
13-07-2025, 05:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,001
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ التحريم
من صــ 181الى صــ190
الحلقة (713)
الكفارة. وقال زفر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى : {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} ، وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته : أنت علي حرام ؛ ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
الرابعة- واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته : "أنت علي حرام" على ثمانية عشر قولا :
أحدها : لا شيء عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام ؛ قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} والزوجة من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله : "والله لا أقربها بعد اليوم" فقيل له : لم تحرم ما أحل الله لك ؛ أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
وثانيها : أنها يمين يكفرها ؛ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي ؛ وهو مقتضى الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ؛ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى : {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ - إلى قوله تعالى - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدارقطني.
ثالثها : أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين ؛ قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه ، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي.
ورابعها : هي ظهار ؛ ففيها كفارة الظهار ، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وخامسها : أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي.
وسادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك.
وثامنها : أنها ثلات تطليقات ، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة.
وتاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في غير المدخول بها ، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك.
وعاشرها : هي ثلاث ؛ ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل ؛ قاله عبدالملك في المبسوط ، وبه قال ابن أبي ليلى.
وحادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ؛ قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم.
وثاني عشرها : أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته ؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر ؛ إلا أنه قال : إذا نوى اثنتين ألزمناه.
وثالث عشرها : أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا ؛ قاله ابن القاسم.
ورابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ؛ فإن أرتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار.
وخامس عشرها : إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وسادس عشرها : إن نوى ثلاثا فثلاثا ، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور ؛ إلا أنهما قالا : إن لم ينو شيئا فهي واحدة.
وسابع عشرها : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ؛ قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء ؛ قال ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو :
والثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد في المقالات عندي.
قلت : قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال : حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال : حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال : كذبت! ليست عليك بحرام ؛ ثم تلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} عليك أغلظ الكفارات : عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم ؛ قاله زيد بن أسلم وغيره.
الخامسة- قال علماؤنا : سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة ، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء. وأما من قال إنها يمين ؛ فقال : سماها الله يمينا. وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين ؛ فبناه على أحد أمرين : أحدهما : أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن لم تكن يمينا. والثاني : أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال : إنها طلقة رجعية ؛ فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرمة الوطء كذلك ؛ فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا ، لقوله : إن الرجعية محرمة الوطء. وكذلك وجه من قال : إنها ثلاث ، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال : إنه ظهار ، فلأنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال : إنه طلقة بائنة ، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا ، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي : "وهذا لا يصح ، لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال : إنه ينوى في التي لم يدخل بها ، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه. وأما من قال : إنه ثلاث فيهما ، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم ، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها"
نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم ". والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك ، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة ، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد."
قلت : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته ؛ ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال : لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين ، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال : لم يحرم عليك ما حرمته ، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف ، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل : أكلت مغافير ؟ إني لأجد منك ريح مغافير! قال : "لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا" . يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله : "ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله :" حلفت "أي بالله ، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك ، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} يعني العسل المحرم بقوله :" لن أعود له ". {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفور لما أوجب المعاتبة ، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل : إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة."
الآية : [2] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه ، وهو قوله تعالى في سورة "المائدة" : {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ويتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا ، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه ، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا. وإن قال : نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال : كل حلال عليه حرام ؛ فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده ، على ما تقدم بيانه. فإن حلف إلا يأكله حنث ويبر بالكفارة.
الثانية- فإن حرم أمته أو زوجته فكفارة يمين ، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال : إذا حرم الرجل عليه امرأته ، فهي يمين يكفرها. وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
الثالثة- قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه. وعن الحسن : لم يكفر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. والأول أصح ، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك. وقد قدمنا عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كفر بعتق رقبة. وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. والله أعلم. وقيل : أي قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين ، فبين في قوله تعالى : {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي فيما شرعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الأيمان ، فلم تحرم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك. وقيل : تحلة اليمين الاستثناء ، أي فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين. ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء وإن تحلل مدة. وعند المعظم لا يجوز إلا متصلا ، فكأنه قال : استثن بعد هذا فيما تحلف عليه. وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة ، والأصل تحللة ، فأدغمت. وتفعلة من مصادر فعل ؛ كالتسمية والتوصية. فالتحلة تحليل اليمين. فكأن اليمين عقد والكفارة حل. وقيل : التحلة الكفارة ؛ أي إنها تحل للجالف ما حرم على نفسه ؛ أي إذا كفر صار كمن لم يحلف. {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} وليكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم ، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة ، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة.
الآية : [3] {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}
قوله تعالى : {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} أي واذكر إذ أسر النبي إلى حفصة حديثا "يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك. وقال الكلبي : أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي ؛ وقال ابن عباس. قال : أسر أمر الخلافة بعده إلى حفصة فذكرته حفصة. روي الدارقطني في سننه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ"
أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً قال : اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم فقال : "لا تخبري عائشة" وقال لها "إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري عائشة" قال : فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه ، فعرف بعضه وأعرض عن بعض. قال أعرض عن قوله : "إن أباك وأباها يكونان بعدي" . كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك في الناس. {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما ، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم. {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به. وقرأ طلحة بن مصرف "فلما أنبأت" وهما لغتان : أنبأ ونبأ. {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ } عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها ، وأعرض عن بعض تكرما ؛ قاله السدي. وقال الحسن : ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} . وقال مقاتل : يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة ، وهو حديث أم ولده ولم يخبرها ببعض وهو قول حفصة لعائشة : إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده. وقراءة العامة "عرف" مشددا ، ومعناه ما ذكرناه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، يدل عليه قوله تعالى : { وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي لم يعرفها إياه. ولو كانت مخففة لقال في ضده وأنكر بعضا. وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة والكلبي والكسائي والأعمش عن أبي بكر "عرف" مخففة. قال عطاء : كان أبو عبدالرحمن السلمي إذا قرأ عليه الرجل "عرف" مشددة حصبه بالحجارة. قال الفراء : وتأويل قوله عز وجل : "عرف بعضه" بالتخفيف ، أي غضب فيه وجازى عليه ؛ وهو كقولك لمن أساء إليك : لأعرفن لك ما فعلت ، أي لأجازينك عليه. وجازاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلقها طلقة واحدة. فقال عمر : لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك. فأمره جبريل بمراجعتها وشفع فيها. واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا ، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم. وقيل : هم بطلاقها حتى قال له جبريل : "لا تطلقها فإنها صوامة"
قوامة وإنها من نسائك في الجنة "فلم يطلقها. {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} يا رسول الله عني. فظنت أن عائشة أخبرته ، فقال عليه السلام : {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي الذي لا يخفى عليه شيء. و" هذا "سد مسد مفعولي" أنبأ ". و" نبأ "الأول تعدى إلى مفعول ، و" نبأ "الثاني تعدى إلى مفعول واحد ، لأن نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين ، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث ، لأن الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل فلا يقتصر دونه ، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر."
الآية : [4] {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
قوله تعالى : {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} يعني حفصة وعائشة ، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل ، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده ، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : فقد مالت قلوبكما إلى التوابة. وقال : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ولم يقل : فقد صغى قلباكما ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين ، من اثنين جمعوهما ، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في "المائدة" في قوله تعالى : {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقيل : كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به ، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله : فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا جزاء للشرط ، لأن هذا الصغو كان سابقا ، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما ، إذ قد صغت قلوبكما.
قوله تعالى : {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له ، حتى خرج حاجا فخرجت معه ، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له ، فوقفت حتى فرع ، ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين ، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال : فلا تفعل ، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه ، فإن كنت أعلمه أخبرتك. وذكر الحديث. {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} أي وليه وناصره ، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قال عكرمة وسعيد بن جبير : أبو بكر وعمر ، لأنهما أبوا عائشة وحفصة ، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل : صالح المؤمنين علي رضي الله عنه. وقيل : خيار المؤمنين. وصالح : اسم جنس كقوله تعالى : {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ، قاله الطبري. وقيل : {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} هم الأنبياء ، قال العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد : هم الملائكة. السدي : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين : فأضاف الصالحين إلى المؤمنين ، وكتب بغير واو على اللفظ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر :
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|