عرض مشاركة واحدة
  #736  
قديم 14-07-2025, 01:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,020
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ القيامة

من صــ 101 الى صــ110
الحلقة (736)



عذره ؛ قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل : أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى : {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} وقوله : {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فالمعاذير على هذا : مأخوذ من العذر ؛ قال الشاعر :
وإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له : قد عذرتك غير معتذر ، إن المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس : {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي.
قلت : والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب ؛ ومنه قول النابغة :
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها مشارك الكند
والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقوله تعالى في المنافقين : {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} . وفي الصحيح أنه يقول : "يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ، وصليت وصمت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع" الحديث. وقد تقدم في "حم السجدة" وغيرها. والمعاذير والمعاذر : جمع معذرة ؛ ويقال : عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا ، والاسم المعذرة والعذري ؛ قال الشاعر :
إني حددت ولا عذرى لمحدود
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة ؛ قال النابغة :
ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد
وتضمنت هذه الآية خمس مسائل :
الآولى- قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى : {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه ؛ لأنها بشهادة منه عليها ؛ قال الله سبحانه وتعالى : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولا خلاف فيه ؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه ؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه ، وهي
الثانية- وقد قال سبحانه في كتابه الكريم : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ثم قال تعالى : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} وهو في الآثار كثير ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها" . فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون ، فيقول أحدهم : إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه ، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد ، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه ، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك : وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار ، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه ، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار ، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق ، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها
وينكر ذلك الورثة ، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم ، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه ، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه ، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء.
الثالثة- لا يصح الإقرار إلا من مكلف ، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه ؛ لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه ، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط ، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار : إحداهما : في ابتدائه ، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية : في انتهائه ، وذلك مثل إبهام الإقرار ، وله صور كثيرة وأمهاتها ست : الصورة الأولى : أن يقول له عندي شيء ، قال الشافعي : لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر ، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية : أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة : لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة : أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب ، (فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء) فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء ، لأن الحكم قد نفذ بإبطاله ، وقال بعض أصحاب الشافعي : يلزم الخمر والخنزير ، وهو قول باطل.
وقال أبو حنيفة : إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون ، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف ؛ فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة : إذا قال له : عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين ، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه.
الصورة الخامسة : أن يقول له : عندي مال كثير أو عظيم ؛ فقال الشافعي : يقبل في الحبة. وقال أبو حنيفة : لا يقبل إلا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة ، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة ،
لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد : إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له : ومن أين تقول ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح ؛ لأنه أخرج حنينا منها ، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين ، وقد قال الله تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} ، وقال : {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } ، وقال : {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} . الصورة السادسة : إذا قال له : عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه ، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا ؛ كقوله : مائة وخمسون درهما ؛ لأن الدرهم تفسير للخمسين ، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي : الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء.
المسألة الرابعة- قوله تعالى : {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله ؛ فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة : يقبل رجوعه بعد الإقرار. وقال به مالك في أحد قوليه ، وقال في القول الآخر : لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا.
والصحيح جواز الرجوع مطلقا ؛ لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه ، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "أبك جنون" قال : لا. قال : "أحصنت" قال : نعم. وفي حديث البخاري : "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت" . وفي النسائي وأبي داود : حتى قال له في الخامسة "أجامعتها" قال : نعم. قال : "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها" قال : نعم. قال : "كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر" . قال : نعم. ثم قال : "هل تدري ما الزنى" قال : نعم ، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال : "فما تريد مني" ؟
قال : أريد أن تطهرني. قال : فأمر به فرجم. قال الترمذي وأبو داود : فلما وجد مس الحجارة فر يشتد ، فضربه رجل بلحى جمل ، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هلا تركتموه" وقال أبو داود والنسائي : ليثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي قوله عليه السلام : "لعلك قبلت أو غمزت" إشارة إلى قول مالك : إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها.
الخامسة- وهذا في الحر المالك لأمر نفسه ، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين : إما أن يقر على بدنه ، أو على ما في يده وذمته ؛ فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن : لا يقبل ذلك منه ؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد ، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد" . المعنى : أن محل العقوبة أصل الخلقة ، وهي (الدمية) في الآدمية ، ولا حق للسيد فيها ، وإنما حقه في الوصف والتبع ، وهي المالية الطارئة عليه ؛ ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل ، حتى قال أبو حنيفة : إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا : السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق ؛ لأن مال العبد للسيد إجماعا ، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه ، لا سيما وأبو حنيفة يقول : إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك ، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم.
16-
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} .

17-
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} .

18-
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} .

19-
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .

20-
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} .

21-
{وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} .

قوله تعالى : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} في الترمذي : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه ، يريد أن يحفظه ، فأنزل الله تبارك وتعالى : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال : فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، كان يحرك شفتيه ، فقال لي ابن عباس : أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما ؛ فقال سعيد : أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما ، فحرك شفتيه ؛ فأنزل الله عز وجل : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه ؛ قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع ، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه ؛ خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وقد تقدم. وقال عامر الشعبي : إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له ، وحلاوته في لسانه ، فنهى عن ذلك حتى يجتمع ؛ لأن بعضه مرتبط ببعض ، وقيل : كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه ، فنزلت {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ونزل : {سنقرئك فلا تنسى} ونزل : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قاله ابن عباس : "وقرآنه" أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة : {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي فاتبع شرائعه وأحكامه. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام ؛ قاله قتادة. وقيل : ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما وقيل : أي إن علينا أن نبينه بلسانك. {كَلَّا} قال ابن عباس : أي إن
أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل : أي {كَلَّا} لا يصلون ولا يذكون يريد كفار مكة. {كَلَّا بَلْ} أي بل تحبون يا كفار أهل مكة {الْعَاجِلَةَ} أي الدار الدنيا والحياة فيها {وَتَذَرُونَ} أي تدعون {الْآخِرَةَ} والعمل لها. وفي بعض التفسير قال : الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون "بل تحبون" "وتذرون" بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد ؛ قال : ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء ؛ لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر ، وهو اختيار أبي حاتم ، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى : {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ} وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع ؛ لأن ذلك أبلغ في المقصود ؛ نظيره : {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} .
22-
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} .

23-
{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

24-
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} .

25-
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة ؛ يقال : نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى ؛ ومنه الحديث "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها" . "إلى ربها" إلى خالقها ومالكها "ناظرة" من النظر أي تنظر إلى ربها ؛ على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في "يونس" عند قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وكان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ؛ ثم تلا هذه الآية : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال : تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول : نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.
وقيل : إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة : تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وهذا القول ضعيف جدا ، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" . وروى جرير بن عبدالله قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا ، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" . ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه ؟ قال ابن معاذ : مخليا به يوم القيامة ؟ قال : "نعم يا أبا رزين" قال : وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : "يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر" قال ابن معاذ : ليلة البدر مخليا به. قلنا : بلى . قال : "فالله أعظم" (قال ابن معاذ قال) : "فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم" . وفي كتاب النسائي عن صهيب قال : "فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ، ولا أقر لأعينهم" وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه ، فيخرون له سجدا ، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة"
قال الثعلبي : وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه ، فتأويل مدخول ، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته ؛ كما قال تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} ، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} ، و {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى ، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الأزهري : إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذلك تقوله العرب ؛ لأنهم يقولون نظرت إليه : إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته ؛ قال :
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لما أراد الانتظار قال تنظراني ، ولم يقل تنظران إلي ؛ وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه ؛ قال :
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال
وقال آخر :
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
وقال آخر :
إني إليك لما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي إني أنظر إليك بذل ؛ لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول ؛ فأما ما استدلوا به من قوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فإنما ذلك
في الدنيا. وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي : ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، ونظره يحيط بها ؛ يدل عليه : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال القشيري أبو نصر : وقيل : "إلى" واحد الآلاء : أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل ؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء ، ثم الآلاء : نعمه الدفع ، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم ، والمنتظر للشيء متنغص العيش ، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل : أضاف النظر إلى الوجه ؛ وهو كقوله تعالى : {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين ؛ قال الله تعالى : {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا ، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه ؛ وهو كقوله تعالى : {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} ، فقيل : يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم ؟ قال : "الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم" . {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح : وبسر الفحل الناقة وابتسرها : إذا ضربها من غير ضبعة. وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح ؛ يقال : عبس وبسر. وقال السدي : {بَاسِرَةٌ} أي متغيرة والمعنى واحد. {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} أي توقن وتعلم ، والفاقرة : الداهية والأمر العظيم ؛ يقال : فقرته الفاقرة : أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة : الفاقرة الشر. السدي : الهلاك. ابن عباس وابن زيد : دخول النار. والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم ؛ قاله الأصمعي. يقال : فقرت أنف البعير : إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي ، لتذلله بذلك وتروضه ؛ ومنه قولهم : قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة :
أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره
أي كاسرة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]