
12-07-2025, 09:31 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,685
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ القمر
من صــ 131 الى صــ 140
الحلقة (677)
الآية : 9 - 17 {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له . {قَبْلَهُمْ} أي قبل قومك . {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} يعني نوحا. الزمخشري : فإن قلت ما معنى قوله : {فَكَذَّبُوا} بعد قوله : {كَذَّبَتْ} ؟ قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا ؛ أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ؛ أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. {وَقَالُوا مَجْنُونٌ} أي هو مجنون {وَازْدُجِرَ} أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال : {وَازْدُجِرَ} بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية . {فَدَعَا رَبَّهُ} أي دعا عليهم حينئذ نوح فقال رب {أَنِّي مَغْلُوبٌ} أي غلبوني بتمردهم {فَانْتَصِرْ} أي فانتصر لي. وقيل : إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِر} أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء {بِمَاءٍ مُنْهَمِر} أي كثير. ؛ قاله السدي. قال الشاعر :
أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر
وقيل : إنه المنصب المتدفق ؛ ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا :
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
الهمر الصب ؛ وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر. الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرأ ابن عامر ويعقوب : {فَفَتَّحْنَا} مشددة على التكثير. الباقون {فَفَتَحْنَا} مخففا. ثم قيل ، : إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل : إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر ؛ قاله علي رضي الله عنه. {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون ، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. {فَالْتَقَى الْمَاءُ} أي ماء السماء وماء الأرض {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ؛ حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل : {قُدِرَ} بمعنى قضي عليهم. قال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب : كانت الأقوات قبل الأجساد ، وكان القدر قبل البلاء ؛ وتلا هذه الآية. وقال : {التقى الماء} والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا ؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل : لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرأ الجحدري : {فَالْتَقَى الْمَاءَانِ} وقرأ الحسن : {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهما خلاف المرسوم. القشيري : وفي بعض المصاحف {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهي لغة طيء. وقيل : كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} أي على سفينة ذات ألواح. {وَدُسُرٍ} قال قتادة : يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت ؛ وقال القرظي وابن زيد وابن جبير ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه ، والدسر الدفع والمخر ؛ ورواه العوفي عن ابن عباس قال : الدسر كلكل السفينة.
وقال الليث : الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح : الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ، ويقال : هي المسامير ، وقال تعالى : {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} . ودسر أيضا مثل عسر وعسر. والدسر الدفع ؛ قال ابن عباس في العنبر : إنما هو شيء يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر.
قوله تعالى : {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا. وقيل : بأمرنا. وقيل : بحفظ منا وكلاءة : وقد مضى في "هود" . ومنه قول الناس للمودع : عين الله عليك ؛ أي حفظه وكلاءته. وقيل : بوحينا. وقيل : أي بالأعين النابعة من الأرض. وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها ، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل : أي تجري بأوليائنا ، كما في الخبر : مرض عين من عيوننا فلم تعده. {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به ؛ فاللام في {لِمَنْ} لام المفعول له ؛ وقيل : {كُفِرَ} أي جحد ؛ ف {مَنْ} كناية عن نوح. وقيل : كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب ؛ أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} بفتح الكاف والفاء بمعنى : كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله ، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق ؛ كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها ، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك ، ونجاه من الغرق.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل : أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ خائف ، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر ، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي إنذاري ؛
قال الفراء : إنذاري ؛ قال مصدران. وقيل : {نُذُرِ} جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار . {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر مأخوذ من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ؛ قال :
وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران ؛ وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل ، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرا ، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم ، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت ؛ على ما تقدم بيانه في سورة "التوبة" فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه ؛ أي يفتعلوا الذكر ، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب : فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه ، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. وقيل : إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين ، وما عاملتهم به الأمم ، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين ؛ فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر ، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله : {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} لأن {هَلْ} كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم ؛ فاللام من {هَلْ} للاستعراض والهاء للاستخراج.
الآية : 18 - 22 { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إنا إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ عَادٌ} هم قوم هود . { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} وقعت {وَنُذُرِ} في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف ، وقرأها يعقوب مثبته في الحالين ، وورش في الوصل لا غير ، وحذف الباقون. ولا خلاف في حذف الياء من قوله : {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر : 5] والواو من قوله : {يَدْعُ} فأما الياء من {الدَّاعِ} الأول فأثبتها في الحالين ابن محيصن ويعقوب وحميد والبزي ، وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل ، وحذف الباقون. وأما {الدَّاعِ} الثانية فأثبتها يعقوب وابن محيصن وابن كثير في الحالين ، وأثبتها أبو عمرو ونافع في الوصل ، وحذفها الباقون {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي شديدة البرد ؛ قاله قتادة والضحاك. وقيل : شديدة الصوت. وقد مضى في "حم السجدة" . {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي في يوم كان مشؤوما عليهم. وقال ابن عباس : أي في يوم كانوا يتشاءمون به. الزجاج : قيل في يوم أربعاء. ابن عباس : كان آخر أربعاء في الشهر أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرأ هارون الأعور {نَحْسٍ} بكسر الحاء وقد مضى القول فيه في فصلت {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت : 16] . و {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه ، واستمر عليهم فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل : استمر بهم إلى نار جهنم. وقال الضحاك : كان مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة ؛ يقال : مر الشيء وأمر أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس. وقد قال : {فَذُوقُوا} والذي يذاق قد يكون مرا. وقد قيل : هو من المرة بمعنى القوة. أي في يوم نحس مستمر مستحكم الشؤم كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. فإن قيل : فإذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر. وقد مضى في "البقرة" حديث جابر بذلك. فالجواب - والله أعلم - ما جاء في خبر يرويه مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أتاني جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقضي باليمين مع الشاهد وقال يوم الأربعاء يوم نحس مستمر"
ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين ، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين ؛ كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القران ؛ نحسات على الكفار من قوم عاد لا على نبيهم والمؤمنين به منهم ، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يمهل الظالم من أول يوم الأربعاء إلى أن تزول الشمس ، فإذا أدبر النهار ولم يحدث رجعة استجيب دعاء المظلوم عليه ، فكان اليوم نحسا على الظالم ؛ ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار ، وقول جابر في حديثه "لم ينزل بي أمر غليظ" إشارة إلى هذا. والله أعلم.
قوله تعالى : {تَنْزِعُ النَّاسَ} في موضع الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قيل : قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل : تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : "انتزعت الريح الناس من قبورهم" . وقيل : حفروا حفرا ودخلوها فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم ، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل قد هلك ما كان فيها فتبقى مواضعها منقعرة. يروى أن سبعة منهم حفروا حفرا وقاموا فيها ليردوا الريح. قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد سمي لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم عمرو بن الحلى والحرث بن شداد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال ، فجعلت الريح تجعفهم رجلا رجلا ، فقالت امرأة من عاد :
ذهب الدهر بعمرو بـ ... ـن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهلـ ... ـقام طلاع الثنيات
والذي سد مهب الر ... يح أيام البليات
الطبري : في الكلام حذف ، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر ؛ فالكاف في موضع نصب بالمحذوف. الزجاج : الكاف في موضع نصب على الحال ، والمعنى تنزع الناس والمعنى تنزع الناس مشبهين بأعجاز نخل. والتشبيه قيل إنه للحفر التي كانوا فيها. والأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء ، وكانت عاد موصوفين بطول القامة ، فشبهوا بالنخل انكبت لوجوهها. وقال : {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث. والمنقعر : المنقلع من أصله ؛ قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت. الكسائي : قعرت البئر أي نزلت حتى أنتهيت إلى قعرها ، وكذلك الإناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا. وقال أبو بكر بن الأنباري : سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها ، فقيل له : ما الفرق بين قوله تعالى : {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء : 81] و {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس : 22] ، وقوله : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة : 7] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ؟ فقال : كلما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا ، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل : إن النخل والنخيل بمعنى يذكر ويؤنث ، كما ذكرنا. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} تقدم.
الآية : 23 {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم ، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} وندع جماعة. وقرأ أبو الأشهب وابن السميقع وأبو السمال العدوي "أبشر" بالرفع {وَاحِدٌ} كذلك رفع بالابتداء والخبر {نَتَّبِعُهُ} الباقون بالنصب على معنى أنتبع بشرا منا واحدا نتبعه. وقرأ أبو السمال :
{أَبَشَرٌ} بالرفع {مِنَّا وَاحِداً} بالنصب ، رفع {أَبَشَرٌ} بإضمار فعل يدل عليه {أَأُلْقِيَ} كأنه قال : أينبأ بشر منا ، وقوله : {وَاحِداً} يجوز أن يكون حالا من المضمر في {مِنَّا} والناصب له الظرف ، والتقدير أينبأ بشر كائن منا منفردا ؛ ويجوز أن يكون حالا من الضمير في {نَتَّبِعُهُ} منفردا لا ناصر له. {إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ} أي ذهاب عن الصواب {وَسُعُرٍ} أي جنون ، من قولهم : ناقة مسعورة ، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة ، ذكره ابن عباس. قال الشاعر يصف ناقته :
تخال بها سعرا إذا السفر هزها ... ذميل وإيقاع من السير متعب
الذميل ضرب من سير الإبل. قال أبو عبيد : إذا ارتفع السير عن العنق قليلا فهو التزيد ، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل ، ثم الرسيم ؛ يقال : ذمل ويذمل ويذمل ذميلا. قال الأصمعي : ولا يذمل بعير يوما وليلة إلا مهري قاله ج. وقال ابن عباس أيضا : السعر العذاب ، وقاله الفراء. مجاهد : بعد الحق. السدي : في احتراق. قال :
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر
أي متقد ومحترق. أبو عبيدة : هو جمع سعير وهو لهيب النار. والبعير المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة. ومعنى الآية : إنا إذا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا.
قوله تعالى : {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} أي خصص بالرسالة من بين ال ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا ؟ ! وهو استفهام معناه الإنكار. {بََلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليس كما يدعيه وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. والأشر المرح والتجبر والنشاط. يقال : فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا قال امرؤ القيس يصف كلبا :
فيدركنا فغم داجن ... سميع بصير طلوب نكر
ألص الضروس حني الضلوع ... تبوع أريب نشيط أشر
وقيل : {أَشِرٌ} بطر. والأشر البطر ؛ قال الشاعر :
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل ما تدرون من فتح القرى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران ، وقوم أشارى مثل سكران وسكارى ؛ قال الشاعر :
وخلت وعولا أشارى بها ... وقد أزهف الطعن أبطالها
وقيل : إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها ؛ والمعنى واحد. وقال ابن زيد وعبدالرحمن بن حماد : الأشر الذي لا يبالي ما قال. وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة {أَشَرٌّ} بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا. {سَيَعْلَمُونَ غَداً} أي سيرون العذاب يوم القيامة ، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب. الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم. وقوله : {غَداً} على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب : إن مع اليوم غدا ؛ قال :
للموت فيها سهام غير مخطئة ... من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
وقال الطرماح :
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
وإنما أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. {مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} وقرأ أبو قلابة {الأَشَرُّ} بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الأصل. قال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأشر والأخير إلا في ضرورة الشعر ؛ كقول رؤية :
بلال خير الناس وابن الأخير
وإنما يقولون هو خير قومه ، وهو شر الناس ؛ قال الله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ آل عمران : 110] وقال : {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً} [مريم : 75] . وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء. وعن مجاهد وسعيد بن جبير ضم الشين والراء والتخفيف ، قال النحاس : وهو معنى {الأَشِرُ} ومثله رجل حذر وحذر.
الآية : 27 - 32 {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قوله تعالى : {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها ، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها ، فخرجت ناقة عشراء وبراء. {فِتْنَةً لَهُمْ} أي اختبارا وهو مفعول له. {فَارْتَقِبْهُمْ} أي انتظر ما يصنعون. {وَاصْطَبِرْ} أي اصبر على أذاهم ، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق. {وَنَبِّئْهُمْ} أي أخبرهم {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي بين ال ثمود وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، كما قال تعالى : {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الشعراء : 155] . قال ابن عباس : كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم ، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال : {بَيْنَهُمْ} لأن العرب إذا أخبروا عن بني ادم مع البهائم غلبوا بني ادم. وروى أبو الزبير عن جابر قال : لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك ، قال : "أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل"
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|