
12-07-2025, 12:01 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,740
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (16)
سُورَةُ الفتح
من صــ 261 الى صــ 270
الحلقة (655)
وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال الزهري : لقد كان الحديبية أعظم الفتوح ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة ، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال مجاهد أيضا والعوفي : هو فتح خبير. والأول أكثر ، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه ، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} [الفتح : 10] وقوله : {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح : 20] . وقال مجمع بن جارية - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - : شهدنا الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال : فخرجنا نوجف فوجدنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال عمر بن الخطاب : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : "نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح" . فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية. وقيل : إن قوله تعالى : {فتحا} يدل على أن مكة فتحت عنوة ، لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة. هذا هو حقيقة الاسم. وقد يقال : فتح البلد صلحا ، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح ، فصار الفتح في الصلح مجازا. والأخبار دالة على أنها فتحت عنوة ، وقد مضى القول فيها ، ويأتي.
الآية : 2 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
قال ابن الأنباري : {فَتْحاً مُبِيناً} غير تام ، لأن قوله : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} متعلق بالفتح. كأنه قال : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة ، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة. وقال أبو حاتم السجستاني : هي لام القسم. وهذا خطأ ، لأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها ، ولو جاز هذا لجاز : ليقوم زيد ، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري : فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة ، وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز. كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب. وفي الترمذي عن أنس قال : أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض" ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا يا وسول الله ، لقد بين الله لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ، فنزلت عليه : {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ - حتى بلغ - فَوْزاً عَظِيماً} قال حديث حسن صحيح. وفيه عن مجمع بن جارية. واختلف أهل التأويل في معنى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل : {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة. {وَمَا تَأَخَّرَ} بعدها ، قال مجاهد. ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري ، قال الطبري : هو راجع إلى قوله تعالى : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى قول {تَوَّاباً} [النصر : 1 - 3] . {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة {وَمَا تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه الآية. وقال سفيان الثوري : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} ما عملته في الجاهلية من قبل أن يوحى إليك. {وَمَا تَأَخَّرَ} كل شيء لم تعمله ، وقاله الواحدي. وقد مضى الكلام في جريان الصغائر على الأنبياء في سورة "البقرة" ، فهذا قول. وقيل :
{مَا تَقَدَّمَ} قبل الفتح. {وَمَا تَأَخَّرَ} بعد الفتح. وقيل : {مَا تَقَدَّمَ} قبل نزول هذه الآية. {وَمَا تَأَخَّرَ} بعدها. وقال عطاء الخرساني : {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} يعني من ذنب أبويك آدم وحواء. {وَمَا تَأَخَّرَ} من ذنوب أمتك. وقيل : من ذنب أبيك إبراهيم. {وَمَا تَأَخَّرَ} من ذنوب النبيين. وقيل : {مَا تَقَدَّمَ} من ذنب يوم بدر. {وَمَا تَأَخَّرَ} من ذنب يوم حنين. وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدر ، أنه جعل يدعو ويقول : "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا" وجعل يردد هذا القول دفعات ، فأوحى الله إليه : من أين تعلم أني لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا ، فكان هذا الذنب المتقدم. وأما الذنب المتأخر فيوم حنين ، لما انهزم الناس قال لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان : "ناولاني كفا من حصباء الوادي" فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال : "شاهت الوجوه. حم. لا ينصرون" فانهزم القوم عن آخرهم ، فلم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. ثم نادى في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم : "لو لم أرمهم لم ينهزموا" فأنزل الله عز وجل : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال : 17] فكان هذا هو الذنب المتأخر. وقال أبو علي الروذباري : يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك.
قوله تعالى : {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قال ابن عباس : في الجنة. وقيل : بالنبوة والحكمة. وقيل : بفتح مكة والطائف وخيبر. وقيل : بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل.
الآية : 4 {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
{السكينة} : السكون والطمأنينة. قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في "البقرة" . {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عباس : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة ، فلما صدقوه زادهم الزكاة ، فلما صدقوه زادهم الصيام ، فلما صدقوه زادهم الحج ، ثم أكمل لهم دينهم ، فذلك قوله : {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الربيع بن أنس : خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس : يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} بأحوال خلقه {حَكِيماً} فيما يريده.
الآية : 5 {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً}
أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة. وقيل : اللام في {ليدخل} يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله : {ليغفر لك الله} {وكان ذلك} أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب. {عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} أي نجاة من كل غم ، وظفرا بكل مطلوب. وقيل : لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟ فنزل : {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} ولما قرأ {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قالوا : هنيئا لك ، فنزلت : {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة : 3] فلما قرأ {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} نزل في حق الأمة : {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح : 2] . ولما قال : {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح : 3] نزل : وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ [الروم : 47] . وهو كقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب : 56] . ثم قال : {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب : 43] ذكره القشيري.
الآية : 6 - 7 {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
قوله تعالى : {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين ، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا. {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} يعني ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة ، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية ، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال : {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} [الفتح : 12] . وقال الخليل وسيبويه : {السوء} هنا الفساد. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} في الدنيا بالقتل والسبي والأسر ، وفي الآخرة جهنم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {دائرة السوء} بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري : ساءه يسوءه سوءا (بالفتح "ومساءة ومساية ، نقيض سره ، والاسم السوء" بالضم ". وقرئ {عليهم دائرة السُّوء} يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} تقدم في غير موضع جميعه. والحمد لله. وقيل : لما جرى صلح الحديبية قال ابن أُبي : أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو ، فأين فارس والروم فبين الله عز وجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم. وقيل : يدخل فيه"
جميع المخلوقات. وقال ابن عباس : {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ} الملائكة. وجنود الأرض المؤمنون. وأعاد لأن الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش ، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.
الآية : 8 - 9 {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
قوله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} قال قتادة : على أمتك بالبلاغ. وقيل : شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية. وقيل : مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم. وقيل : شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم ، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في "النساء" عن سعيد بن جبير هذا المعنى مبينا. {وَمُبَشِّراً} لمن أطاعه بالجنة. {وَنَذِيراً} من النار لمن عصى ، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في "البقرة" اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما. وانتصب {شاهداً ومبشراً ونذيراً} على الحال المقدرة. حكى سيبويه : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، فالمعنى : إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول : رأيت عمرا قائما غدا.
قوله تعالى : {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو {ليؤمنوا} بالياء ، وكذلك {يعزروه ويوقروه ويسبحوه} كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده ، فأما قبله فقوله : {ليدخل} وأما بعده فقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح : 10] الباقون بالتاء على الخطاب ، واختاره أبو حاتم. {وَتُعَزِّرُوهُ} أي تعظموه وتفخموه ، قاله الحسن والكلبي ، والتعزيز : التعظيم والتوقير. وقال قتادة : تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحد. لأنه مانع. قال القطامي :
ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر
وقال ابن عباس وعكرمة : تقاتلون معه بالسيف. وقال بعض أهل اللغة : تطيعوه. {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تسودوه ، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير : التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقف تام ، ثم تبتدئ {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبحوا الله {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي عشيا. وقيل : الضمائر كلها لله تعالى ، فعلى هذا يكون تأويل {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك ، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو {وَتُسَبِّحُوهُ} من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وهو {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي {تُسَبِّحُوهُ} وجهان : تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني : هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول فيه. وقال الشاعر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالأصائل
10 { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} بالحديبية يا محمد. {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} بين أن بيعتهم لنبيه إنما هي بيعة الله ، كما قال تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء : 80] . وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان ، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء ، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي : معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا
من البيعة. وقال ابن كيسان : قوه الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. {فَمَنْ نَكَثَ} بعد البيعة. {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي يرجع ضرر النكث عليه ، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} قيل في البيعة. وقيل في إيمانه. وقرأ حفص والزهري "عليه" بضم الهاء. وجرها الباقون. {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يعني في الجنة. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {فسنؤتيه} بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرأ الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقرب اسم الله منه.
الآية : 11 {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
قوله تعالى : {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} قال مجاهد وابن عباس : يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل ، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح ، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش ، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل ، فنزلت. وإنما قال : {المخلفون} لأن الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في "التوبة" . {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} أي ليس لنا من يقوم بهما. {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} جاؤوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم ، ففضحهم الله تعالى بقوله : {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} وهذا هو النفاق المحض.
قوله تعالى : {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} قرأ حمزة والكسائي {ضُرا} بضم الضاد هنا فقط ، أي أمرا يضركم. وقال ابن عباس : الهزيمة.
الباقون بالفتح ، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قالا : لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر. وقيل : هما لغتان بمعنى ، كالفقر والفقر والضعف والضعف. {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع.
الآية : 12 {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}
قوله تعالى : {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} وذلك أنهم قالوا : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. {وَزُيِّنَ ذَلِكَ} أي النفاق. {فِي قُلُوبِكُمْ} وهذا التزيين من الشيطان ، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} أن الله لا ينصر رسوله. {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى ، قاله مجاهد. وقال قتادة : فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري : البور : الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبدالله بن الزبعرى السهمي :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
وامرأة بور أيضا ، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى : {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} وهو جمع بائر ، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه. وقيل : {بُوراً} أشرارا ، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت :
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور
أي الهالك.
13 {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً}
وعيد لهم ، وبيان أنهم كفروا بالنفاق.
الآية : 14 {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
أي هو غني عن عباده ، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.
الآية : 15 {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً}
قوله تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني مغانم خيبر ، لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر ، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبدالله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. قال ابن إسحاق : وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة ، وزيد بن ثابت من بني النجار ، كانا حاسبين قاسمين. {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أي دعونا. تقول : ذره ، أي دعه. وهو يذره ، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره ، لا يقال : وذره ولا واذر ، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد : تخلفوا عن الخروج إلى مكة ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قوما
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|