عرض مشاركة واحدة
  #680  
قديم 12-07-2025, 09:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,737
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الرحمن
من صــ 161 الى صــ 170
الحلقة (680)






لازِبٍ. وقال : {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} وذلك متفق المعنى ، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا ، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} قال الحسن : الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل : الجان واحد الجن ، والمارج الهب ، عن ابن عباس ، وقال : خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث : المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر ، ونحوه عن مجاهد ، وكله متقارب المعنى. وقيل : المارج كل أمر مرسل غير ممنوع ، ونحوه قول المبرد ، قال المبرد : المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن : المارج خلط النار ، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط ، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى ، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول ، كقوله : {مَاءٍ دَافِقٍ} و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} والمعنى ذو مرج ، قال الجوهري في الصحاح : و {مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} نار لا دخان لها خلق منها الجان. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي هو رب المشرقين. وفي الصافات {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} وقد مضى الكلام في ذلك هنالك.
الآية : [19] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}
الآية : [20] {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}
الآية : [21] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [22 ] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}
الآية : [23] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} {مَرَجَ} أي خلى وأرسل وأهمل ، يقال : مرج السلطان الناس إذا أهملهم. وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. ويقال : مرج خلط. وقال الأخفش : ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج ، فعل وأفعل بمعنى. {الْبَحْرَيْنِ} قال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير. {يَلْتَقِيَانِ} في كل عام. وقيل : يلتقي طرفاهما. وقال الحسن ، وقتادة : بحر فارس والروم. وقال ابن جريج : إنه البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل : بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهما. وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجز فعلى القول الأول ما بين السماء والأرض ، قاله الضحاك. وعلى القول الثاني الأرض التي بينهما وهي الحجاز ، قاله الحسن وقتادة. وعلى غيرهما من الأقوال القدرة الإلهية على ما تقدم في {الفرقان} . وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله تعالى كلم الناحية الغربية فقال : إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ فقالت : أغرقهم يا رب. قال : إني أحملهم على يدي ، وأجعل بأسك في نواحيك. ثم كلم الناحية الشرقية فقال : إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ قالت : أسبحك معهم إذا سبحوك ، وأكبرك معهم إذا كبروك ، وأهللك معهم إذا هللوك ، وأمجدك معهم إذا مجدوك ، فأثابها الله الحلية وجعل بينهما برزخا ، وتحول أحدهما ملحا أجاجا ، وبقي الآخر على حالته عذبا فراتا" ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم أبو عبدالله قال : حدثنا صالح بن محمد ، حدثنا القاسم العمري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة : {لا يَبْغِيَانِ} قال قتادة : لا يبغيان على الناس فيغرقانهم ، جعل بينهما وبين الناس يبسأ. وعنه أيضا ومجاهد : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. ابن زيد : المعنى {لا يَبْغِيَانِ} أن يلتقيا ، وتقدير الكلام : مرج البحرين يلتقيان ، لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا. وقيل : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، أي بينهما مدة قدرها الله وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان ، فإذا أذن الله في أنقضاء الدنيا صار البحران
شيا واحدا ، وهو كقوله وتعالى : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} . وقال سهل بن عبدالله : البحران طريق الخير والشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.
قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان ، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان. وقرأ نافع وأبو عمر {يَخْرُجُ} بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. الباقون {يَخْرُجُ} بفتح الياء وضم الراء على أن اللؤلؤ هو الفاعل. وقال : {مِنْهُمَا} وإنما يخرج من الملح لا العذب لأن العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما ، كقوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وإنما الرسل من الإنس دون الجن ، قال الكلبي وغيره. قال الزجاج : قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما ، وهو كقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} والقمر في سماء الدنيا ولكن أجمل ذكر السبع فكأن ما في إحداهن فيهن. وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، أي من أحداهما ، كقوله : {رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي من إحدى القريتين. وقال الأخفش سعيد : زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب. وقيل : هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان. ابن عباس : هما بحرا السماء والأرض. فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما ، وقاله الطبري. قال الثعلبي : ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدفة ، فأصابت القطرة بعض النواة ولم تصب البعض ، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وقيل : إن العذب والملح قد يلتقيان ، فيكون العذب كاللقاح للملح ، فنسب إليهما كما ينسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى ، لذلك قيل : إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من وضع يلتقي فيه العذب والملح. وقيل : المرجان عظام اللؤلؤ وكباره ، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللؤلؤ صغاره. وعنهما أيضا بالعكس : إن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره ، وقاله الضحاك وقتادة. وقال ابن مسعود وابو مالك : المرجان الخرز الأحمر.
الآية : [24] {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ}
الآية : [25] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن. {الْمُنْشَآتُ} قراءة العامة {الْمُنْشَآتُ} بفتح الشين ، قال قتادة : أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء. وقال مجاهد : هي السفن التي رفع قلعها ، قال : وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت. وقال الأخفش : إنها المجريات. وفي الحديث : أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة ، فقال : ورب هذه الجواري المنشآت ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه {الْمُنْشَآتُ} بكسر الشين أي المنشئات السير ، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع. وقيل : الرافعات الشرع أي القلع. ومن فتح الشين قال : المرفوعات الشرع. {كَالأَعْلامِ} أي كالجبال ، والعلم الجبل الطويل ، قال :
إذا قطن علما بدا علم
فالسفن في البحر كالجبال في البر ، وقد مضى في {الشورى} بيانه. وقرأ يعقوب {الْجَوَاريِ} بياء في الوقف ، وحذف الباقون.
الآية : [26] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
الآية : [27] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}
الآية : [28] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الضمير في {عَلَيْهَا} للأرض ، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى : {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ} وقد يقال : هو أكرم من عليها
يعنون الأرض وإن لم يجر لها ذكر. وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فنزلت : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فأيقنت الملائكة بالهلاك ، وقاله مقاتل. ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام. وقيل : وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ويبقى الله ، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه ، قال الشاعر :
قضى على خلقه المنايا ... فكل شيء سواه فاني
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا : ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم. وقال ابن عباس : الوجه عبارة عنه كما قال : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} وقال أبو المعالي : وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى ، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} والموصوف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى. وقد مضى في {البقرة} القول في هذا عند قوله تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى مستوفى. قال القشيري : قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تكيف ، يحصل بها الإقبال على من أراد الرب تخصيصه بالإكرام. والصحيح أن يقال : وجهه وجوده وذاته ، يقال : هذا وجه الأم ووجه الصواب وعين الصواب. وقيل : أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه. وقيل : وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله. {ذُو الْجَلالِ} الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح ، يقال : جل الشيء أي عظم وأجللته أي عظمته ، والجلال اسم من جل. {وَالْأِكْرَامِ} أي هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك ، كما تقول : أنا أكرمك عن هذا ، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء. وقد أتينا على هذين الاسمين لغة ومعنى في الكتاب الأسنى مستوفى. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ألظوا بـ" يا ذا الجلال والإكرام ". وروي أنه من قول ابن مسعود ، ومعناه : الزموا ذلك في الدعاء. قال أبو عبيد :"
الإلظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه. ويقال : الإلظاظ الإلحاح. وعن سعيد المقبري. أن رجلا ألح فجعل يقول : اللهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي : إني قد سمعت فما حاجتك ؟
الآية : [29] {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
الآية : [30] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قيل : المعنى يسأله من في السماوات الرحمة ، ومن في الأرض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح : أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج : وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض ، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وفي الحديث : "إن الملائكة ملكا له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير" . وقال ابن عطاء : إنهم سألوه القوة على العبادة. {كل يوم هو في شأن} هذا {كل يوم هو في شأن} كلام مبتدأ. وأنتصب {يَوْمٍ هُوَ} ظرفا ، لقوله : {فِي شَأْنٍ} أو ظرفا للسؤال ، ثم يبتدئ {هُوَ فِي شَأْنٍ} . وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عل النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال : من شأنه أن يغفر ذنبا ومفرج كربا ويرفع قوما ويضع أخرين ". وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال :" يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا ". وقيل : من شأنه أن يحي ويميت ، ويعز ويزل ، ويرزق ويمنع. وقيل : أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر : الدهر كله يومان ، أحدهما مدة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة ، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب ،"
والثواب والعقاب. وقيل : المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشؤون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى : {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} وقال الكلبي : شانه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من شأنه أن يميت حيا ، ويقر في الأرحام ما شاء ، ومعز ذليلا ، ويذل عزيزا. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فلم يعرف معناها ، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزل فقال له غلام له أسود : ما شأنك ؟ فأخبره. فقال له : عد إلى الأمير فإني أفسرها له ، فدعاه فقال : أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، وحافي مبتلى ، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ، ويفقر غنيا ويغني فقيرا ، فقال له : فرجة - عني فرج الله عنك ، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام ، فقال : يا مولاي! هذا من شأن الله تعالى. وعن عبدالله بن طاهر : أنه دعا الحسين بن الفضل وقل له : أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى : {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} وقد صح أن الندم توبة. وقول : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقول : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، ويكون توبة في هذه الأمة ، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وأما قوله : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فمعناه : ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبدا. وقبل رأسه وسوغ خراجه.
الآية : [31] {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}
الآية : [32] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [33] {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}
الآية : [34] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
الآية : [35] {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ}
الآية : [36] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} يقال : فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه ، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يربد تهديده : إذا أتفرغ لك أي أقصدك. وفرغ بمعنى قصد ، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير :
ألان وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذابا
يريد وقد قصدت. وقال أيضا وأنشده النحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة ، صاح الشيطان : يا أهل الجباجب! هذا مذم يبايع بني قيلة على حربكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذا إزب العقبة أما والله يا عدو لأتفرغن لك" أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما. وقيل : إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ، ثم قال : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه ، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قال الحسن ومقاتل وابن زيد. وقرأ عبدالله وأبي {سَنَفْرُغُ إلَيْكُمْ} وقرأ الأعمش وإبراهيم
{سَيُفْرَغُ لَكُمْ} بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله. وقرأ ابن شهاب والأعرج {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} بفتح النون والراء ، قال الكسائي : هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم. وروى الجعفي عن أبي عمرو {سَيُفْرَغُ} بفتح الياء والراء ، ورويت عن ابن هرمز. وروي عن عيسى الثقفي {سَنِفْرَغُ لَكُمْ} بكسر النون وفتح الراء ، وقرأ حمزة والكسائي {سَيُفْرَغُ لَكُمْ} بالياء. الباقون بالنون وهي لغة تهامة. والثقلان الجن والإنس ، سميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف - وقيل : سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا ، قال الله تعالى : {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ومنه قولهم : أعطه ثقله أي وزنه. وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل. ومنه قيل لبيض النعام ثقل ، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به. وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين ، لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} فجمع ، ثم قال : {أَيُّه الثَّقَلانِ} لأنهما فريقان وكل فريق جمع ، وكذا قوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل إن استطعتما ، لأنهما فريقان في حال الجمع ، كقوله تعالى : {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} و {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ولو قال : سنفرغ لكما ، وقال : إن استطعتما لجاز. وقرأ أهل الشام {أَيُّهُ الثَّقَلانِ} بضم الهاء. الباقون بفتحها وقد تقدم.
مسألة : هذه السورة و {الأحقاف} و {قل أوحي} دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.
قوله تعالى : {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} ذكر ابن المبارك : وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها ، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب ، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها ، ثم يأمر الله السماء التي تليها
كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف ذلك الصف ، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة ، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم ، فيسمعون زفيرها وشهيقها ، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة ، فذلك قوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} والسلطان العذر. وقال الضحاك أيضا : بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ، ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة ، فذلك قوله تعالى : {لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} ذكره النحاس. قلت. فعلى هذا يكون في الدنيا ، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة. وعن الضحاك أيضا : إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقال ابن عباس : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فأعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى. وعنه أيضا أن معنى : {لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل : لا تنفذون إلا إلى سلطان ، الباء بمعنى إلى ، كقوله تعالى : {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} أي إلى. قال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله : {فَانْفُذُوا} أمر تعجيز.
قوله تعالى : {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار ، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ. وقيل : ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابا بالنار. وقيل : أي بآلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب. وقيل : يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} ، فتلك النار قوله : {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ}




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]