عرض مشاركة واحدة
  #718  
قديم 13-07-2025, 06:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,828
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ القلم
من صــ 231الى صــ240
الحلقة (718)






قلت : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ؛ فإن الادهان : اللين والمصانعة. وقيل : مجاملة العدو ممايلته. وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول. قال الشاعر :
لبعض الغشم أحزم في أمور ... تنوبك من مداهنة العدو
وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة. فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة ، وكل شيء منها لم يكن. قال المبرد : يقال أدهن في دينه وداهن في أمره ؛ أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت ؛ قال الجوهري. وقال : {فيدهنون} فساقه على العطف ، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا. وإنما أراد : إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك ؛ عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة ، وإنما هو تمثيل وتنظير.
الآية : [10] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ}
الآية : [11] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}
الآية : [12] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}
الآية : [13] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}
يعني الأخنس بن شريق ؛ في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق. وقيل : الأسود بن عبد يغوث ، أو عبدالرحمن بن الأسود ؛ قاله مجاهد. وقيل : الوليد بن المغيرة ، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه ؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام. والحلاف : الكثير الحلف. والمهين : الضعيف القلب ؛ عن مجاهد. ابن عباس : الكذاب. والكذاب مهين. وقيل : المكثار في الشر ؛ قاله الحسن وقتادة. وقال الكلبي : المهين الفاجر العاجز. وقيل : معناه الحقير عند الله. وقال ابن شجرة : إنه الذليل. الرماني : المهين الوضيع لإكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فعيل بمعنى مفعل ؛ والمعنى مهان. {هَمَّازٍ} قال ابن زيد : الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. واللماز باللسان.
وقال الحسن : هو الذي يهمز ناحية في المجلس ؛ كقوله تعالى : {هُمَزَةٍ} وقيل : الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم. واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم ؛ قاله أبو العالية وعطاء بن أبي رباح والحسن أيضا. وقال مقاتل ضد هذا الكلام : إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. واللمزة الذي يغتاب في الوجه. وقال مرة : هما سواء. وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. ونحوه عن ابن عباس وقتادة. قال الشاعر :
تدلي بود إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغب فأنت الهامز اللمزة
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. يقال : نم ينم نما ونميما ونميمة ؛ أي يمشي ويسعى بالفساد. وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث ، فقال حذيفة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يدخل الجنة نمام" . وقال الشاعر :
ومولى كبيت النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعيه بنميم
قال الفراء : هما لغتان. وقيل : النميم جمع نميمة. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي للمال أن ينفق في وجوهه. وقال ابن عباس : يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته. وقال الحسن : يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. {مُعْتَدٍ} أي على الناس في الظلم متجاوز للحد ، صاحب باطل. {أَثِيمٍ} أي ذي إثم ، ومعناه أثوم ، فهو فعيل بمعنى فعول. {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} العتل الجافي الشديد في كفره. وقال الكلبي والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل : إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب. مأخوذ من العتل وهو الجر ؛ ومنه قوله تعالى : {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} وفي الصحاح : وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل "بالكسر" . وقال يصف فرسا :
نفرعه فرعا ولسنا نعتله
قال ابن السكيت : عتله وعتنه ، باللام والنون جميعا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا :
الرمح الغليظ. ورجل عتل "بالكسر" بين العتل ؛ أي سريع إلى الشر. ويقال : لا أنعتل معك ؛ أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير : العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ؛ يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا. وقال علي بن أبي طالب والحسن : العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر : هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر :
بعُتُلّ من الرجال زنيم ... غير ذي نجدة وغير كريم
وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أخبركم بأهل الجنة - قالوا بلى قال - كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار" - قالوا بلى قال - "كل عتل جواظ مستكبر" . وفي رواية عنه "كل جواظ زنيم متكبر" . الجواظ : قيل هو الجموع المنوع. وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته. وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم ، ورواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم" . فقال رجل : ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الجواظ الذي جمع ومنع. والجعظري الغليظ. والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس" . وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس : "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم" سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم قلت : وما الجواظ ؟ قال : الجماع المناع. قلت : وما الجعظري ؟ قال : الفظ الغليظ. قلت : وما العتل الزنيم ؟ قال : الرحيب الجوف الوثير الخلق الأكول الشروب الغشوم الظلوم.
قلت : فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم في العتل قد أربى على أقوال المفسرين. ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ. ذكره من حديث حارثة بن وهب
الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري" قال : والجواظ الفظ الغليظ. ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا. وقد قيل : إنه الجافي القلب. وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك العتل الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقله" . والزنيم الملصق بالقوم الدعي ؛ عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر :
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وعن ابن عباس أيضا : أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة. وروى عنه ابن جبير. أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة : هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل : إنه الذي يعرف بالأبنة. وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وعنه أنه الظلوم. فهذه ستة أقوال. وقال مجاهد : زنيم كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام له إصبع زائدة. وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة : هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم ؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده. قال الشاعر :
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الأم ذو حسب لئيم
وقال حسان :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
قلت : وهذا هو القول الأول بعينه. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له ؛ والمعنى واحد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده" . وقال عبدالله بن عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير" . وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول : "لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أوشك أن يعمهم الله بعقاب" . وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنى قحط المطر.
قلت : أما الحديث الأول والثاني فما أظن لهما سندا يصح ، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول : "لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت فقلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "نعم إذا كثر الخبث" خرجه البخاري. وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى ؛ كذا فسره العلماء. وقول عكرمة "قحط المطر" تبيين لما يكون به الهلاك. وهذا يحتاج إلى توقيف ، وهو أعلم من أين قاله. ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة ، وكان يطعم أهل منى حيسا ثلاثة أيام ، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة ، ألا لا يدخنن أحد بكراع ، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر. ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل : {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} . وفيه نزل : {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق ، لأنه حليف ملحق في بني زهرة ، فلذلك سمي زنيما. وقال ابن عباس : في هذه الآية نعت ، فلم يعرف حتى قتل فعرف ، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مُرَّة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.
الآية : [14] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}
الآية : [15] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
قوله تعالى : {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيوة والمغيرة والأعرج {أَنْ كَانَ} بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ المفضل وأبو بكر وحمزة "أأَنْ كَانَ" بهمزتين محققتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر ؛ فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو استفهام والمراد به التوبيخ ، ويحسن له أن يقف على "زَنِيمٍ" ، ويبتدئ "أَنْ كَانَ" على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه. ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا : أساطير الأولين ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ودل عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام. ومن قرأ "أَنْ كَانَ" بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر ، والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين. ودل على هذا الفعل : {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ولا يعمل في "أن" : "تتلى" ولا "قَالَ" لأن ما بعد "إِذَا" لا يعمل فيما قبلها ؛ لأن "إِذَا" تضاف إلى الجمل التي بعدها ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. و "قَالَ" جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء ؛ إذا حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال. ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على "زَنِيمٍ" لأن المعنى لأن كان وبأن كان ، "فأن" متعلقة بما قبلها. قال غيره : يجوز أن يتعلق بقوله : "مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ" والتقدير يمشي بنميم لأن كان ذا مال وبنين. وأجاز أبو علي أن يتعلق "بـ" ـعُتُلَّ ". وأساطير الأولين : أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم. وقد تقدم."
الآية : [16] {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {سَنَسِمُهُ} قال ابن عباس : معنى "سَنَسِمُهُ" سنخطمه بالسيف. قال : وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف ؛ فلم يزل مخطوما إلى أن مات.
وقال قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها ؛ يقال : وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى : {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار ؛ وهذا كقوله تعالى : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد : {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي على أنفه ، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم : الأنف من الإنسان. ومن السباع : موضع الشفة. وخراطيم القوم : ساداتهم. قال الفراء : وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه ؛ لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال الطبري : نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل : المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي : تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية : قد وسم ميسم سوء ؛ أي الصق به عار لا يفارقه ؛ كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير :
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أراد به الهجاء. قال : وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه ؛ فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة ؛ كالوسم على الخرطوم. وقيل : هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار ؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقول الأعشى :
فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها ... بشعرك وأعلب أنف من أنت واسم
وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شرب الخمر ، والخرطوم : الخمر ، وجمعه خراطيم ، قال الشاعر :
تظل يومك في لهو وفي طرب ... وأنت بالليل شرَّاب الخراطيم
قال الراجز :
صهباء خرطوما عقارا قرقفا
وقال آخر :
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
قال ابن العربي : "كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس ، حتى أنه روي - كما تقدم - أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم الوجه ؛ وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه : ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور ، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته ؛ فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار ؛ فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود ؛ حسب ما ثبت في الصحيح."
الآية : [17] {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}
الآية : [18] {وَلا يَسْتَثْنُونَ}
الآية : [19] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا ؛ فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين - وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها ؛ فلما مات صارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها ؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي : كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم. وقيل : هي جنة بضوران ، وضوران على فرسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير - وكانوا بخلاء - فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين ، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا : لا يدخلها اليوم عليكم مسكين ، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم ؛ أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلا سواد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتلعها. فيقال : إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ؛ ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها. وقال البكري في المعجم : سميت الطائف لأن رجلا من الصدف يقال له الدمون ، بنى حائطا وقال : قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم ؛ فسميت الطائف. والله أعلم.
الثانية- قال بعض العلماء : على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسي منها من حضره ؛ وذلك معنى قوله : {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وأنه غير الزكاة على ما تقدم في "الأنعام" بيانه. وقال بعضهم : وعليه ترك ما أخطأه الحاصدون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم
من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل : إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. وتأول من قال هذا الآية التي في سورة {نْ وَالْقَلَمِ} . قيل : إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهوام الأرض.
قلت : الأول أصح ؛ والثاني حسن. وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب ، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. روى أسباط عن السدي قال : كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا ، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فما يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا ؛ فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض : علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصر منها قبل أن يعلم المساكين ؛ ولم يستثنوا ؛ فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا : لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ؛ فذلك قوله تعالى : {إِذْ أَقْسَمُوا} يعني حلفوا فيما بينهم {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين ؛ ولا يستثنون ؛ يعني لم يقولوا إن شاء الله. وقال ابن عباس : كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين ، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين ، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم ، فإذا طرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين ، فإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين ، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر ؛ فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين ، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين ، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. فقالوا : قل المال وكثر العيال ؛ فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصر منها ولا تعرف المساكين. وهو قوله : { إِذْ أَقْسَمُوا} أي حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا } ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم. والصرم القطع. يقال : صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامه. مثل أركب المهر وأحصد الزرع ، أي حان ركوبه وحصاده. {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا إن شاء الله . {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} ينادي بعضهم بعضا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]