الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب)
أم محمد الظن
س: مالذي كان يميل له الشيخ رحمه الله ومالذي تبين له؟ تبين له
كان الشيخ يميل لرأي الظاهرية تبين له لمَّا تأمَّلتُ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمسُّ القرآن إلا طاهر»، والطَّاهرُ يُطْلَق على الطَّاهر من الحدث الأصغر والأكبر لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ، ولم يكن من عادة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أن يُعَبِّرَ عن المؤمن بالطَّاهر؛ لأنَّ وَصْفَهُ بالإِيمان أَبْلَغُ، تبيَّن لي أنَّه لا يجوز أن يمسَّ القرآنَ مَنْ كان محدثاً حدثاً أصغر، أو أكبر، والذي أَرْكَنُ إِليه حديث عمرو بن حزم، والقياس الذي استُدلَّ به على رأي الجمهور فيه ضعف، ولا يقوى للاستدلال به، وإِنما العُمْدَة على حديث عمرو بن حزم.
وقد يقول قائل: إِنَّ كتابَ عمرو بن حزم كُتِبَ إلى أهل اليَمَنِ، ولم يكونوا مسلمين في ذلك الوقت، فَكَوْنُهُ لِغَيْرِ المسلمين يكون قرينة أنَّ المراد بالطَّاهر هو المؤمِن.
وجَوَابُه: أن التَّعبير الكثير مِنْ قوله صلّى الله عليه وسلّم أن يُعَلِّقَ الشَّيء بالإيمان، وما الذي يَمْنَعُهُ مِنْ أن يقول: لا يَمَسُّ القرآنَ إِلا مُؤْمِنٌ، مع أنَّ هذا واضح بَيِّن.
فالذي تَقَرَّرَ عندي أخيراً: أنَّه لا يجوز مَسُّ المصْحَفِ إِلا بِوُضُوء.هل
س: هل المحرَّمُ مَسُّ القرآنِ، أو مَسُّ المصحفِ الذي فيه القرآن؟
فيه وَجْهٌ للشَّافعية: أن المحرَّم مسُّ نَفْس الحروفِ دونَ الهوامِش[(انظر: «المجموع شرح المهذَّب» (2/67).)]، لأنَّ الهوامِش وَرَقٌ، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} [البروج] ، والظَّرف غير المظروف.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَمَسَّ القرآنَ إِلا طَاهِرٌ»[(579)].
وقال الحنابلة: يَحْرُمُ مَسُّ القرآن وما كُتِبَ فيه؛ إِلا أنَّه يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ لوحاً فيه قُرآن بِشَرْطِ ألاَّ تقع يَدُهُ على الحروف[(انظر: «الإِقناع» (1/61).)].
وهذا هو الأحوط؛ لأنه يَثْبُتُ تبعاً ما لا يَثْبُتُ استقلالاً.
س:هل يَشْمُل هذا الحُكْم مَنْ دونَ البُلُوغ؟
قال بعض العلماء: لا يَشْمُل الصِّغار لأنَّهم غير مكلَّفين[(انظر: «الإِنصاف» (2/73)، «المجموع شرح المهذب» (2/69).)]، وإِذا كانوا غير مكلَّفين فكيف نُلزمهم بشَيءٍ لا يتعلَّق به كُفْر، ولا ما دون الكُفْرِ؛ إِلا أنه مَعْصِيَة للكبير، وهؤلاء ليسوا من أهل المعاصي لِرَفْعِ القلمِ عنهم.
س: هل يلزم وَلِيُّهُ أنْ يأمره بذلك، أو لا يلزمه؟
الصَّحيح عند الشَّافعية: أنه لا يلزمه الوُضُوء، ولا يَلزم وليَّه أن يُلزِمه به[(انظر: «الإِنصاف» (2/73).)]؛ لأنه غير مكلَّف.
ولأن إِلزام وليِّه به فيه مَشَقَّة وهو غير واجب عليه، وإِذا كان فيه مشقَّة في أمر لا يجب على الصَّغير، فإِنه لا يُلزِمه به وَلِيُّه.
والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ القرآن بلا وُضُوء، على وليِّه أن يُلزِمه به كما يلزمه بالوُضُوء للصَّلاة[(انظر: «الإِنصاف» (2/73).)]، لأنه فعل تُشترط لحِلِّه الطَّهارة، فلا بُدَّ من إِلزام وليِّه به.
واستثنوا اللوح، فيجوز للصَّغير أن يَمَسَّه ما لَمْ تقع يدهُ على الحروف.وعَلَّلَ بعضُهم ذلك بالمشقَّة.
وعَلَّلَ آخرون بأنَّ هذه الكتابة ليست كالتي في المصحف ، لأن التي في المصحف تُكْتَبُ للثُّبوت والاستمرار، أمَّا هذه فلا.
س: ماحكم مس السبورةإذا كتبت فيها آية؟
ظاهِرُ كلام الفُقَهاء رحمهم الله: أنه لا يجوز مَسُّ «السُّبُّورة»[( السُّبُّورة: لوح كبير يُعلَّق أمام جمهور من الناس، يُكتب عليه ويُمحى. «المعجم العربي الأساسي» ص(604).)] الثَّابتة بلا وُضُوء إِذا كُتِبَتْ فيها آية، لكن يجوز أن تَكتبَ القرآن بلا وُضُوء ما لم تمسَّها. وقد يُقال: إِن هذا الظَّاهر غير مراد؛ لأنه يُفرَّق بين المصحف أو اللوح وبين السُّبُّورة الثَّابتة، بأنَّ المصحف أو اللوح يُنْقَل ويُحْمَل فيكون تابعاً للقرآن بِخِلاف السبّورة الثابتة.
.س: ماحكم مس كتب التفسير؟
وأمَّا كُتُب التَّفسير فيجوز مَسُّها؛ لأنها تُعْتَبر تفسيراً، والآيات التي فيها أقلُّ من التَّفسير الذي فيها.
ويُسْتَدَلُ لهذا بكتابة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الكُتُبَ للكُفَّارِ، وفيها آيات من القرآن[(587)]، فدلَّ هذا على أن الحُكْمَ للأغلب والأكثر.
أما إِذا تساوى التَّفسير والقُرآن،:فإِنَّه إِذا اجتمع مبيحٌ وحاظرٌ ولم يتميَّز أحدُهما بِرُجْحَانٍ، فإِنه يُغلَّب جانب الحظر فيُعْطى الحُكْمُ للقرآن.
وإن كان التَّفسير أكثر ولو بقليل أُعْطِيَ حُكْمَ التَّفسير.
س: ماحكم صلاة المحدث؟
تَحْرُمُ الصَّلاة على المحدِثِ، وذلك بالنَّصِّ من الكتاب والسُّنَّة والإِجماع.
أولاً: الكتاب:
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، ثم علَّلَ ذلك بأن المقصود التطهُّر لهذه الصَّلاة.
وعلى هذا فالطَّهارة شَرْطٌ لِصحَّةِ الصَّلاة وجَوازِها، فلا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يُصَلِّيَ وهو مُحْدِثٌ، سواء كان حَدثاً أصغر أو أكبر.
س: مالحكم لو صلي وهو محدث؟
فإِنْ كان هذا استهزاء منه؛ فهو كافر لاستهزائه.
وإِنْ كان متهاوناً فقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في تكفيره.
فمذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه يَكْفُر[(انظر: «حاشية ابن عابدين» (1/81)) لأن من صلَّى وهو مُحْدِثٌ مع عِلْمِهِ بإِيجاب الله الوُضُوء فهذا كالمستهزئ، والاستهزاء كُفْرٌ كما قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65، 66] .
ومَذْهَبُ الأئمة الثَّلاثة: أنَّه لا يَكْفُر[(انظر: «الفروع» (1/188)، «المجموع شرح المهذب» (2/67).)]، لأنَّ هذه معصيةَ، ولا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ أنْ يكونَ مُسْتَهزئاً.
ولهذا قلنا: إِنْ صَلَّى بلا وُضُوء استهزاء فإِنَّه كافر، وإلا فلا، وهذا أقرب، لأنَّ الأَصْلَ بقاءُ الإِسلام، ولا يمكن أنْ نُخرِجه منه إلا بدليل.
ثانياً: السُّنَّة:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَقْبَلُ الله صلاةً بغير طُهُور»[( رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (224).)]،.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بغير طُهُور»[( رواه أحمد (2/57) من حديث ابن عمر، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب فرض الوضوء، رقم (59) من حديث أبي المليح عن أبيه.
قال الحافظ ابن حجر: «إِسناده صحيح». انظر: «الفتح» شرح حديث رقم (1410).)]،
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة أَحَدِكُمْ إِذا أَحْدَثَ حتى يتوضَّأ»[( رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب لا تقبل صلاة بغير طهور، رقم (135)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (225).)].
ثالثاً: الإجماع:
فقد أجمع المسلمون أنه يَحْرُمُ على المحْدِثِ أن يُصَلِّيَ بلا طَهَارة.
س: مالمراد بالصلاة التي يحرم علي المحدث فعلها؟
والصَّلاة هي التي بَيَّنَهَا الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم تحريمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم، سواء كانت ذاتَ رُكوع وسُجود أم لا.
فالفرائض الخَمسُ صلاة، والجمعة، والعيدان، والاستسقاء، والكسوف، والجنازة صلاة، لأن الجنازة مُفتتحة بالتكبير، مُختتمة بالتَّسليم، فينطبق عليها التَّعريف الشَّرعي، فتكون داخلة في مُسَمَّى الصَّلاة.
وقال بعض العلماء: إِنَّ الصَّلاةَ هي التي فيها رُكُوع وسجود[(رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب لا تقبل صلاة بغير طهور، رقم (135)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (225).].
وقال آخرون: إِن الصَّلاة هي التي تكون رَكْعَتَيْن فأكثر، إِلا الوِتْر فهو صلاة، ولو رَكْعَة (نظر: «مجموع الفتاوى» (21/277، 289)، «تهذيب السُّنن» (1/52)..
والأوَّل هو الأصحُّ. وهو مااختاره الشيخ رحمه الله في المراد بالصلاة التي يحرم علي المحدث فعلها.