران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام = "إن أنتم ضربتم في الأرض" إلى: "فيقسمان بالله" ، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة، فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى ذكره من الفريضة، (3) يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام= "فآخران يقومان مقامهما" ، من أولياء الميت، فيحلفان بالله: "ما كان صاحبنا ليوصي بهذا" ، أو: "إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما" .
12964 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السديّ قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين "، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير"
(1) في المخطوطة: "فمن نقلها" ، والصواب ما في المطبوعة، أو شبيه بالصواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "لغير الذي يجوز" ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) "الفريضة" ، يعني المواريث.
مرضيين عندهم، أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما، أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، (1) وحلفوا بالله: "لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا" . فذلك قوله: "فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" .
* * *
وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما. (2)
* ذكر من قال ذلك:
12965 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله" ، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا = "فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" . أي بدعواهما لأنفسهما = "فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" ، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه = أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم
(1) في المطبوعة: "فأقبل الأولياء فشهدوا" ، وفي المخطوطة: "فأقبل الأولياء شهدوا" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) في المخطوطة: "إذا ارتابا" .
دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك = ولا -إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، (1) ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره، فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحًا فسادُه.
وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد (2) = من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت، إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال: "ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله" .
على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى به حين نزلت هذه الآية، بين الذين نزلت فيهم وبسببهم.
* ذكر من قال ذلك:
(1) في المطبوعة: "فلم نجد ذلك كذلك صح. . ." ، وأثبت ما في المخطوطة، وسياقه "ولا. . . صح بخير عن الرسول" ، وقوله: "إذا لم نجد ذلك كذلك" اعتراض.
(2) السياق: "فالقول بأن الشاهدين. . . أفسد" ، يعني: أفسد من القول السابق.
12966- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، (1) فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: "لشهادتنا أحق من شهادتهما" ، وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" . (2)
(1) "الجام" : إناء من فضة، وهو عربي صحيح. "مخوص بالذهب" : عليه صفائح من ذهب على هيئة خوص النخل، وهو ورقه. و "التخويص" : أن يجعل على الشيء صفائح من الذهب، على قدر عرض خوص النخل.
(2) الأثر: 12966 - "محمد بن أبي القاسم" ، الطويل، الكوفي. روى عن أبيه، وعبد الله وعبد الملك، ابني سعيد بن جبير، وعن عكرمة. وروى عنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبو أسامة، وحماد بن أسامة. وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال البجيري وقال البخاري ":" لا أعرف محمد بن أبي القاسم كما أشتهي، وكان علي بن عبد الله يستحسن هذا الحديث (يعني حديث تميم الداري) قيل له: رواه غير محمد بن أبي القاسم؟ قال: لا. قال: وروى عنه أبو أسامة، إلا أنه غير مشهور ". وقال الحافظ ابن حجر، بعد ذكر محمد بن أبي القاسم:" وما له في البخاري، ولا لشيخه عبد الملك بن سعيد بن جبير، غير هذا الحديث الواحد. ورجال الإسناد الإسناد، ما بين علي بن عبد الله المديني (شيخ البخاري) ، وابن عباس، كوفيون "."
و "عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي" ، الكوفي، عزيز الحديث، ثقة. مضى برقم: 12776.
و "تميم الداري" ، هو "تميم بن أوس بن خارجة اللخمي" ، منسوب إلى جده "الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم" ، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة تسع وأسلم. وكان نصرانيا، وهو الذي قال لرسول الله: "ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت يصنع بالشأم!" فصنع المنبر. وكان عابدًا.
وأما "عدي بن بداء" (بتشديد الدال) ، فكان نصرانيا، ذكر أنه أسلم، ولكن صحح ابن حجر في ترجمته في الإصابة أنه مات نصرانيًّا.
وهذا الحديث، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5: 307 309) ، وفي التاريخ الكبير 1/1/215، وأبو داود في سننه 3: 418، ورقم: 3606، والبيهقي في السنن الكبرى 10: 165، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 133، وأحكام القرآن للجصاص 2: 490، والترمذي في سننه (في كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة" .
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 266، نقلا عن الطبري، ولم يذكر روايته في صحيح البخاري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 342، فقصر في نسبته إلى البخاري في صحيحه، ونسبه إليه في التاريخ، ثم زاد نسبته إلى ابن المنذر، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|