عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 12-07-2025, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,229
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الطور
من صــ 61 الى صــ 70
الحلقة (670)






في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام ، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه ، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا ، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور ، قال : فبوأ الله جل وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان ؛ قال الله تعالى : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحح : 26] .
قوله تعالى : {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السماء سماها سقفا ؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت ؛ بيانه : {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء : 32] . وقال ، ابن عباس : هو العرش وهو سقف الجنة . {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال مجاهد : الموقد ؛ وقد جاء في الخبر : "إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا" . وقال قتادة : المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب :
إذا شاء طالع سجورة ... ترى حولها النبع والساسما
يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل : للمسعر مسجر ؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى : {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير : 6] أي أوقدت ؛ سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد بن المسيب : قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ قال : البحر. قال ما أراك إلا صادقا ، وتلا : . {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير : 6] مخففة. وقال عبدالله بن عمرو : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب : يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم ؛ فهذا قول وقال ابن عباس : المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال : خرجت أمة لتستقي فقالت : إن الحوض مسجور أي فارع ، قال ابن أبي داود : ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل : المسجور أي المفجور ؛ دليله : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار : 3] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء.
وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين : سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال : هو بحر دون العرش. وقال علي : تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس : المسجور المختلط العذب بالملح.
قلت : إليه يرجع معنى {فُجِّرَتْ} في أحد التأويلين ؛ أي فجر عذبها في مالحها : والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المسجور المحبوس.
قوله تعالى : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب القسم ؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب {وَالطُّورِ} إلى قوله : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان : انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ {وَالطُّورِ} حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} فبكى الحسن وبكى أصحابه ؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين ، فرغب إلى الصلح بينهما ، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين ، فأحلفه بأول {وَالطُّورِ} إلى أن قال له قل {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} إن كنت كاذبا ؛ فقالها فخرج فكسر من حينه.
الآية : 9 - 16 {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} العامل في يوم قوله : {وَاقِعٌ} أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة : مار الشيء يمور مورا ، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة ، أي الطويلة ، والتمور مثله. وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض. مجاهد : تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش : تكفأ ، وأنشد للأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير :
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
وقال ابن عباس : تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل : يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة :
.
.. فوق مور معبد

والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه ، قال الشاعر :
على ظهر موار الملاط حصان
الملاط الجنب. وقولهم : لا أدري أغار أم مار ؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل : إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره ؛ قاله ابن بحر . {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} قال مقاتل : تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل : تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا ؛ بيانه {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل : 88] . وقد مضى هذا المعنى في "الكهف" . {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
{وَيْلٌ} كلمة تقال للهالك ، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي في تردد في الباطل ، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل : في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في "التوبة" .
قوله تعالى : {يََوْمَ يُدَعُّونَ} {يََوْمَ} بدل من يومئذ. و {يُدَعُّونَ} معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف ، يقال : دععته أدعه دعا أي دفعته ، ومنه قوله تعالى : {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون : 2] . وفي التفسير : إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم ، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة : {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدنيا.
قوله تعالى : {أَفَسِحْرٌ هَذَا} استفهام معناه التوبيخ والتقريع ؛ أي يقال لهم : {أَفَسِحْرٌ هَذَا} الذي ترون الآن بأعينكم {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} وقيل : {أَمْ} بمعنى بل ؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها . {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ . {سَوَاءٌ} خبره محذوف ، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء ، كما أخبر عنهم أنهم يقولون : {سََوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم : 21] . {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
الآية : 17 - 20 {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}
قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا {فَاكِهِينَ} أي ذوي فاكهة كثيرة ؛ يقال : رجل فاكه أي ذو فاكهة ، كما يقال : لابن وتامر ؛ أي ذو لبن وتمر ؛ قال :
وغررتني وزعمت أنـ ... ـك لابنٌ بالصيف تامر
أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره : {فَاكِهِينَ} بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره ؛ يقال : فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في "الدخان" القول في هذا. {بِمَا آتَاهُمْ} أي أعطاهم {رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم ذلك . {هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج : أي ليهنئكم ما صرتم إليه. {هَنِيئاً} وقيل : أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا وقيل : أي كلوا واشربوا هنئتم . {هَنِيئاً} فهو صفة في موضع المصدر .. {هَنِيئاً} أي حلالا. وقيل : لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل : . {هَنِيئاً} أي لا تموتون ؛ فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنيء.
قوله تعالى : {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ} سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره : متكئين على نمارق سرر. {مَصْفُوفَةٍ} قال ابن الأعرابي : أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الأخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا ؛ فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له ؛ فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس : هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، والسرير ما بين مكة وأيلة. {وزوجناهم بحور عين} أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب : تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة ؛ وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال : وقول الله عز وجل : {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي قرناهم بهن ؛ من قول الله تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات : 22] أي وقرناءهم. وقال الفراء : تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين.
الآية : 21 - 24 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} قرأ العامة {وَاتَّبَعَتْهُمْ} بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ أبو عمرو {وَأتْبَعَنَاهُمْ} بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون ؛ أعتبارا بقوله : {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} ليكون الكلام على نسق واحد. {ذُرِّيَّتَهُمْ} الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون {ذُرِّيَّتَهُمْ} على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون {ذُرِّيَّتَهُمْ} على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه ؛ فقيل عن ابن عباس أربع روايات : الأولى أنه قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه ، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في "الناسخ والمنسوخ" له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقربهم عينه" ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتْبَعَنَاهُمْ ذُرِّيَاتِهِمْ بِإِيمَانٍ} الآية. قال أبو جعفر : فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون ؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم.
وعن ابن عباس أيضا أنه قال : إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان ؛ قال المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار ، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى : {بِإِيمَانٍ} في موضع الحال من المفعولين ، وكان التقدير {بِإِيمَانٍ} من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله : {بِإِيمَانٍ} حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس : أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه : إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إل الآباء ، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء ؛ فالأباء داخلون في اسم الذرية ؛ كقوله تعالى : {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس : 41] . وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ": إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به" . وقالت خديجة رضي الله عنها : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي : "هما في النار" فلما رأى الكراهية في وجهي قال : "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما" قالت : يا رسول الله فولدي منك ؟ قال : "في الجنة" ثم قال : "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية.
قوله تعالى : {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم ، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقال ابن زيد : المعنى {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل ؛ فالهاء والميم على ، هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة {آَلَتْنَاهُمْ} بالمد ؛ قال ابن الأعرابي : الته يألته ألتا ، وآلته يولته إيلاتا ، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه.
وفي الصحاح : ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه ، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى ، ويقال أيضا : ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بـ "الحجرات" .
قوله تعالى : {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} قيل : يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس : ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم ، ولهذا قال : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر : 38] . وقيل : هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله ، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم.
قوله تعالى : {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله ، أمدهم بها غير الذي كان لهم. {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس : إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره ؛ فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقال امرؤ القيس :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
وقد مضى هذا في "والصافات" . {لا لَغْوٌ فِيهَا} أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو
{وَلا تَأْثِيمٌ} ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم ؛ أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل : {لا لَغْوٌ فِيهَا} أي في الجنة. قال ابن عطاء : أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن ، وسقاتهم الملائكة ، وشربهم على ذكر الله ، وريحانهم وتحيتهم من عند الله ، والقوم أضياف الله! {وَلا تَأْثِيمٌ} أي ولا كذب ؛ قاله ابن عباس. الضحاك : يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو : {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في "البقرة" عند قوله تعالى : {وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة : 254] والحمد لله.
قوله تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب ؛ ودليله : {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف : 71] ، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات : 45] . ثم قيل : هم الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم ، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل : إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل : هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي : لا يكبرون أبدا {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} في الحسن والبياض {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} في الصدف ، والمكنون المصون. وقوله تعالى : {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة : 17] . قيل : هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة ، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك" . وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه" . وعن الحسن أنهم قالوا : يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم ؟ فقال : "ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب" . قال الكسائي : كننت الشيء سترته وصنته من الشمس ، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد : كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا ؛ تقول : كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة ومكنة.
الآية : 25 - 28 {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس : إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل : في الجنة {يَتَسَاءَلُونَ} أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة ، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل : يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة ؟ {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي قال كل مسؤول منهم لسائله : {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله . {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالجنة والمغفرة. وقيل : بالتوفيق والهداية . {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} قال الحسن : {السَّمُومِ} اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل : هو النار كما تقول جهنم. وقيل : نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث ؛ يقال منه : سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد تكون بالليل ، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار ؛ وقد تستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر ؛ قال الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا ألومه
قوله تعالى : {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل : {نَدْعُوهُ} أي نعبده. {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} وقرأ نافع والكسائي {أَنَّهُ} بفتح الهمزة ؛ أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و {الْبَرُّ} اللطيف ؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا : أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.50 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.49%)]