عرض مشاركة واحدة
  #734  
قديم 14-07-2025, 01:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المدثر
من صــ 81 الى صــ90
الحلقة (734)


إلى الجنة ؛ يقولها مستهزئا. في رواية : أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين. وقيل : إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، ثم تخرجون من النار ؟ فنزل قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم ؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له ، فتؤمن هوادتهم ؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال : ضلالة للذين كفروا ، يريد أبا جهل وذويه. وقيل : إلا عذابا ، كما قال تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب. وفي "تسعة عشر" سبع قراءات : قراءة العامة "تسعة عشر" . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان "تسعة عشر" بإسكان العين. وعن ابن عباس "تسعة عشر" بضم الهاء. وعن أنس بن مالك "تسعة وعشر" وعنه أيضا "تسعة وعشر" . وعنه أيضا "تسعة أعشر" ذكرها المهدوي وقال : من قرأ "تسعة عشر" أسكن العين لتوالي الحركات. ومن قرأ "تسعة وعشر" جاء به على الأصل قبل التركيب ، وعطف عشرا على تسعة ، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال ، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ "تسعة عشر" فكأنه من التداخل ؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب ، فرفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء وأسكن. وأما "تسعة أعشر" : فغير معروف ، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك "تسعة وعشر" لأنها محمولة على "تسعة أعشر" والواو بدل من الهمزة ، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري : وقرئ : "تسعة أعشر" جمع عشير ، مثل يمين وأيمن.
قوله تعالى : {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم ؛ قال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبدالله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} بذلك ؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا ، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. {وَلا يَرْتَابَ} أي ولا يشك {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي أعطوا الكتاب "والمؤمنون" أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة ، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل : المعنى ؛ أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. {وَالْكَافِرُونَ} أي اليهود والنصارى {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف و "الكافرون" أي مشركو العرب. وعلى القول الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض : الشك والارتياب ؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين ، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم : "ماذا أراد الله" أي ما أراد "بهذا" العدد الذي ذكره حديثا ، أي ما هذا من الحديث. قال الليث : المثل الحديث ؛ ومنه : "مثل الجنة التي وعد المتقون" أي حديثها والخبر عنها {كَذَلِكَ} أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم {يُضِلُّ اللَّهُ} أي يخزي ويعمي {مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي} أي ويرشد {مَنْ يَشَاءُ} كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : "كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ" عن الجنة "من يشاء ويهدي" إليها "من يشاء" . {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار "إلا هو" أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين ، فأتاه جبريل فجلس عنده ، فأتى ملك فقال : إن ربك يأمرك
بكذا وكذا ، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا ، فقال : "يا جبريل أتعرفه" ؟ فقال : هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف. وقال الأوزاعي : قال موسى : "يا رب من في السماء ؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب ؟ قال : اثني عشر سبطا. قال : كم عدة كل سبط ؟ قال : عدد التراب" ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا" .
قوله تعالى : {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل : "وما هي" أي وما هذه النار التي هي سقر "إلا ذكري" أي عظة "للبشر" أي للخلق. وقيل : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قال الزجاج. وقيل : أي ما هذه العدة "إلا ذكرى للبشر" أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار ؛ فالكناية على هذا في قوله تعالى : {وَمَا هِيَ} ترجع إلى الجنود ؛ لأنه أقرب مذكور.
32-
{كَلَّا وَالْقَمَرِ} . 33- {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} .

34-
{وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} . 35- {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} .

36-
{نذيرا للبشر} . 37- {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} .

38-
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . 39- {إلا أصحاب اليمين} .

40-
{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} . 41- {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} .

42-
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} . 43- {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} .

44-
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} . 45- {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} .

46-
{ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 47- {حتى أتانا اليقين} .

48-
{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .

قوله تعالى : {كَلَّا وَالْقَمَرِ} قال الفراء : "كلا" صلة للقسم ، التقدير أي والقمر. وقيل : المعنى حقا والقمر ؛ فلا يوقف على هذين التقديرين على "كلا" وأجاز الطبري الوقف عليها ، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم ؛ أي ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك جل وعز بالقمر وبما بعده ، فقال : {وَاللَّيْلِ إِذْا أَدْبَرَ} أي ولى وكذلك "دبر" . وقرأ نافع وحمزة وحفص "إذ أدبر" الباقون "إذا" بألف و "دبر" بغير ألف وهما لغتان بمعنى ؛ يقال دبر وأدبر ، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا : أمس الدابر والمدابر ؛ قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي :
ولقد قتلناكم ثناء وموحدا ... وتركت مرة مثل أمس الدابر
ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش.
وقال بعض أهل اللغة : دبر الليل : إذا مضى ، وأدبر : أخذ في الإدبار. وقال مجاهد : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذْا أَدْبَرَ} فسكت حتى إذا دبر قال : يا مجاهد ، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع "والليل إذا أدبر" بألفين ، وكذلك في مصحف عبدالله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ "دبر" فيعني أقبل ، من قول العرب دبر فلان : إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو : وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه : الصواب : "أدبر" ، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد : "إذا أدبر" قال : لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه ؛ ألا تراه يقول : {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} ، فكيف يكون أحدهما "إذ" والآخر "إذا" وليس في القرآن قسم تعقبه "إذ" وإنما يتعقبه "إذا" . ومعنى "أسفر" : ضاء. وقراءة العامة "أسفر" بالألف. وقرأ ابن السميقع : "سفر" . وهما لغتان. يقال : سفر وجه فلان وأسفر : إذا أضاء.
وفي الحديث : "أسفروا بالفجر ، فإنه أعظم للأجر" أي صلوا صلاة الصبح مسفرين ، ويقال : طولوها إلى الإسفار ، والإسفار : الإنارة. وأسفر وجهه حسنا أي أشرق ، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون (من) سفر الظلام أي كنسه ، كما يسفر البيت ، أي يكنس ؛ ومنه السفير : لما سقط من ورق الشجر وتحات ؛ يقال : إنما سمي سفيرا لأن الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة : المكنسة.
قوله تعالى : {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} جواب القسم ؛ أي إن هذه النار "لإحدى الكبر" أي لإحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل "الكبر" : اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس "إنها" أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم "لإحدى الكبر" أي لكبيرة من الكبائر. وقيل : أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر : هي العظائم من العقوبات ؛ قال الراجز :
يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر ... داهية الدهر وصماء الغير
وواحدة (الكبر) ، كبرى مثل الصغرى والصغر ، والعظمى والعظم. وقرأ العامة (لإحدى) وهو اسم بني ابتداء للتأنيث ، وليس مبنيا على المذكر ؛ نحو عقبى وأخرى ، وألفه ألف قطع ، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير "إنها لحدى الكبر" بحذف الهمزة. "نذيرا للبشر" يريد النار ؛ أي أن هذه النار الموصوفة {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} فهو نصب على الحال من المضمر في "إنها" قال الزجاج. وذكر ؛ لأن معناه معنى العذاب ، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب ؛ كقولهم : امرأة طالق وطاهر. وقال الخليل : النذير : مصدر كالنكير ، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن : والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل : المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أي قم نذيرا للبشر ، أي مخوفا لهم "فنذيرا" حال من "قم" في أول السورة حين قال : {قُمْ فَأَنْذِرْ} قال أبو علي الفارسي وابن زيد ، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري : وقال بعض المفسرين معناه "يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر" . وهذا قبيح ؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل. هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير : حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين "نذيرا للبشر" قال : يقول الله عز وجل : أنا لكم منها نذير فاتقوها. و(نذيرا) على هذا نصب على الحال ؛ أي {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} منذرا بذلك البشر. وقيل : هو حال من "هو" في قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} . وقيل : هو في موضع المصدر ، كأنه قال : إنذار للبشر. قال الفراء : يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار ، أي أنذر إنذارا ؛ فهو كقوله تعالى : {فَكَيْفَ كَانَ نَذِيرِ} أي إنذاري ؛ فعلى هذا يكون راجعا إلى
أول السورة ؛ أي {قُمْ فَأَنْذِرْ} أي إنذارا. وقيل : هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة "نذير" بالرفع على إضمار هو. وقيل : أي إن القرآن نذير للبشر ، لما تضمنه من الوعد والوعيد.
قوله تعالى : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} اللام متعلقة "بنذيرا" ، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة ، أو يتأخر إلى الشر والمعصية ؛ نظيره : {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} أي في الخير {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} عنه. قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر ؛ كقوله تعالى : {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . وقال بعض أهل التأويل : معناه لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر ، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه ، والتقديم الإيمان ، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول : هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع.
وقال السدي : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} إلى النار المتقدم ذكرها ، {أَوْ يَتَأَخَّرَ} عنها إلى الجنة.
قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي مرتهنة بكسبها ، مأخوذة بعملها ، إما خلصها وإما أوبقها. وليست "رهينة" تأنيث رهين في قوله تعالى : {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} لتأنيث النفس ؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين ؛ لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم ؛ كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهين ؛ ومنه بيت الحماسة :
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال رهن رمس. والمعنى : كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك {إِلاَّ أَصْحَاب الْيَمِينِ} فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم ؛ فقال ابن عباس : الملائكة.
علي بن أبي طالب : أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك : الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، ونحوه عن ابن جريج ؛ قال : كل نفس بعملها محاسبة "إلا أصحاب اليمين" وهم أهل الجنة ، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا : هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين ؛ لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : هم المسلمون. وقيل : إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان. وقيل : هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم : هم الذين اختارهم الله لخدمته ، فلم يدخلوا في الرهن ، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم : كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر ، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة ، دون الكسب والخدمة ، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون ، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. {فِي جَنَّاتٍ} أي في بساتين {يَتَسَاءَلُونَ} أي يسألون {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أي المشركين {مَا سَلَكَكُمْ} أي أدخلكم {فِي سَقَرَ} كما تقول : سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي : فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه ، فيقول له : يا فلان. وفي قراءة عبدالله بن الزبير "يا فلان ما سلكك في سقر" ؟ وعنه قال : قرأ عمر بن الخطاب "يا فلان ما سلككم في سقر" وهي قراءة على التفسير ؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن ؛ قال أبو بكر بن الأنباري.
وقيل : إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم : "ما سلككم في سقر" . قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان ؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. {قَالُوا} يعني أهل النار {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي المؤمنين الذين يصلون. {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} أي لم نك نتصدق. {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد : نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن ، مجنون ، شاعر ، ساحر.
وقال السدي : أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه : وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي لم نك نصدق بيوم القيامة ، يوم الجزاء والحكم. {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أي جاءنا ونزل بنا الموت ؛ ومنه قوله تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
قوله تعالى : {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين ؛ وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم ، ثم شفع فيهم ، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة ، فأخرجوا من النار ، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم.
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة : جبريل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى أو عيسى ، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ثم الملائكة ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء ، ويبقى قوم في جهنم ، فيقال لهم : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالوا لم نك من المصلين. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} إلى قوله : {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} قال عبدالله بن مسعود : فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم ؛ وقد ذكرنا إسناده في كتاب (التذكرة) .
49-
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} .

50-
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} .

51-
{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .

52-
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} .

53-
{كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} .

قوله تعالى : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} أي فما لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل : الإعراض عن القرآن من وجهين : أحدهما الجحود والإنكار ، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و "معرضين" نصب على الحال من الهاء والميم في "لهم" وفي اللام معنى الفعل ؛ فانتصاب الحال على معنى الفعل. {كَأَنَّهُمْ} أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم {حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} قال ابن عباس : أراد الحمر الوحشية.
وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء ، أي منفرة مذعورة ؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر ، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى ؛ مثل عجبت واستعجبت ، وسخرت واستسخرت ، وأنشد الفراء :
أمسك حمارك إنه مستنفر ... في إثر أحمرة عمدن لغرب
قوله تعالى : {فَرَّتْ} أي نفرت وهربت {مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي من رماة يرمونها.
وقال بعض أهل اللغة : إن القسورة الرامي ، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان : القسورة : هم الرماة والصيادون ، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ظبيان] عن أبي موسى الأشعري. وقيل : إنه الأسد ؛ قال أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة : من العسر بمعنى القهر أي ؛ إنه يقهر السباع ، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال : ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب ، ولكنها عصب الرجال ؛ قال : فالقسورة جمع الرجال ، وأنشد :
يا بنت كوني خيرة لخيرة ... أخوالها الجن وأهل القسورة
وعنه : ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا : "فرت من قسورة" أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا : القسورة بلسان العرب : الأسد ، وبلسان الحبشة : الرماة ؛ وبلسان فارس : شير ، وبلسان النبط : أريا. وقال ابن الأعرابي : القسورة : أول الليل ؛ أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل : هو أول سواد الليل ، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم : من رجال أقوياء ، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة :
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال العائدون القساور
قوله تعالى : {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} أي يعطى كتبا مفتوحة ؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها : إني قد أرسلت إليكم محمدا ، صلى الله عليه وسلم. نظيره : {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} . وقال ابن عباس : كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته ، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد : أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل : إلى فلان بن فلان. وقيل : المعنى أن يذكر بذكر جميل ، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا. وقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك ؟ {كَلَّا} أي ليس يكون ذلك. وقيل : حقا. والأول أجود ؛ لأنه رد لقولهم. {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} أي لا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة ، اغترارا بالدنيا. وقرأ سعيد بن جبير "صحفا منشرة" بسكون الحاء والنون ، فأما تسكين الحاء فتخفيف ، وأما النون فشاذ. إنما يقال : نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت. ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها ، فإذا نشرت حييت ، فجاء على أنشر الله الميت ، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب ، فقيل فيه نشر الله الميت ، فهي لغة فيه.
54-
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} .

55-
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} .

56-
{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}

قوله تعالى : {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي حقا إن القرآن عظة. {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي اتعظ به. {وَمَا يَذْكُرُونَ} أي وما يتعظون {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة "يذكرون" بالياء واختاره أبو عبيد ؛ لقوله تعالى : "كلا بل لا يخافون الآخرة" . وقرأ نافع ويعقوب بالتاء ، واختاره أبو حاتم ، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" في الترمذي وسنن ابن ماجة عن




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.84 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]