
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (20)
سُورَةُ الأعلى
من صــ 11 الى صــ20
الحلقة (757)
وقال عبدالرحمن بن زيد : الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء ؛ تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقيل : ذات الملائكة ؛ لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وهذا قسم. {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} قسم آخر ؛ أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار ؛ نظيره {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} الآية. والصدع : بمعنى الشق ؛ لأنه يصدع الأرض ، فتنصدع به. وكأنه قال : والأرض ذات النبات ؛ لأن النبات صادع للأرض. وقال مجاهد : والأرض ذات الطرق التي تصدعها المشاة. وقيل : ذات الحرث ، لأنه يصدعها. وقيل : ذات الأموات : لانصداعها عنهم للنشور. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} على هذا وقع القسم. أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب ما رواه الحارث عن علي رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : "كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه اللّه ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه" . وقيل : المراد بالقول الفصل : ما تقدم من الوعيد في هذه السورة ، من قوله تعالى : {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} . {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي ليس القرآن بالباطل واللعب. والهزل : ضد الجد ، وقد هزل يهزل. قال الكميت :
يُجَد بنا في كل يوم ونهزِل
{إِنَّهُمْ} أي إن أعداء اللّه {يَكِيدُونَ كَيْداً} أي يمكرون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مكرا. {وَأَكِيدُ كَيْداً} أي أجازيهم جزاء كيدهم. وقيل : هو ما أوقع اللّه بهم يوم بدر من القتل والأسر. وقيل : كيد اللّه : استدراجهم من حيث لا يعلمون. وقد مضى هذا المعنى في أول "البقرة" ، عند قوله تعالى : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} . مستوفى.
17-
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}
قوله تعالى : {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي أخرهم ، ولا تسأل اللّه تعجيل إهلاكهم ، وارض بما يدبره في أمورهم. ثم نسخت بآية السيف {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . {أَمْهِلْهُمْ} تأكيد. ومهل وأمهل : بمعنى ؛ مثل نزل وأنزل. وأمهله : أنظره ، ومهله تمهيلا ، والاسم : المهلة. والاستمهال : الاستنظار. وتمهل في أمره أي اتأد. واتمهل اتمهلالا : أي اعتدل وانتصب. والاتمهلال أيضا : سكون وفتور. ويقال : مهلا يا فلان ؛ أي رفقا وسكونا. "رويدا" أي قريبا ؛ عن ابن عباس. قتادة : قليلا. والتقدير : أمهلهم إمهالا قليلا. والرويد في كلام العرب : تصغير رود. وكذا قاله أبو عبيد. وأنشد :
كأنها ثمل يمشي على رود
أي على مهل. وتفسير {رُوَيْداً} : مهلا ، وتفسير "رويدك" : أمهل ؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل دون غيره ، وإنما حركت الدال لالتقاء الساكنين ، فنصب نصب المصادر ، وهو مصغر مأموو به ؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد ؛ وهو مصدر أرود يرود. وله أربعة أوجه : اسم للفعل ، وصفة ، وحال ، ومصدر ؛ فالاسم نحو قولك : رويد عمرا ؛ أي أرود عمرا ، بمعنى أمهله. والصفة نحو قولك : ساروا سيرا رويدا. والحال نحو قولك : سار القوم رويدا ؛ لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها. والمصدر نحو قولك : رويد عمرو بالإضافة ؛ كقوله تعالى : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} . قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر ؛ أي إمهالا رويدا. ويجوز أن يكون للحال ؛ أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب. ختمت السورة.
سورة الأعلى
مكية في قول الجمهور.وقال الضحاك : مدنية. وهي تسع عشرة آية.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنَ اْلرَّحِيمِ
1-
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}
يستحب للقارئ إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أن يقول عَقِبَهْ : "سبحان ربي الأعلى" ؛ قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين ؛ على ما يأتي. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : "إن لله تعالى ملكا يقال له حِزقيائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمسمائة عام ، فخطر له خاطر هل تقدر أن تبصر العرش جميعه ؟ فزاده اللّه أجنحة مثلها ، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح ، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام. ثم أوحى اللّه إليه : أيها الملك ، أن طر ، فطار مقدار عشرين ألف سنة ؛ فلم يبلغ رأس قائمة من قوائم العرش. ثم ضاعف اللّه له في الأجنحة والقوة ، وأمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى ، فلم يصل أيضا ؛ فأوحى اللّه إليه أيها الملك ، لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي. فقال الملك : سبحان ربي الأعلى ؛ فأنزل اللّه تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم :" اجعلوها في سجودكم ". ذكره الثعلبي في (كتاب العرائس) له. وقال ابن عباس والسدي : معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي عظم ربك الأعلى. والاسم صلة ، قصد بها تعظيم المسمى ؛ كما قال لبيد :"
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
وقيل : نزه ربك عن السوء ، وعما يقول فيه الملحدون. وذكر الطبري أن المعنى نزه اسم ربك عن أن تسمي به أحدا سواه. وقيل : نزه تسمية ربك وذكرك إياه ، أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم ، ولذكره محترم. وجعلوا الاسم بمعنى التسمية ، والأولى أن يكون الاسم هو المسمى. روى نافع عن ابن عمر قال : لا تقل على اسم اللّه ؛ فإن اسم اللّه هو الأعلى. وروى أبو صالح عن ابن عباس : صلّ بأمر ربك الأعلى. قال : وهو أن تقول سبحان ربك الأعلى. وروي عن علي رضي اللّه عنه ، وابن عباس وابن عمرو وابن الزبير وأبي موسى وعبدالله بن مسعود رضي اللّه عنهم : أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا : سبحان ربي الأعلى ؛ امتثالا لأمره في ابتدائها. فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم ؛ لا أن سبحان ربي الأعلى من القرآن ؛ كما قاله بعض أهل الزيغ. وقيل : إنها في قراءة أُبيّ : {سبحان ربي الأعلى} . وكان ابن عمر يقرؤها كذلك. وفي الحديث : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأها قال : "سبحان ربي الأعلى" . قال أبو بكر الأنباري : حدثني محمد بن شهريار ، قال : حدثنا حسين بن الأسود ، قال : حدثنا عبدالرحمن بن أبي حماد قال : حدثنا عيسى بن عمر ، عن أبيه ، قال : قرأ علي بن أبي طالب عليه السلام في الصلاة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ثم قال : سبحان ربي الأعلى ؛ فلما انقضت الصلاة قيل له : يا أمير المؤمنين ، أتزيد هذا في القرآن ؟ قال : ما هو ؟ قالوا : سبحان ربي الأعلى. قال : لا ، إنما أمرنا بشيء فقلته ، وعن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "اجعلوها في سجودكم" . وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى ؛ لأنهم لم يقولوا : سبحان اسم ربك الأعلى. وقيل : إن أول من قال [سبحان ربي الأعلى] ميكائيل عليه السلام. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لجبريل : "يا جبريل أخبرني بثواب من قال : سبحان ربي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته" . فقال : "يا محمد ، ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده ، إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا ، ويقول اللّه تعالى : صدق عبدي ، أنا فوق كل شيء ، وليس فوقي شيء ، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له ،"
وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم ، فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه ، فأوقفه بين يدي اللّه تعالى ، فيقول : يا رب شفعني فيه ، فيقول قد شفعتك فيه ، فاذهب به إلى الجنة ". وقال الحسن : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي صل لربك الأعلى. وقل : أي صل بأسماء اللّه ، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل : ارفع صوتك بذكر ربك. قال جرير :"
قبح الإله وجوه تغلب كلما ... سبح الحجيج وكبروا تكبيرا
2-
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}
3-
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}
4-
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}
5-
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}
قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} قد تقدم معنى التسوية في "الانفطار" وغيرها. أي سوى ما خلق ، فلم يكن في خلقه تثبيج. وقال الزجاج : أي عدل قامته. وعن أكثر قامته. ابن عباس : حسن ما خلق. وقال الضحاك : خلق آدم فسوى خلقه. وقيل : خلق في أصلاب الآباء ، وسوى في أرحام الأمهات. وقيل : خلق الأجساد ، فسوى الأفهام. وقيل : أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف. {الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قرأ علي رضي اللّه عنه السلمي والكسائي {قدر} مخففة الدال ، وشدد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدر ووفق لكل شكل شكل. {فَهَدَى} أي أرشد. قال مجاهد : قدر الشقاوة والسعادة ، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل : قدر أقواتهم وأرزاقهم ، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا ، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله {فَهَدَى} قالوا : عَرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى ؛ كما قال في (طه) : {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي الذكر للأنثى. وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها ، وهداها له. وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه
استخراجها منها. وقيل {قَدَّرَ فَهَدَى} : قدر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه ، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها اللّه أن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها ؛ فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام ، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها ، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها ، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن اللّه تعالى. وهدايات الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه ، ولا يحصر من حوائجه ، في أغذيته وأدويته ، وفي أبواب دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع ، وشوط بطين ، لا يحيط به وصف واصف ؛ فسبحان ربي الأعلى. وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر ، وأقل وأكثر ، ثم هداه للخروج من الرحم. وقال الفراء : أي قدر ، فهدى وأضل ؛ فاكتفى بذكر أحدهما ؛ كقوله تعالى : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ} . ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان ؛ كقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . أي لتدعو ، وقد دعا الكل إلى الإيمان. وقيل : {فَهَدَى} أي دلهم بأفعاله على توحيده ، وكونه عالما قادرا. ولا خلاف أن من شدد الدال من {قدر} أنه من التقدير ؛ كقوله تعالى : {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} . ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القدر والملك ؛ أي ملك الأشياء ، وهدي من يشاء.
قلت : وسمعت بعض أشياخي يقول : الذي خلق فسوى وقدر فهدى. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال اللّه سبحانه على جميع مخلوقاته.
قوله تعالى : {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي النبات والكلأ الأخضر. قال الشاعر :
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} الغثاء : ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش. وكذلك الغثاء (بالتشديد) . والجمع : الأغثاء ، قتادة : الغثاء : الشيء اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس : غثاء وهشيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش غثاء ؛ كما قال :
كأن طمية المجيمر غدوة ... من السيل والأغثاء فلكة مغزل
وحكى أهل اللغة : غثا الوادي وجفا. وكذلك الماء : إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به. والأحوى : الأسود ؛ أي أن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود. والحوة : السواد ؛ قال الأعشى :
لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
وفي الصحاح : والحوة : سمرة الشفة. يقال : رجل أحوى ، وامرأة حواء ، وقد حويت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفوة. وتصغير أحوى أحيو ؛ في لغة من قال أسيود. ثم قيل : يجوز أن يكون {أحوى} حالا من {المرعى} ، ويكون المعنى : كأنه من خضرته يضرب إلى السواد ؛ والتقدير : أخرج المرعى أحوى ، فجعله غثاء يقال : قد حوي النبت ؛ حكاه الكسائي ، وقال :
وغيث من الوسميّ حُوٍّ تلاعه ... تبطنته بشيظم صلتان
ويجوز أن يكون {أحوى} صفة لـ {غثاء} . والمعنى : أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة : فجعله أسود من احتراقه وقدمه ؛ والرطب إذا يبس أسود. وقال عبدالرحمن زيد : أخرج المرعى أخضر ، ثم لما يبس أسود من احتراقه ، فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مثل ضربه اللّه تعالى للكفار ، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.
6-
{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى}
7-
{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}
8-
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}
قوله تعالى : {سَنُقْرِئُكَ} أي القرآن يا محمد فنعلمكه {فَلا تَنْسَى} أي فتحفظ ؛ رواه ابن وهب عن مالك. وهذه بشرى من اللّه تعالى ؛ بشره بأن أعطاه آية بينة ، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي ، وهو أُمي لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : كان يتذكر مخافة أن ينسى ، فقيل : كفيتكه. قال مجاهد والكلبي : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي ، لم يفرغ جبريل من آخر الآية ، حتى يتكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأولها ، مخافة أن ينساها ؛ فنزلت : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} بعد ذلك شيئا ، فقد كفيتكه. وجه الاستثناء على ، ما قاله الفراء : إلا ما شاء اللّه ، وهو لم يشأ أن تنسى شيئا ؛ كقوله تعالى : {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} . ولا يشاء. ويقال في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت ، وإلا أن أشاء أن أمنعك ، والنية على ألا يمنعه شيئا. فعلى هذا مجاري الإيمان ؛ يستثنى فيها ونية الحالف التمام. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس : فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات ، {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . وعن سعيد عن قتادة ، قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينسى شيئا ؛ إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ . وعلى هذه الأقوال قيل : إلا ما شاء اللّه أن ينسى ، ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد نزول هذه الآية. وقيل : إلا ما شاء اللّه أن ينسى ، ثم يذكر بعد ذلك ؛ فاذا قد نسي ، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا. وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ، فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله فقال : [إني نسيتها] . وقيل : هو من النسيان ؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسيك. ثم قيل : هذا بمعنى النسخ ؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسخه. والاستثناء نوع من النسخ. وقيل. النسيان بمعنى الترك ؛ أي يعصمك من أن تترك العمل به ؛ إلا ما شاء اللّه أن تتركه لنسخه إياه. فهذا في نسخ العمل ، والأول في نسخ القراءة. قال الفرغاني : كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم ، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي ، وكان رجلا جليلا ؛ فقال يوما : ما تقول يا أبا القاسم في قول اللّه تعالى : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} ؟ فأجابه مسرعا - كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات : لا تنسى العمل به. فقال ابن كيسان : لا يفضض اللّه فاك مثلك من يصدر عن رأيه. وقوله : {فَلا} : للنفي لا للنهي. وقيل : للنهي ؛ وإنما أثبتت الياء لأن رؤوس الآي على ذلك. والمعنى : لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه ؛ إلا ما شاء اللّه أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة. والأول هو المختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما. وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف ، وعليها القراء. وقيل : معناه إلا ما شاء اللّه أن يؤخر إنزاله. وقيل : المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء اللّه أن ينال بنو آدم والبهائم ، فإنه لا يصير كذلك.
قوله تعالى : {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ} أي الإعلان من القول والعمل. {وَمَا يَخْفَى} من السر. وعن ابن عباس : ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك. {وَمَا يَخْفَى} هو ما نسخ من صدرك. {ونيسرك} : معطوف على {سنقرئك} وقوله : {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } اعتراش. ومعنى {لِلْيُسْرَى} أي للطريقة اليسرى ؛ وهي عمل الخير. قال ابن عباس : نيسرك لأن تعمل خيرا. ابن مسعود : {لِلْيُسْرَى} أي للجنة. وقيل : نوفقك للشريعة اليسرى ؛ وهي الحنيفية السمحة السهلة ؛ قال معناه الضحاك. وقيل : أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به.
9-
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}
قوله تعالى : {فَذَكِّرْ} أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن. {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي الموعظة. وروى يونس عن الحسن قال : تذكرة للمؤمن ، وحجة على الكافر. وكان ابن عباس يقول : تنفع أوليائي ، ولا تنفع أعدائي. وقال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع. والمعنى : فذكر إن نفعت الذكرى ؛ أو لم تنفع ، فحذف ؛ كما قال : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} . وقيل : إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم. وقيل : إن "إن" بمعنى ما ؛ أي فذكر ما نفعت الذكرى ، فتكون {إن} بمعنى ما ، لا بمعنى الشرط ؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال ؛ قال ابن شجرة. وذكر بعض أهل العربية : أن {إن} بمعنى إذ ؛ أي إذ نفعت ؛ كقوله تعالى : {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إذ كنتم ؛ فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم. وقيل : بمعنى قد.
10-
{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}
أي من يتقي اللّه ويخافه. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : نزلت في ابن أم مكتوم. الماوردي : وقد يذكر من يرجوه ، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي ؛ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء ، وإن تعلقت بالخشية والرجاء. وقيل : أي عمم أنت التذكير والوعظ ، وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى ، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء ؛ حكاه القشيري.
11-
{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}
12-
{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}
13-
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى}
قوله تعالى : {وَيَتَجَنَّبُهَا} أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها. {الْأَشْقَى} أي الشقي في علم اللّه. وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}