
14-07-2025, 01:51 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,336
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الإنسان
من صــ 121 الى صــ130
الحلقة (738)
قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ؛ قال الهذلي :
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سيط به مشيج
وعن ابن عباس أيضا قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعا ؛ ذكره البزار.
وروي عن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة. وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس : خلق من ألوان ؛ خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما ؛ كما قال في سورة "المؤمنون" {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية. وقال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني : الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ؛ لأنه نعت للنطفة ؛ كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري : قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : "ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت" فقال الحبر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة "البقرة" .
قوله تعالى : {نَبْتَلِيهِ} أي نختبره. وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان : أحدهما :
نختبره بالخير والشر ؛ قال الكلبي. الثاني : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء ؛ قال الحسن. وقيل : "نبتليه" نكلفه. وفيه أيضا وجهان : أحدهما : بالعمل بعد الخلق ؛ قال مقاتل. الثاني : بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروي عن ابن عباس : "نبتليه" : نصرفه خلقا بعد خلق ؛ لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير.
قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل : {جَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى.
قوله تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال ، والخير والشر ببعث الرسل ، فآمن أو كفر ؛ كقوله تعالى : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وقال مجاهد : أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي : السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون : "إن" ها هنا تكون جزاء و "ما" زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون ؛ إذ لا تدخل "إن" للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل : أي هديناه الرشد ، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه ؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن ، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول : قد نصحت لك ، إن شئت فاقبل ، وإن شئت فاترك ؛ أي فإن شئت ، فتحذف الفاء. وكذا "إما شاكرا" والله أعلم. ويقال : هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في "الفاتحة" وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور ، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة ؛ نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر ؛ لأن شكر الله تعالى لا يؤدى ، فانتفت عنه المبالغة ، ولم تنتف عن الكفر المبالغة ، فقل شكره ، لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.
4- {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً}
قوله تعالى : {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} بين حال الفريقين ، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم ، فمن كفر فله العقاب ، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل : القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في "الحاقة" . وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر "سلاسلا" منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما "قوارير" الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما "قوارير" الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر ، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف ، ومن لم ينون أسقط منها الألف ، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة ، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف ؛ قال : رأيت في مصحف عثمان "سلاسلا" بالألف و "وقواريرا" الأول بالألف ، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج : أحدها : أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد ، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية : أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك ، وكذا قال الكسائي والفراء : هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه ؛ وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم :
كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لا عبينا
وقال لبيد :
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أجسامها
وقال لبيد أيضا :
فضلا وذو كرم يعين على الندى ... سمح كسوب رغائب غنامها
فصرف مخاريق ومغالق ورغائب ، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة : أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية ، ورؤوس الآي جاءت بالنون ، كقوله جل وعز : {مَذْكُوراً} . {سَمِيعاً بَصِيراً} فنونا الأول ليوقف بين رؤوس الآي ، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة : اتباع المصاحف ، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال : إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة ؛ فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك : قناديل ودنانير ومناديل ، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل : {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} لأن بعد الألف منه حرفين ، وكذلك قوله : {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . والذي بعد الألف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف : سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال : في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف ؛ فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف : رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا ؛ لأن من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف ؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين ؛ قال الفراء وغيره.
قوله تعالى : {وَأَغْلالاً} جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول : ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن : إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار ؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. {وَسَعِيراً} تقدم القول فيه.
5- {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} .
6- {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} .
قوله تعالى : {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} الأبرار : أهل الصدق واحدهم بر ، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل : البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد ، وقيل : هو جمع بر مثل نهر وأنهار ؛ وفي الصحاح : وجمع البر الأبرار ، وجمع البار البررة ، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه ، والأم برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا" . وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.
وفي الحديث : "الأبرار الذين لا يؤذون أحدا" . {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس : يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب : وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم :
صَبْنتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وقال الأصمعي : يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا : بمعنى كففت ؛ قاله الجوهري. {كَانَ مِزَاجُهَا} أي شوبها وخلطها ، قال حسان :
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. {كَافُوراً} قال ابن عباس : هو اسم عين ماء في الجنة ، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة : تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقال مجاهد. وقال عكرمة : مزاجها طعمها. وقيل : إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل : أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ؛ لأن الكافور لا يشرب ؛ كقوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي كنار. وقال ابن كيسان : طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال
مقاتل : ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله : {كَانَ مِزَاجُهَا} "كان" زائدة أي من كأس مزاجها كافور. {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} قال الفراء : إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة ؛ "فعينا" بدل من كافور على هذا. وقيل : بدل من كأس على الموضع. وقيل : هي حال من المضمر في "مزاجها" . وقيل : (نصب على المدح ؛ كما يذكر الرجل فتقول : العاقل اللبيب ؛ أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال : كافور وقافور. والكافور أيضا : وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى ؛ قاله الأصمعي. وأما قول الراعي :
تكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج
فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. {يَشْرَبُ بِهَا} قال الفراء : يشرب بها ويشربها سواء في المعنى ، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع ؛ وأنشد :
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
قال : ومثله فلان يتكلم بكلام حسن ، ويتكم كلاما حسنا. وقيل : المعنى يشربها والباء زائدة وقيل : الباء بدل "من" تقديره يشرب منها ؛ قاله القتبي. {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} فيقال : إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره ، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود ، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره ؛ وذلك قوله تعالى : {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى
أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [والأخرى الزنجبيل] "
والأخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [عينا فيها تسمى] {سَلْسَبِيلاً} والأخرى التسنيم "ذكره الترمذي الحكيم في" نوادر الأصول ". وقال : فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم ، والكافور للأبرار شربا لهم ؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم ، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب ، فما كان للإبرار مزاج فهو للمقربين صرف ، وما كان للإبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون ، والمقربون : هم الصديقون."
7- {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .
8- {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} .
9- {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}
قوله تعالى : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة : بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني : وفي الكلام إضمار ؛ أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة "كان" وتحذف أخرى. والنذر : حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده : النذر : هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال الكلبي : "يوفون بالنذر" أي يتممون العهود والمعنى واحد ؛ وقد قال الله تعالى :
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة.
وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله ؛ قال القشيري.
وروى أشهب عن مالك أنه قال : "يوفون بالنذر" هو نذر العتق والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبدالعزيز قال مالك. "يوفون بالنذر" قال : النذر : هو اليمين.
قوله تعالى : {وَيَخَافُونَ} أي يحذرون {يَوْماً} أي يوم القيامة. {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي عاليا داهيا فاشيا وهو في اللغة ممتدا ؛ والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال : إذا امتد ؛ قال الأعشى :
وبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صدعا على نأيها مستطيرا
ويقال : استطار الحريق : إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.
وقال حسان :
وهان على سراء بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وكان قتادة يقول : استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
وقال مقاتل : كان شره فاشيا في السموات فانشقت ، وتناثرت الكواكب ، وفزعت الملائكة ، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
قوله تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} قال ابن عباس ومجاهد : على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني : على حب الله. وقال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال : أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. {مِسْكِيناً} أي ذا مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو الطواف يسألك مالك {وَيَتِيماً} أي من يتامى المسلمين. وروى منصور عن الحسن : أن
يتيما كان يحضر طعام ابن عمر ، فدعا ذات يوم بطعامه ، وطلب اليتيم فلم يجده ، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام ، فدعا له بسويق وعسل ؛ فقال : دونك هذا ، فوالله ما غبنت ؛ قال الحسن وابن عمر : والله ما غبن.
{وَأَسِيراً} أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقال قتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء : هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة : لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم ، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.
وقال عكرمة : الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي : الأسير المرأة ، يدل عليه قوله عليه السلام : "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم" أي أسيرات. وقال أبو سعيد الخدري : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} فقال : "المسكين الفقير ، واليتيم الذي لا أب له ، والأسير المملوك والمسجون" ذكره الثعلبي. وقيل : نسخ إطعام المسكين آية الصدقات ؛ وإطعام الأسير (آية) السيف ؛ قال سعيد بن جبير. وقال غيره : بل هو ثابت الحكم ، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع ، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الإمام. الماوردي : ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل ؛ لأنه في أسر خبله وجنونه ، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام ؛ وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال : الأمير من أهل القبلة وغيرهم.
قلت : وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال ، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى ، غير أنه من صدقة التطوع ، فأما المفروضة فلا. والله أعلم.
ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في "البقرة" مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً} أي مكافأة. {وَلا شُكُوراً} أي ولا أن تثنوا علينا بذلك ؛ قال ابن عباس : كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال : أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم ؛ ليرغب في ذلك راغب. وقال سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل : إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل : نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين : أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم ؛ ذكره الماوردي. وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي : بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود ؛ فقال : "والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب" فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله ؛ وأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقالت المرأة : اطعمه واسقه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال : يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال : "ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب" فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة : أطعمه واسقه ، فأطعمه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أسير فقال : يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال : "والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب" فجاء الأنصاري فطلب ، فقالت المرأة : أطعمه واسقه. فنزلت : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ذكره الثعلبي. وقال أهل التفسير : نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة.
قلت : والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلا حسنا ؛ فهي عامة.
وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت ، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قال :
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|