
14-07-2025, 05:23 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,389
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ النازعات
من صــ 201 الى صــ210
الحلقة (746)
كان أقوى من كفار عصرك ، ثم أخذناه ، وكذلك هؤلاء. وقيل : "هل" بمعنى "ما" أي ما أتاك ، ولكن أخبرت به ، فإن فيه عبرة لمن يخشى. وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية. وفي "طوى" ثلاث قراءات : قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون "طوى" منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين ؛ لأنه معدول مثل عمر وقثم
قال الفراء : طوى : واد بين المدينة ومصر. قال : وهو معدول عن طاو ، كما عدل عمر عن عام. وقرأ الحسن وعكرمة "طوى" بكسر الطاء ، وروي عن أبي عمرو ، على معنى المقدس مرة بعد مرة ؛ قال الزجاج ؛ وأنشد :
أعاذل إن اللوم في غير كنهه ... علي طوى من غيك المتردد
أي هو لوم مكرر علي. وقيل : ضم الطاء وكسرها لغتان ، وقد مضى في "طه" القول فيه. {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} أي ناداه ربه ، فحذف ، لأن النداء قول ؛ فكأنه ؛ قال له رب "أذهب إلى فرعون" . {إِنَّهُ طَغَى} أي جاوز القدر في العصيان. وروي عن الحسن قال : كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال : كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال : من أهل أصبهان ، يقال له ذو ظفر ، طول أربعة أشبار. {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} أي وأرشدك إلى طاعة ربك {فَتَخْشَى} أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وبن كثير "تزكى" بتشديد الزاي ، على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى. الباقون : "تزكى" بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو : "تزكى" بالتشديد [تتصدق بـ] الصدقة ، و "تزكى" يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال : فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية :
لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} إلى قول {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ولن يفعل ، فقال : يا رب ، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل ؟ فأوحى الله إليه أن أمض إلى ما أمرتك به ، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر ، فلم يبلغوه ولا يدركوه. {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} أي العلامة العظمى وهي المعجزة وقيل : العصا. وقيل : اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس : الآية الكبرى قال العصا. الحسن : يده وعصاه. وقيل : فلق البحر. وقيل : الآية : إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. {فَكَذَّبَ} أي كذب نبي الله موسى {وَعَصَى} أي عصى ربه عز وجل. {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان "يسعى" أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل : يعمل في نكاية موسى. وقيل : "أدبر يسعى" هاربا من الحية. {فَحَشَرَ} أي جمع أصحابه يمنعوه منها. وقيل : جمع جنوده للقتال والمحاربة ، والسحرة للمعارضة. وقيل : حشر الناس للحضور. {فَنَادَى} أي قال لهم بصوت عال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أي لا رب لكم فوقي. ويروى : إن إبليس تصور لفرعون في صورة الإنس بمصر في الحمام ، فأنكره فرعون ، فقال له إبليس : ويحك! أما تعرفني ؟ قال : لا. قال : وكيف وأنت خلقتني ؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء : كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها ، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل : أراد القادة والسادة. هو ربهم ، وأولئك ، هم أرباب السفلة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ فنادى فحشر ؛ لأن النداء يكون قبل الحشر. {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أي نكال قوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وقوله بعد : {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة ؛ قال ابن عباس. والمعنى : أمهله في الأولى ، ثم أخذه في الآخرة ، فعذبه بكلمتيه. وقيل : نكال الأولى : هو أن أغرقه ، ونكال الآخرة : العذاب في الآخرة. وقال قتادة وغيره. وقال مجاهد : هو عذاب أول عمره وأخره. وقيل : الآخرة قوله "أنا ربكم الأعلى" والأولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا.
و "نكال" منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج ؛ لأن معنى أخذه الله : نكل ، الله به ، فأخرج [نكال] مكان مصدر من معناه ، لا من لفظه. وقيل : نصب بنزع حرف الصفة. أي فأخذه الله بنكال الآخرة ، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء : أي أخذه الله أخذا نكالا ، أي للنكال. والنكال : اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال : نكل فلان بفلان : إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل القيد. وقد مضى في سورة "المزمل" والحمد لله. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي اعتبارا وعظة. {لِمَنْ يَخْشَى} أي يخاف الله عز وجل.
27- {ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} .
28- {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} .
29- {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} .
30- {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} .
31- {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} .
32- {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} .
33- {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}
قوله تعالى : {ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} يريد أهل مكة ، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم {أَمِ السَّمَاءُ} فمن قدر على السماء قدر على الإعادة ؛ كقوله تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال : {بَنَاهَا} أي رفعها فوقكم كالبناء. {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي أعلى سقفها في الهواء ؛ يقال : سمكت الشيء أي رفعته في الهواء ، وسمك الشيء سموكا : ارتفع. وقال الفراء : كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال ، والمسموكات : السموات. ويقال : أسمك في الديم ، أي أصعد في الدرجة.
قوله تعالى : {فَسَوَّاهَا} أي خلقها خلقا مستويا ، لا تفاوت فيه ، ولا شقوق ، ولا فطور.
قوله تعالى : "وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا" أي جعله مظلما ؛ غطش الليل وأغطشه الله ؛ كقولك : ظلم [الليل] وأظلمه الله. ويقال أيضا : أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال : أظلم الليل ، وأظلمه الله. والغطش والغبش : الظلمة. ورجل أغطش : أي أعمى ، أو شبيه به ، وقد غطش ، والمرأة غطشاء ؛ ويقال : ليلة غطشاء ، وليل أغطشى وفلاة غطشى لا يهتدى لها ؛ قال الأعشى :
ويهماء بالليل غطشى الفلا ... ة يؤنسني صوت فيادها
وقال الأعشى أيضا :
عقرت لهم موهنا ناقتي ... وغامرهم مدلهم غطش
يعني بغامرهم ليلهم ، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس ، والشمس مضاف إلى السماء ، ويقال : نجوم الليل ، لأن ظهورها بالليل.
قوله تعالى : {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل ؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول "البقرة" عند قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} مستوفى. والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا : إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي ؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت :
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي
وأنشد المبرد :
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
وقيل : دحاها سواها ؛ ومنه قول زيد بن عمرو :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا
وعن ابن عباس : خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان ، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن "بعد" في موضع "مع" كأنه قال : والأرض مع ذلك دحاها ؛ كما قال تعالى : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} . ومنه قولهم : أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق ، قال الشاعر :
فقلت لها عني إليك فإنني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب. وقيل : بعد : بمعنى قبل ؛ كقوله تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من قبل الفرقان ، قال أبو خراش الهذلي :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل : "دحاها" : حرثها وشقها. قال ابن زيد. وقيل : دحاها مهدها للأقوات. والمعنى متقارب وقراءة العامة "والأرض" بالنصب ، أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون "والأرض" بالرفع ، على الابتداء ؛ لرجوع الهاء. ويقال : دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا ؛ كقولهم : طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي ، ومحا يمحو ويمحي ، ولحى العود يلحى ويلحو ، فمن قال : يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت "أخرج منها" أي أخرج من الأرض {مَاءَهَا} أي العيون المتفجرة بالماء. {وَمَرْعَاهَا} أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي : دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح ؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء. {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} قراءة العامة "والجبال" بالنصب ، أي وأرسى الجبال
"أرساها" يعني : أثبتها فيها أوتادا لها. وقرأ
الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم "والجبال" بالرفع على الابتداء. ويقال : هلا أدخل حرف العطف على "أخرج" فيقال : "إنه حال بإضمار قد ؛ كقوله تعالى : {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} . {مَتَاعاً لَكُمْ} أي منفعة لكم {وَلِأَنْعَامِكُمْ} من الإبل والبقر والغنم. و" متاعا "نصب على المصدر من غير اللفظ ؛ لأن معنى" أخرج منها ماءها ومرعاها "أمتع بذلك. وقيل : نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا."
34- {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} .
35- {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} .
36- {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى}
قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} أي الداهية العظمى ، وهي النفخة الثانية ، التي يكون معها البعث ، قال ابن عباس في رواية الضحاك عنه ، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك : أنها القيامة ؛ سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء ، فتعم ما سواها لعظم هولها ؛ أي تقلبه. وفي أمثالهم :
جرى الوادي فطمَّ على القريِّ
المبرد : الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع ، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم : طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري ، وطم الماء إذا ملأ النهر كله. غيره : هي مأخوذة من طم السيل الركية أي دفنها ، والطم : الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني : الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد : وقال سفيان : هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت ؛ قال :
إن بعض الحب يعمي ويصم ... وكذاك البغض أدهى وأطم
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} أي ما عمل من خير أو شر. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أي ظهرت. {لِمَنْ يَرَى} قال ابن عباس : يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل : المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل : يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب "فإذا جاءت الطامة" محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار : "وبرزت الجحيم" . عكرمة : وغيره : "لمن ترى" بالتاء ، أي لمن تراه الجحيم ، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام ، والمراد به الناس.
37- {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} .
38- {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .
39- {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} .
40- {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} .
41- {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .
قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي تجاوز الحد في العصيان. قيل : نزلت في النضر وابنه الحارث ، وهي عامة في كل كافر أثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وروى عن يحيى بن أبي كثير قال : من اتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال : قال حذيفة : أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب : إن الله جل ثناؤه قال "لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته ، إلا بثثت عليه همومه وضيعته ، ثم لا أبالي في أيها هلك" . {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء.
قوله تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع : مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول : إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد : هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب
فيقلع. نظيره : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} . {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل : ترك الهوى مفتاح الجنة ؛ لقوله عز وجل : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} قال عبدالله بن مسعود : أنتم في زمان يقود الحق الهوى ، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير ؛ فروى الضحاك عن ابن عباس قال : أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر ، فأخذته الأنصار فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا أخو مصعب بن عمير ، فلم يشدوه في الوثاق ، وأكرموه وبيتوه عندهم ، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه ؛ فقال : ما هو لي بأخ ، شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه ، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام ، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه قال : "عند الله أحتسبك" وقال لأصحابه : "لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب" . وقيل : إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال : نزلت هذه الآية في رجلين : أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي : نزلت هذه الآية {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام ، وكان يسأله من أين أتيت بهذا ، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله ، فقال له غلامه : لم لا تسألني اليوم ؟ فقال : نسيت ، فمن أين لك هذا الطعام. فقال : تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال : يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} . وقال الكلبي : نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله ، فانتهى عنها. والله أعلم.
42- {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} .
43- {فيم أنت من ذكراها} .
44- {إلى ربك منتهاها} .
45- {إنما أنت منذر من يخشاها} .
46- {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}
قوله تعالى : {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} قاله ابن عباس : سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء ، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى : {فيم أنت من ذكراها} ؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة ، حتى نزلت هذه الآية {إلى ربك منتهاها} . ومعنى "مرساها" أي قيامها. قال الفراء : رسوها قيامها كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة : أي منتهاها ، ومرسى السفينة حيث ، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس : متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في "الأعراف" بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقوم الساعة إلا بغضبة يغضبها ربك" . {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها ؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال : لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت : {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} أي منتهى علمها ؛ فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك ، فقيل له : لا تسأل ، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له ؛ أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك بيانه ، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر.
قوله تعالى : {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} أي منتهى علمها ، فلا يوجد عند غيره علم الساعة ؛ وهو كقوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} :
أي مخوف ؛ وخص الإنذار بمن يخشى ، لأنهم المنتفعون به ، وإن كان منذرا لكل مكلف ؛ وهو كقوله تعالى : {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} .
وقراءة العامة "منذر" بالإضافة غير منون ؛ طلب التخفيف ، وإلا فأصله التنوين ؛ لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء : يجوز التنوين وتركه ؛ كقوله تعالى : {بَالِغُ أَمْرِهِ} ، و {بَالِغٌ أَمْرِهِ} و {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} و {مُوهِنٌ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} والتنوين هو الأصل ، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو "منذر" منونا ، وتكون في موضع نصب ، والمعنى نصب ، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي : يجوز أن تكون الإضافة للماضي ، نحو ضارب زيد أمس ؛ لأنه قد فعل الإنذار ، الآية رد على من قال : أحوال الآخرة غير محسوسة ، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يعني الكفار يرون الساعة {لَمْ يَلْبَثُوا} أي في دنياهم ، {إِلَّا عَشِيَّةً} أي قدر عشية {أَوْ ضُحَاهَا} أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية ، والمراد تقليل مدة الدنيا ، كما قال تعالى : {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} . وروى الضحاك عن ابن عباس : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل : "لم يلبثوا" في قبورهم {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} ، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء : يقول القائل : وهل للعشية ضحا ؟ وإنما الضحا لصدر النهار ، ولكن أضيف الضحا إلى العشية ، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب ؛ يقولون : آتيك الغداة أوعشيتها ، وآتيك العشية أو غداتها ، فتكون العشية في معنى آخر النهار ، والغداة في معنى أول النهار ؛ قال : وأنشدني بعض بني عقيل :
نحن صبحنا عامرا في دارها ... جردا تعادي طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
أراد : عشية الهلال ، أو سرار العشية ، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|