عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 13-07-2025, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ نوح
من صــ 293الى صــ304
الحلقة (724)






وقال عنترة :
وقرن قد تركت لذي ولي ... عليه الطير كالعصب العزين
وواحد عزين عزة ، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها. وأصلها عزهة ، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة. وقيل : أصلها عزوة ، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره. فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى ، والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح : "والعزة الفرقة من الناس ، والهاء عوض من الياء ، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم ، ولم يقولوا عزات كما قالوا ثبات" . قال الأصمعي : يقال في الدار عزون ، أي أصناف من الناس. و {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} متعلق بـ { مُهْطِعِينَ} ويجوز أن يتعلق بـ {عِزِينَ} على حد قولك : أخذته عن زيد. {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه ، ويستهزئون بأصحابه ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم ، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه ؛ فنزلت : { أَيَطْمَعُ } الآية. وقيل : كان المستهزئون خمسة أرهط. وقرأ الحسن طلحة بن مصرف والأعرج {أَنْ يُدْخَلَ} بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل. ورواه المفضل عن عاصم. الباقون {أَنْ يُدْخَلَ} على الفعل المجهول. { كَلاَّ } لا يدخلونها. {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} ثم ابتدأ فقال : {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ؛ كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم. فقال : {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} من القذر ، فلا يليق بهم هذا التكبر. وقال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له : يا عبدالله ، ما هذه المشية التي يبغضها
الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال نعم ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. نظم الكلام محمود الوراق فقال :
عجبت من معجب بصورته ... وكان في الأصل نطفة مذره
وهو غدا بعد حسن صورته ... يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته ... ما بين ثوبيه يحمل العذره
وقال آخر :
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة ... وهو بخمس من الأوساخ مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سَهِك ... والعين مُرْمَصة والثغر ملهوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا ... قصر فإنك مأكول ومشروب
وقيل : معناه من أجل ما يعلمون ؛ وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. كقول الشاعر وهو الأعشى :
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن تزارا
أي من أجل ليلى.
الآية : [40] {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}
الآية : [41] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}
قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} أي أقسم. و "لا" صلة. {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد مضى الكلام فيها. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد "برب المشرق والمغرب" على التوحيد. {إِنَّا لَقَادِرُونَ. عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} يقول : نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده.
الآية : [42] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}
أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم ؛ على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم ؛ فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
الآية : [43] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}
{ يَوْمَ} بدل من {يَوْمَهم } الذي قبله ، وقراءة العامة {يَخْرُجُونَ} بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل. وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم {يَخْرُجُونَ} بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. والأجداث : القبور ؛ وأحدها جدث. وقد مضى في سورة "يس" . { سِرَاعاً} حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي ؛ وهو نصب على الحال {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف ، والضعف. الجوهري : والنصب ما نصب فعبد من دون الله ، وكذلك النصب بالضم ؛ وقد يحرك. قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعافية والله ربك فاعبدا
أراد "فَاعْبُدَنْ" فوقف بالألف ؛ كما تقول : رأيت زيدا. والجمع الأنصاب. وقوله : "وذا النصب" بمعنى إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء ؛ ومنه قوله تعالى : {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} . وقال الأخفش والفراء : النصب جمع النصب مثل رهن ورهن ، والأنصاب جمع نصب ؛ فهو جمع الجمع. وقيل :
النصب والأنصاب واحد. وقيل : النصب جمع نصاب ، هو حجر أو صنم يذبح عليه ؛ ومنه قوله تعالى : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . وقد قيل : نصب ونصب ونصب معنى واحد ؛ كما قيل عمر وعمر وعمر. ذكره النحاس. قال ابن عباس : "إِلَى نُصُبٍ" إلى غاية ، وهي التي تنصب إليها بصرك. وقال الكلبي : إلى شيء منصوب ؛ علم أو راية. وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم. {يُوفِضُونَ} يسرعون والإيفاض الإسراع. قال الشاعر :
فوارس ذبيان تحت الحديـ ... ـد كالجن يوفضن من عبقر
عبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد :
كهول وشبان كجنة عبقر
وقال الليث : وفضت الإبل تفض وفضا ؛ وأوفضها صاحبها. فالإيفاض متعد ، والذي في الآية لازم. يقال : وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع.
الآية : [44] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
قوله تعالى : {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة خاضعة ، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يغشاهم الهوان. قال قتادة : هو سواد الوجوه. والرهق : الغشيان ؛ ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه "بالكسر" يرهقه رهقا أي غشيه ؛ ومنه قوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون ولا محالة.
سورة نوح
مكية ، وهي ثمان وعشرون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قد مضى القول في "الأعراف" أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض" . فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب : كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس : ابن أربعين سنة. وقال عبدالله بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة "العنكبوت" القول فيه. والحمد لله. {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} أي بأن أنذر قومك ؛ فموضع "أن" نصب بإسقاط الخافض. وقيل : موضعها جر لقوة خدمتها مع "أن" . ويجوز "أن" بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب ؛ لأن في الإرسال معنى الأمر ، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبدالله {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} بغير "أن" بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول "البقرة" . {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النار في الآخرة. وقال الكلبي : هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل : أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى
منهم مجيبا ؛ وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول "رَبِّ اغْفِرْ لقومي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ" . وقد مضى هذا مستوفى في سورة "العنكبوت" والحمد لله.
الآية : [2] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
الآية : [3] {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [4] {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} أي مخوف. {مُبِينٌ} أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} و "أن" المفسرة على ما تقدم في {أَنْ أَنْذِرْ} "اعْبُدُوا" أي وحدوا. واتقوا : خافوا. {وَأَطِيعُونِ} أي فيما آمركم به ، فإني رسول الله إليكم. {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} جزم { يَغْفِرْ } بجواب الأمر. و "من" صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم ، قاله السدي. وقيل : لا يصح كونها زائدة ؛ لأن "مِنْ" لا تزاد في الواجب ، وإنما هي هنا للتبعيض ، وهو بعض الذنوب ، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل : هي لبيان الجنس. وفيه بعد ، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد بن أسلم : المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة : المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال ابن عباس : أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم ، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية ؛ فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات "الشدائد إلى آجالكم. وقال : الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل : {أَجَلٍ مُسَمّىً } عندكم تعرفونه ، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا ؛ ذكره الفراء. وعلى القول الأول {أَجَلٍ مُسَمّىً } عند الله. {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل"
إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم ، كقوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} لأنه مضروب لهم. "لو" بمعنى "إن" أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن : معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.
الآية : [5] {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً}
الآية : [6] {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً}
قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} أي سرا وجهرا. وقيل : أي واصلت الدعاء. {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً} أي تباعدا من الإيمان. وقراءة العامة بفتح الياء من "دعائي" وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.
الآية : [7] { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}
قوله تعالى : {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} أي إلى سبب المغفرة ، وهي الإيمان بك والطاعة لك. {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لئلا يسمعوا دعائي {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس : جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا ، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل : هو كناية عن العداوة. يقال : لبس لي فلان ثياب العداوة. {وَأَصَرُّوا} أي على الكفر فلم يتوبوا. {وَاسْتَكْبَرُوا} عن قبول الحق ؛ لأنهم قالوا : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} {اسْتِكْبَاراً} تفخيم.
الآية : [8] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً}
الآية : [9] {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}
قوله تعالى : {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب بـ "ـدعوتهم" نصب المصدر ؛ لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار ، فنصب به نصب القرفصاء بقعد ؛ لكونها أحد أنواع القعود ، أو لأنه أراد بـ {دَعَوْتُهُمْ } جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا ؛ أي دعاء جهارا ؛ أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال ؛ أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد : معنى أعلنت : صحت ، { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل : { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ} أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم ، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من {إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.
الآية : [10] { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}
الآية : [11] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}
الآية : [12] {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الإيمان. {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الاستغفار ممحاة للذنوب" . وقال الفضيل : يقول العبد أستغفر الله ؛ وتفسيرها أقلني.
الثانية- {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} أي يرسل ماء السماء ؛ ففيه إضمار. وقيل : السماء المطر ؛ أي يرسل المطر. قال الشاعر :
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
و {مِدْرَاراً } ذا غيث كثير. وجزم "يُرْسِلِ" جوابا للأمر. وقال مقاتل : لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ؛ فهلكت مواشيهم وزروعهم ، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الإيمان : {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} . قال قتادة : علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال : "هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة" .
الثالثة- في هذه الآية والتي في "هود" دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي : خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فأمطروا فقالوا : ما رأيناك استسقيت ؟ فقال : لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ؛ ثم قرأ : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} . وقال الأوزاعي : خرج الناس يستسقون ، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : اللهم إنا سمعناك تقول : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وقد أقررنا بالإساءة ، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ؟ ! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح : شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له : استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له : استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا ؛ فقال له : استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه ؛ فقال له : استغفر الله. فقلنا له في ذلك ؟ فقال : ما قلت من عندي شيئا ؛ إن الله تعالى يقول في سورة "نوح" : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً.
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً. وقد مضى في سورة "آل عمران" كيفية الاستغفار ، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.
الآية : [13] {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}
الآية : [14] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}
قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ؛ أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا. وقال الوالبي والعوفي عنه : مالكم لا تعلمون لله عظمة. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد : مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك : مالكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب : هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال. والوقار : العظمة. والتوقير : التعظيم. وقال قتادة : مالكم لا ترجون لله عاقبة ؛ كأن المعنى مالكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان. وقال ابن كيسان : مالكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد : مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن : مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. وقيل : مالكم لا توحدون الله ؛ لأن من عظمه فقد وحده. وقيل : إن الوقار الثبات لله عز وجل ؛ ومنه قوله تعالى : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي اثبتن. ومعناه مالكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه ؛ قال ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال : {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس : {أَطْوَاراً} يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة ؛ أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق ، كما ذكر في سورة "المؤمنون" . والطور في اللغة : المرة ؛ أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل : "أطوارا" صبيانا ، ثم شبابا ، ثم شيوخا وضعفاء ، ثم أقوياء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.85 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]