عرض مشاركة واحدة
  #719  
قديم 13-07-2025, 06:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,020
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ القلم
من صــ 241الى صــ250
الحلقة (719)






{أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} عازمين علي الصرم والجداد قال قتادة : حاصدين زرعكم. وقال الكلبي : ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل وقال مجاهد : كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله. وقال أبو صالح : كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا. وقيل : معنى {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي لا يستثنون حق المساكين ؛ قاله عكرمة. فجاؤوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل : الطائف جبريل عليه السلام ؛ على ما تقدم ذكره. وقال ابن عباس : أمر من ربك. وقال قتادة : عذاب من ربك. ابن جريج : عتق من نار خرج من وادي جهنم. والطائف لا يكون إلا بالليل ؛ قاله الفراء.
الثالثة- قلت : في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان ؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : "إنه كان حريصا على قتل صاحبه" . وقد مضى مبينا في سورة "آل عمران" عند قوله تعالى : {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} .
الآية : [20] {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}
الآية : [21] {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ}
الآية : [22] {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ}
قوله تعالى : {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي كالليل المظلم ؛ عن ابن عباس والفراء وغيرهما. قال الشاعر :
تطاول ليلك الجون البهيم ... فما ينجاب عن صبح بهيم
أي احترقت فصارت كالليل الأسود. وعن ابن عباس أيضا : كالرماد الأسود. قال : الصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. الثوري : كالزرع المحصود. فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه. وقال الحسن : صرم عنها الخير أي قطع ؛ فالصريم مفعول أيضا. وقال المؤرج : أي كالرملة أنصرمت من معظم الرمل. يقال : صريمة وصرائم ؛ فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به. وقال الأخفش : أي كالصبح أنصرم من الليل. وقال المبرد : أي كالنهار ؛ فلا شيء فيها. قال شمر : الصريم الليل والصريم النهار ؛ أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل : سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ؛ ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل. قال القشيري : وفي هذا نظر ؛ لأن النهار يسمى صريما ولا يقطع عن تصرف.
الآية : [23] {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}
الآية : [24] {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}
الآية : [25] {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}
قوله تعالى : {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أي يتسارون ؛ أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد ؛ قاله عطاء وقتادة. وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. كما قال دريد بن الصمة :
وإني لم أهلك سلالا ولم أمت ... خفاتا وكلا ظنه بي عودي
وقيل : يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام. {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرَد يحرِد "بالكسر" حردا قصد. تقول : حردْتُ حردَك ؛ أي قصدت قصدك. ومنه قول الراجز :
أقبل سيل جاء من عند الله ... يحرد حرد الجنة المُغِلَّة
أنشده النحاس :
قد جاء سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
قال المبرد : المغلة ذات الغلة. وقال غيره : المِغلة التي يجري الماء في غللها أي في أصولها. ومنه تغللت بالغالية. ومنه تغليت ، أبدل من اللام ياء. ومن قال تغلفت فمعناه عنده جعلتها غلافا. وقال قتادة ومجاهد : "عَلَى حَرْدٍ" أي على جد. الحسن : على حاجة وفاقة. وقال أبو عبيدة والقتيبي : على حرد على منع ؛ من قولهم حاردت الإبل حرادا أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر. وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال السدي وسفيان : "على حرد" على غضب. والحرد الغضب. قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي : وهو مخفف ؛ وأنشد شعراً :
إذا جياد الخيل جاءت تردي ... مملوءة من غضب وحرد
وقال ابن السكيت : وقد يحرك ؛ تقول منه : حرد "بالكسر" حردا ، فهو حارد وحردان. ومنه قيل : أسد حارد ، وليوث حوارد. وقيل : {على حرد} على انفراد. يقال : حرد يحرد حرودا ؛ أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم. وقال أبو زيد : رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا ؛ إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد ؛ أي معتزل عن الكواكب. قال الأصمعي : رجل حريد ؛ أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل. وأنشد لأبي ذؤيب :
كأنه كوكب في الجو منحرد
ورواه أبو عمرو بالجيم ، وفسره : منفرد. قال : وهو سهيل. وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم. السدي : اسم جنتهم ؛ وفيه لغتان : حرد وحرد. وقرأ العامة بالإسكان. وقرأ أبو العالية وابن السميقع بالفتح ؛ وهما لغتان. ومعنى "قادرين" قد قدروا أموهم وبنوا عليه ؛ قاله الفراء. وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم. وقال الشعبي : { قَادِرِينَ} يعني على المساكين. وقيل : معناه من الوجود ؛ أي منعوا وهم واجدون.
الآية : [26] {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ}
الآية : [27] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أي لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد ، أنكروها وشكوا فيها. وقال بعضهم لبعض : "إنا لضالون" أي ضللنا الطريق إلى جنتنا ؛ قاله قتادة. وقيل : أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين ؛ فلذلك عوقبنا. {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. روى أسباط عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيء له - ثم تلا - {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} الآيتين."
الآية : [18] {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}
الآية : [29] {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}
الآية : [30] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ}
الآية : [31] {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}
الآية : [32] {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا ؛ قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله. فقال لهم : هلا تسبحون الله ؛ أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل ؛ فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله ؛ لأن المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقيل : هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم ؛ فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقامه من المجرمين {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} اعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل. قال ابن عباس في قولهم : {سُبْحَانَ رَبِّنَا} أي نستغفر الله من ذنبنا. {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} لأنفسنا
في منعنا المساكين. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين ، ويقول : بل أنت أشرت علينا بهذا. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان : طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا} تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا ؛ فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها ، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام ، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقال ابن مسعود : إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان ، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا. وقال اليماني أبو خالد : دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وقال الحسن : قول أهل الجنة {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} لا أدري إيمانا كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة ؛ فيوقف في كونهم مؤمنين. وسئل قتادة عن أصحاب الجنة : أهم من أهل الجنة أم من أهل النار ؟ فقال : لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا ؛ حكاه القشيري. وقراءة العامة { يُبْدِلَنَا} بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد ، وهما لغتان. وقيل : التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم. والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه. وقد مضى في سورة "النساء" القول في هذا.
الآية : [33] {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال ؛ عن ابن زيد. وقيل : إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا و وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وقال ابن عباس : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه ، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر ، وتضرب القينات على رؤوسهم ؛ فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. ثم قيل : إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم ، ويحتمل أنه كان تطوعا ؛ والأول أظهر ، والله أعلم. وقيل : السورة مكية ؛ فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط ، وعلى قتال بدر.
الآية : [34] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}
الآية : [35] {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}
الآية : [36] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
الآية : [37] {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}
الآية : [38] {إن لكم فيه لما تخيرون}
الآية : [39] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} تقدم القول فيه ؛ أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص ، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها ؛ فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا ، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا ، وأقصى أمرهم أن يساوونا. فقال : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} أي كالكفار. وقال ابن عباس وغيره : قالت كفار مكة : إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون ؛ فنزلت {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} ثم وبخهم فقال : {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج ؛ كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين. {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي. {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} تختارون وتشتهون. والمعنى : أن لكم "بالفتح" ولكنه كسر لدخول اللام ؛ تقول علمت
أنك عاقل "بالفتح" ، وعلمت إنك لعاقل "بالكسر" . فالعامل في {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} "تَدْرُسُونَ" في المعنى. ومنعت اللام من فتح "إن" . وقيل : تم الكلام عند قوله : "تَدْرُسُونَ" ثم ابتدأ فقال : {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون ؛ أي ليس لكم ذلك. والكناية في "فيه" الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.ثم زاد في التوبيخ فقال : {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} أي عهود ومواثيق. {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مؤكدة. والبالغة المؤكدة بالله تعالى. أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} كسرت "إن" لدخول اللام في الخبر. وهي من صلة "أيمان" ، والموضع النصب ولكن كسرت لأجل اللام ؛ تقول : حلفت إن لك لكذا. وقيل : تم الكلام عند قوله : {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ثم قال : {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } إذا ؛ أي ليس الأمر كذلك. وقرأ ابن هرمز "أين لكم فيه لما تخيرون" "أين لكم لما تحكمون" ؛ بالاستفهام فيهما جميعا. وقرأ الحسن البصري { بَالِغَةٌ } بالنصب على الحال ؛ إما من الضمير في "لكم" لأنه خبر عن "أيمان" ففيه ضمير منه. وإما من الضمير في "علينا" إن قدرت "علينا" وصفا للإيمان لا متعلقا بنفس الإيمان ؛ لأن فيه ضميرا منه ، كما يكون إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من "إيمان" وإن كانت نكرة ، كما أجازوا نصب "حقا" على الحال من "متاع" في قوله تعالى : {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} . وقرأ العامة "بالغة" بالرفع نعت لـ "أيمان" .
الآية : [40] {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ}
الآية : [41] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
قوله تعالى : {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي سل يا محمد هؤلاء المتقولين علي : أيهم كفيل بما تقدم ذكره. وهو أن لهم من الخير ما للمسلمين. والزعيم : الكفيل والضمين ؛ قال ابن عباس وقتادة. وقال ابن كيسان : الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن :
الزعيم الرسول. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أي ألهمزه والميم صلة. {شُرَكَاءُ} أي شهداء. {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} يشهدون على ما زعموا. {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في دعواهم. وقيل : أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم ؛ فهو أمر معناه التعجيز.
الآية : [42] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}
الآية : [43] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}
قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} يجوز أن يكون العامل في {يَوْمَ} { فَلْيَأْتُوا} أي فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل ، أي اذكر يوم يكشف عن ساق ؛ فيوقف على {صَادِقِينَ} ولا يوقف عليه على التقدير الأول. وقرئ "يوم نكشف" بالنون. "وقرأ" ابن عباس "يوم تكشف عن ساق" بتاء مسمى الفاعل ؛ أي تكشف الشدة أو القيامة. عن ساقها ؛ كقولهم : شمرت الحرب عن ساقها. قال الشاعر :
فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال الراجز :
قد كشفت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
وقال آخر :
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طراد الطير عن أرزاقها
في سَنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها
وقال آخر :
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
وعن ابن عباس أيضا والحسن وأبي العالية "تُكْشَفُ" بتاء غير مسمى الفاعل. وهذه القراءة راجعة إلى معنى "يكشف" وكأنه قال : يوم تكشف القيامة عن شدة. وقرئ "يَوْمَ تُكْشَفُ" بالتاء المضمومة وكسر الشين ؛ من أكشف إذا دخل في الكشف. ومنه : أكشف الرجل فهو مكشف ؛ إذا انقلبت شفته العليا. وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال : عن كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال : شدة الأمر وجده. وقال مجاهد : قال ابن عباس هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال أبو عبيدة : إذا اشتد الحرب والأمر قيل : كشف الأمر عن ساقه. والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه ؛ فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل : ساق الشيء أصله الذي به قوامه ؛ كساق الشجرة وساق الإنسان. أي يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصلها. وقيل : يكشف عن ساق جهنم. وقيل : عن ساق العرش. وقيل : يريد وقت أقتراب الأجل وضعف البدن ؛ أي يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه ، ويدعوه المؤذن إلى الصلاة فلا يمكنه أن يقوم ويخرج. فأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه فإنه عز وجل يتعالى عن الأعضاء والتبعيض وأن يكشف ويتغطى. ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل : يكشف عن نوره عز وجل.وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {عن ساق} قال : "يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا" . وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره : حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد ابن سلمة عن عدي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحد فيقال لهم ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره - قال - وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقال فكيف تعرفونه ولم تروه قالوا إنه لا شبيه له"
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} فيقول الله تعالى عبادي أرفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار ". قال أبو بردة : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبدالعزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث ؟ فحلف له ثلاثة أيمان ؛ فقال عمر : ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا. وقال قيس بن السكن : حدث عبدالله بن مسعود عند عمر بن الخطاب فقال : إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء ، حفاة عراة يلجمهم العرق ، فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاما ، ثم ينادي مناد : أيها الناس ، أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا ؟ قالوا : نعم. قال : فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار ، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال لهم : ألا تذهبون قد ذهب الناس ؟ فيقولون حتى يأتينا ربنا ؛ فيقال لهم : أو تعرفونه ؟ فيقولون : إن اعترف لنا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخر من كان يعبده مخلصا ساجدا ، ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد ، فيذهب بهم إلى النار ، ويدخل هؤلاء الجنة ؛ فذلك قوله تعالى : {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} ."
قوله تعالى : {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة متواضعة ؛ ونصبها على الحال. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج. وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار.
قلت : معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]