عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 14-07-2025, 08:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (20)
سُورَةُ الزلزلة

من صــ 141 الى صــ150
الحلقة (770)


وقال ذو الرمة :
حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا
يريد : ما تنفك مناخة ؛ فزاد "إلا" . وقيل : {مُنْفَكِّينَ} : بارحين ؛ أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا ، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان : أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم ، حتى بعث ؛ فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ولهذا قال : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . .. الآية. وعلى هذا {وَالْمُشْرِكِينَ} أي ما كانوا يسيؤون القول في محمد صلى اللّه عليه وسلم ، حتى بعث ؛ فإنهم كانوا يسمونه. الأمين ، حتى أتتهم البينة على لسانه ، وبعث إليهم ، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين : {مُنْفَكِّينَ} هالكين من قولهم : أنفك صلا المرأة عند الولادة ؛ وهو أن ينفصل ، فلا يلتئم فتهلك المعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين : إنهم من أهل الكتاب ؛ فمن اليهود من قال : عزير ابن اللّه. ومن النصارى من قال : عيسى هو اللّه. ومنهم من قال : هو ابنه. ومنهم من قال : ثالث ثلاثة. وقيل : أهل الكتاب كانوا مؤمنين ، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة ، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال : {وَالْمُشْرِكِينَ} وقيل : المشركون وصف أهل الكتاب أيضا ، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم ، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة ، وعامة اليهود مشبهة ؛ والكل شرك. وهو كقولك : جاءني العقلاء والظرفاء ؛ وأنت تريد أقواما بأعيانهم ، تصفهم بالأمرين. فالمعنى : من أهل الكتاب المشركين. وقيل : إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى ، الذين هم أهل الكتاب ، ولم يكن المشركون ، الذين هم عبدة
الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين. قال القشيري : وفيه بعد ؛ لأن الظاهر من {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أن هذا الرسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فيبعد أن يقال : لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد ؛ إلا أن يقال : أراد : لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له ، بمنتهين عن هذا الكفر ، إلى أن يبعث اللّه محمدا إليهم ويبين لهم الآيات ؛ فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم {والمشركون} رفعا ، عطفا على {الذين} . والقراءة الأولى أبين ؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبيّ : {فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين} . وفي مصحف ابن مسعود : {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين} . وقد تقدم. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} قيل حتى أتتهم. والبينة : محمد صلى اللّه عليه وسلم.
قوله تعالى : {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أي بعيث من اللّه جل ثناؤه. قال الزجاج : {رَسُولٌ} رفع على البدل من {الْبَيِّنَةُ} . وقال الفراء : أي هي رسول من اللّه ، أو هو رسول من اللّه ؛ لأن البينة قد تذكر فيقال : بينتي فلان. وفي حرف أبيّ وابن مسعود {رسول} بالنصب على القطع. {يَتْلُو} أي يقرأ. يقال : تلا يتلو تلاوة {صُحُفاً} جمع صحيفة ، وهي ظرف المكتوب. {مُطَهَّرَةً} قال ابن عباس : من الزور ، والشك ، والنفاق ، والضلالة. وقال قتادة : من الباطل. وقيل : من الكذب ، والشبهات. والكفر ؛ والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب ؛ ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب ؛ لأنه كان أميا ، لا يكتب ولا يقرأ. و {مُطَهَّرَةً} : من نعت الصحف ؛ وهو كقوله تعالى : {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} ، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر ، وهي نعت لما في الصحف من القرآن. وقيل : {مُطَهَّرَةً} أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون ؛ كما قال في سورة "الواقعة" حسب ما تقدم بيانه. وقيل : الصحف المطهرة : هي التي عند اللّه في أم الكتاب ، الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء
من الكتب ؛ كما قال تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . قال الحسن : يعني الصحف المطهرة في السماء. {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي مستقيمة مستوية محكمة ؛ من قول العرب : قام يقوم : إذا استوى وصح. وقال بعض أهل العلم : الصحف هي الكتب ؛ فكيف قال في صحف فيها كتب ؟ فالجواب : أن الكتب هنا بمعنى الأحكام ؛ قال اللّه عز وجل : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} بمعنى حكم. وقال صلى اللّه عليه وسلم : "واللّه لأقضين بينكما بكتاب اللّه" ثم قضى بالرجم ، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب ؛ فالمعنى : لأقضين بينكما بحكم اللّه تعالى. وقال الشاعر :
وما الولاء بالبلاء فملتم ... وما ذاك قال الله إذ هو يكتب
وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ؛ فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان.
4-
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}

قوله تعالى : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين ؛ لأنهم مظنون بهم علم فاذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صلى اللّه عليه وسلم ؛ أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته ، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا ، فمنهم من كفر : بغيا وحسدا ، ومنهم من آمن ؛ كقوله تعالى : {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} وقيل : {الْبَيِّنَةُ} : البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء : من أول السورة إلى قوله "قيمة" : حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. وقوله : {وَمَا تَفَرَّقَ} : حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج.
5-
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}

فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَمَا أُمِرُوا} أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} أي ليوحدوه. واللام في {لِيَعْبُدُوا} بمعنى "أن" ؛ كقوله : {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي أن يبين. و {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} و {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وفي حرف عبدالله : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أن لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} . {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي العبادة ؛ ومنه قوله تعالى : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى لا غيره.
الثانية- قوله تعالى : {حُنَفَاءَ} أي مائلين عن الأديان كلها ، إلى دين الإسلام ، وكان ابن عباس يقول : حنفاء : على دين إبراهيم عليه السلام. وقيل : الحنيف : من اختتن وحج ؛ قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة : وأصله أنه تحنف إلى الإسلام ؛ أي مال إليه.
الثالثة- قوله تعالى : {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي بحدودها في أوقاتها. {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي يعطوها عند محلها. {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيامة ؛ أي الدين المستقيم. وقال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة. و {الْقَيِّمَةِ} : نعت لموصوف محذوف. أو يقال : دين الأمة القيمة بالحق ؛ أي القائمة بالحق. وفي حرف عبدالله {وذلك الدين القيم} . قال الخليل : "القيمة" جمع القيم ، والقيم والقائم : واحد. وقال الفراء : أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته ، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة. وقيل : الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة. وقال محمد بن الأشعث ، الطالقاني "القيمة" ها هنا : الكتب التي جرى ذكرها ، والدين مضاف إليها.
6-
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}

7-
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}

قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} {الْمُشْرِكِينَ} : معطوف على {الَّذِينَ} ، أو يكون مجرورا معطوفا على {أَهْلِ} {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الأصل في الموضعين ؛ من قولهم : برأ اللّه الخلق ، وهو البارئ الخالق ، وقال : {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} . الباقون بغير همز ، وشد الياء عوضا منه. قال الفراء : إن أخذت البرية من البرى ، وهو التراب ، فأصله غير الهمز ؛ تقول منه : براه اللّه يبروه بروا ؛ أي خلقه. قال القشيري : ومن قال البرية من البرى ، وهو التراب ، قال : لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة. وقيل : البرية : من بريت القلم ، أي قدرته ؛ فتدخل فيه الملائكة. ولكنه قول ضعيف ؛ لأنه يجب منه تخطئة من همز. وقوله {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم. وقال قوم : أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ كما قال تعالى : {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شر منهم ؛ مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} : إما على التعميم ، أو خير برية عصرهم. وقد استدل بقراءة الهمز من فضل بني آدم على الملائكة ، وقد مضى في سورة "البقرة" القول فيه. وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه : المؤمن أكرم على اللّه عز وجل من بعض الملائكة الذين عنده.
8-
{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}

قوله تعالى : {جَزَاؤُهُمْ} أي ثوابهم. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي خالقهم ومالكهم. {جَنَّاتُ} أي بساتين. {عَدْنٍ} أي إقامة. والمفسرون يقولون : {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بطنان الجنة ، أي وسطها ؛ تقول : عدن بالمكان يعدن [عدنا وعدونا] : أقام. ومعدن الشيء : مركزه ومستقره. قال الأعشى :
وإن يستضافوا إلى حكمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} لا يظعنون ولا يموتون. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أي رضي أعمالهم ؛ كذا قال ابن عباس. {وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضوا هم بثواب اللّه عز وجل. {ذَلِكَ} أي الجنة. {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي خاف ربه ، فتناهى عن المعاصي.
سورة الزلزلة
مدنية ، في قول ابن عباس وقتادة. ومكبة ؛ في قول ابن مسعود وعطاء وجابر. وهي تسع آيات
قال العلماء : وهذه السورة فضلها كثير ، وتحتوي على عظيم : روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من قرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} عدلت له بنصف القرآن. ومن قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عدلت له بربع القرآن ، ومن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عدلت له بثلث القرآن" . قال : حديث غريب ، وفي الباب عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من قرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} أربع مرات ، كان كمن قرأ القرآن كله" . وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال : لما نزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ} بكى أبو بكر ؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لولا أنكم تخطئون وتذنبون ويغفر اللّه لكم ، لخلق أمة يخطئون ويذنبون ويغفر لهم ، إنه هو الغفور الرحيم" .
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}

قوله تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} أي حركت من أصلها. كذا روى عكرمة عن ابن عباس ، وكان يقول : في النفخة الأولى يزلزلها - وقال مجاهد - ؛ لقوله تعالى : {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ثم تزلزل ثانية ، فتخرج موتاها وهي الأثقال. وذكر المصدر للتأكيد ، ثم أضيف إلى الأرض ؛ كقولك : لأعطينك عطيتك ؛ أي عطيتي لك. وحسن ذلك لموافقة رؤوس الآي بعدها. وقراءة العامة بكسر الزاي من الزلزال. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر بفتحها ، وهو مصدر أيضا ، كالوسواس والقلقال والجرجار. وقيل : الكسر المصدر. والفتح الاسم.
2-
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}

قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض ، فهو ثقل لها. وإذا كان قوقها ، فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد : {أَثْقَالَهَا} : موتاها ، تخرجهم في النفخة الثانية ، ومنه قيل للجن والإنس : الثقلان. وقالت الخنساء :
أبعد ابن عمرو من آل الشر ... يد حلت به الأرض أثقالها
تقول : لما دفن عمرو صار حلية لأهل القبور ، من شرفه وسؤدده. وذكر بعض أهل العلم قال : كانت العرب تقول : إذا كان الرجل سفاكا للدماء : كان ثقلا على ظهر الأرض ؛ فلما مات حطت الأرض عن ظهرها ثقلها. وقيل : {أَثْقَالَهَا} كنوزها ؛ ومنه الحديث : "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة..." .
3-
{وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا}

قوله تعالى : {وَقَالَ الْأِنْسَانُ} أي ابن آدم الكافر. فروى الضحاك عن ابن عباس قال : هو الأسود بن عبد الأسد. وقيل : أراد كل إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى : من مؤمن وكافر. وهذا قول من جعلها في الدنيا من أشراط الساعة ؛ لأنهم لا يعلمون جميعا من أشراط الساعة في ابتداء أمرها ، حتى يتحققوا عمومها ؛ فلذلك سأل بعضهم بعضا عنها. وعلى قول من قال : إن المراد بالإنسان الكفار خاصة ، جعلها زلزلة القيامة ؛ لأن المؤمن معترف بها ، فهو لا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها ، فلذلك يسأل عنها. {مَا لَهَا} أي ما لها زلزلت. وقيل : ما لها أخرجت أثقالها ، وهي كلمة تعجيب ؛ أي لأي شيء زلزلت. ويجوز أن يحيى اللّه الموتى بعد وقوع النفخة الأولى ، ثم تتحرك الأرض فتخرج الموتى وقد رأوا الزلزلة وانشقاق الأرض عن الموتى أحياء ، فيقولون من الهول : ما لها.
4-
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}

5-
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}

6-
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}

قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} {يَوْمَئِذٍ} منصوب بقوله : {إِذَا زُلْزِلَتِ} . وقيل : بقوله {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ؛ أي تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ. ثم قيل : هو من قول اللّه تعالى. وقيل : من قول الإنسان ؛ أي يقول الإنسان ما لها تحدث أخبارها ؛ متعجبا. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال : "أتدرون ما أخبارها" - قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال : "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل يوم كذا ، كذا وكذا. قال : فهذه أخبارها" . قال : هذا حديث حسن صحيح. قال الماوردي ، قوله : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} : فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} بأعمال العباد على ظهرها ؛ قال أبو هريرة ، ورواه مرفوعا. وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.
الثاني : تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها ؛ قاله يحيى بن سلام. وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.
قلت : وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنه قال : "إذا كان أجل العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها ، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه اللّه ، فتقول الأرض يوم القيامة : رب هذا ما استودعتني" . أخرجه ابن ماجه في سننه. وقد تقدم.
الثالث : أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها ؟ قال ابن مسعود. فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى. فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم ، ووعيدا للكافر ، وإنذارا للمؤمن. وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل : أحدها : أن اللّه تعالى يقلبها حيوانا ناطقا ؛ فتتكلم بذلك. الثاني : أن اللّه تعالى يحدث فيها الكلام. الثالث : أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام. قال الطبري : تبين أخبارها بالرجة والزلزلة وإخراج الموتى.
قوله تعالى : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي إنها تحدث أخبارها أوحي اللّه {لَهَا} ، أي إليها. والعرب تضع لام الصفة موضع "إلى" . قال العجاج يصف الأرض :
وحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت
وهذا قول أبي عبيدة : {أَوْحَى لَهَا} أي إليها. وقيل : {أَوْحَى لَهَا} أي أمرها ؛ قال مجاهد. وقال السدي : {أَوْحَى لَهَا} أي قال لها. وقال : سخرها. وقيل : المعنى يوم تكون الزلزلة ، وإخراج الأرض أثقالها ، تحدث الأرض أخبارها ؛ ما كان عليها من الطاعات والمعاصي ، وما عمل على ظهرها من خير وشر. وروي ذلك عن الثوري وغيره.
قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} أي فرقا ؛ جمع شت. قيل : ءن موقف الحساب ؛ فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة ، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار ؛ كما قال تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} . وقيل : يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب. {أَشْتَاتاً}
يعني فرقا فرقا. {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يعني ثواب أعمالهم. وهذا كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : "ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه ، فإن كان محسنا فيقول : لم لا أزددت إحسانا ؟ وإن كان غير ذلك يقول : لم لا نزعت عن المعاصي" ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وكان ابن عباس يقول : {أَشْتَاتاً} متفرقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة ، وأهل كل دين على حدة. وقيل : هذا الصدور ، إنما هو عند النشور ؛ يصدرون أشتاتا من القبور ، فيصار بهم إلى موقف الحساب ، ليروا أعمالهم في كتبهم ، أو ليروا جزاء أعمالهم ؛ فكأنهم وردوا القبور فدفنوا فيها ، ثم صدروا عنها. والوارد : الجائي. والصادر : المنصرف. {أَشْتَاتاً} أي يبعثون من أقطار الأرض. وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير ، مجازه : تحدث أخبارها ، بأن ربك أوحى لها ، ليروا أعمالهم. واعترض قوله {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} متفرقين عن موقف الحساب. وقراءة العامة {لِيُرَوْا} بضم الياء ؛ أي ليريهم اللّه أعمالهم. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج ونصر بن عاصم وطلحة بفتحها ؛ وروي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.
7-
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}

8-
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}

فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} كان ابن عباس يقول : من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا ، ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات ، ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه ، ويضاعف له في الآخرة. وفي بعض الحديث : "الذرة لا زنة لها" وهذا مثل ضربه الله تعالى : أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة. وهو مثل قوله تعالى :



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]