عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-07-2025, 09:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,685
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الطور
من صــ 71 الى صــ 80
الحلقة (671)






الآية : 29 - 34 {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
قوله تعالى : {فَذَكِّرْ} أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن . {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} يعني برسالة ربك {بِكَاهِنٍ} تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي . {وَلا مَجْنُونٍ} وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فعقبة بن أبي معيط قال : إنه مجنون ، وشيبة بن ربيعة قال : إنه ساحر ، وغيرهما قال : كاهن ؛ فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل : إن معنى {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} القسم ؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل : ليس قسما ، وإنما هو كما تقول : ما أنت بحمد الله بجاهل ؛ أي برأك الله من ذلك.
قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه : خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس : وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح ؛ يريد سيبويه أن {أَمْ} في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث ؛ كما قال :
أتهجر غانية أم تلم
فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال :
أم الحبل واه بها منجذم
فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث ، والنحويون يمثلونها ببل . {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} قال قتادة : قال قوم من الكفار تربصوا
بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر ؛ أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء ، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش : نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر ، كما تقول : قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون : الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي :
هم منعوا حمى الوقبي بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون
أي المنايا ؛ يقول : إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة ، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : {رَيْبَ} في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور {رَيْبَ الْمَنُونِ} يعني حوادث الأمور ؛ وقال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال مجاهد : {رَيْبَ الْمَنُونِ} حوادث الدهر ، والمنون هو الدهر ؛ قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الأعشى :
أأن رأت رجلا أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر متبل خبل
قال الأصمعي : المنون والليل والنهار ؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه : أنه قيل للدهر منون ، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة : قيل للدهر منون ؛ لأنه مضعف ، من قولهم حبل منين أي ضعيف ، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء : والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي : المنون واحد لا جماعة له.
الأخفش : هو جماعة لا واحد له ، والمنون يذكر ويؤنث ؛ فمن ذكره جعله الدهر أو الموت ، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية.
قوله تعالى : {قُلْ تَرَبَّصُوا} أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي من المنتظرين بكم العذاب ؛ فعذبوا يوم بدر بالسيف.
قوله تعالى : {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ} أي عقولهم {بِهَذَا} أي بالكذب عليك . {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي أم طغوا بغير عقول. وقيل : {أَمْ} بمعنى بل ؛ أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل : {أَحْلامُهُمْ} أي أذهانهم ؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة ، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما أعقل فلانا النصراني! فقال : "مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك : 10] " . وفي حديث ابن عمر : فزجره النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : "مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله" ذكره الترمذي الحكيم أبو عبدالله بإسناده.
قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي افتعله وافتراه ، يعني القرآن. والتقول تكلف القول ، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل ؛ أي آدعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال :
ومنزلة في دار صدق وعبطة ... وما آقتال من حكم علي طبيب
فأم الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} جحودا واستكبارا . {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري . {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} بالإضافة. والهاء في {مِثْلِهِ} للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن. الآية : 35 - 43 {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ َمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ َمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} {أَمْ} صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شيء. قال ابن عباس : من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل : من غير أم ولا أب ؛ فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة ؛ ليسوا كذلك! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة ؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان : أم خلقوا عبثا وتركوا سدى مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي لغير شيء فـ {مِنْ} بمعنى اللام. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لأمر الله وهم لا يقولون ذلك ، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام ، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي ليس الأمر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا {بَلْ لا يُوقِنُونَ} بالحق {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس : خزائن ربك المطر والرزق. وقيل : مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة : النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا. وضرب المثل بالخزائن ؛ لأن الخزانة بيت
يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر ؛ ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس فلا نهاية لها. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} قال ابن عباس : المسلطون الجبارون. وعنه أيضا : المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا : أم هم المتولون. عطاء : أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء : يقال تسيطرت علي أي أتخذتني خولا لك. وقال أبو عبيدة. وفي الصحاح : المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ومتعهد أحواله ويكتب عمله ، وأصله من السطر ؛ لأن الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر : {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} أي هم الحفظة ؛ مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ما كتب فيه ؛ فصار المسيطر ها هنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفيه ثلاث لغات : الصاد وبها قرأت العامة ، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة ، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في {الصِّرَاطَ} [الفاتحة : 6] .
قوله تعالى : {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي عليه الأخبار ويصلون به إلى علم الغيب ، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي . {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك ؛ قال أبو الربيس الثعلبي يصف ناقته :
مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها ... بسلم غرز في مناخ يعاجله
وقال زهير :
ومن هاب أسباب المنية يلقها ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال آخر :
تجنيت لي ذنبا وما إن جنيته ... لتتخذي عذرا إلى الهجر سلما
وقال ابن مقبل في الجمع :
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم
الأحجاء النواحي مثل الأرجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى : أعناء البلاد ، والأعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الأعرابي : واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر ، وهم قوم من قبائل شتى. {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي عليه ؛ كقوله تعالى : {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه : 71] أي عليها ؛ قال الأخفش. وقال أبو عبيدة : يستمعون به. وقال الزجاج : أي ألهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي.
قوله تعالى : {أََمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن ، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} أي على تبليغ الرسالة. {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به {مُثْقَلُونَ} مجهدون لما كلفتهم به.
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل : أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أمر القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة : لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى : {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يؤول إليه أمره. وقال ابن عباس : أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي : يكتبون يحكمون والكتاب الحكم ؛ ومنه قوله تعالى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام : 54] أي حكم ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "والذي نفسي بيده لأحكمن بينكم بكتاب الله" أي بحكم الله.
قوله تعالى : {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي مكرا بك في دار الندوة . {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي الممكور بهم {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر : 43] وذلك أنهم قتلوا ببدر. {أََمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يخلق ويرزق ويمنع. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزه نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل : كل ما في سورة {وَالطُّورِ} من ذكر {أَمْ} فكلمة استفهام وليس بعطف.
الآية : 44 - 46 {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً} قال ذلك جوابا لقولهم : {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء : 187] ، وقولهم : {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء : 92] فأعلم أنه لو فعل ذلك لقالوا : {سَحَابٌ مَرْكُومٌ}
أي بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء ؛ وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد ، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء ؛ يقال : أعطني كسفة من ثوبك ، ويقال في جمعها أيضا : كسف. ويقال : الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش : من قرأ كسفا جعله واحدا ، ومن قرأ {كِسَفاً} جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في "الإسراء" وغيرها والحمد لله.
قوله تعالى : {فَذَرْهُمْ} منسوخ بآية السيف. {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} بفتح الياء قراءة العامة ، وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء : هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة : يوم يموتون. وقيل : هو يوم بدر. وقيل : يوم النفخة الأولى. وقيل : يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل : {يُصْعَقُونَ} بضم الياء من أصعقه الله. {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا . {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} من الله. و {يَوْمَ} منصوب على البدل من {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} .
الآية : 47 - 49 {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}
قوله تعالى : {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي كفروا {عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} قيل : قبل موتهم. ابن زيد : مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد : هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس : هو القتل. عنه : عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. فـ {دُونَ} بمعنى غير. وقيل : عذابا أخف من عذاب الآخرة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن العذاب نازل بهم وقيل : {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ما يصيرون إليه.
قوله تعالى : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} قيل : لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل : لبلائه فيما ابتلاك به من قومك ؛ ثم نسخ بآية السيف. {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل : بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي بحفظي وحراستي وقد تقدم.
قوله تعالى : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} اختلف في تأويل قوله : {حِينَ تَقُومُ} فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص : يسبح الله حين يقوم من مجلسه ؛ فيقول : سبحان الله وبحمده ، أوسبحانك اللهم وبحمدك ؛ فإن كان المجلس خيرا آزددت ثناء حسنا ، وإن كان غير ذلك كان كفارة له ؛ ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال وسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" قال : حديث
حسن صحيح غريب. وفيه عن ابن عمر قال : كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم : "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور" قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع : المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري : وهذا فيه بعد ؛ فإن قوله : {حِينَ تَقُومُ} لا يدل على التسبيح بعد التكبير ، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام ، والتسبيح يكون وراء ذلك ، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية : المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان : ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وقال الكلبي : واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفي هذا روايات مختلفات صحاح ؛ منها حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من تعار في الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أودعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته" خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل : إذا هب من نومه مع صوت ؛ ومنه عار الظليم يعار عرارا وهو صوته ؛ وبعضهم يقول : عر الظليم يعر عرارا ، كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل : "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات ولأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك" متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم من وجهه ؛ ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة "آل عمران" .
وقال زيد بن أسلم : المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي : أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك : إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي : وفي هذا التسبيح قولان : أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي : من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله ، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال "وجهت وجهي" الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة "الأنعام" . وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي ؛ فقال : "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" .
قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} تقدم في "ق" مستوفى عند قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق : 49] . وأما {إِدْبَارَ النُّجُومِ} فقال علي وابن عباس وجابر وأنس : يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد : أن قوله : {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} يريد به صلاة الصبح وهو آختيار الطبري. وعن ابن عباس : أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في "ق" . وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع {وَأَدْبَارَ} بالفتح ، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب ؛ وهو جمع دبر ودبر ودبر الأمر ودبره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل ، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]