عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 10-07-2025, 09:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (16)
سُورَةُ الجاثية
من صــ 161 الى صــ 170
الحلقة (645)






لهم اغفروا يغفروا ؛ فهو جواب أمر محذوف دل الكلام عليه ؛ قال علي بن عيسى واختاره ابن العربي. ونزلت الآية بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به. قال ابن العربي : وهذا لم يصح. وذكر الواحدي والقشيري وغيرهما عن ابن عباس أن الآية نزلت في عمر مع عبدالله بن أبي في غزوة بني المصطلق ، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها "المريسيع" فأرسل عبدالله غلامه ليستقي ، وأبطأ عليه فقال : ما حبسك ؟ قال : غلام عمر بن الخطاب قعد على فم البئر ، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر ، وملأ لمولاه. فقال عبدالله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك. فبلغ عمر رضي الله عنه قول ، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله ؛ فأنزل الله هذه الآية. هذه رواية عطاء عن ابن عباس. وروى عنه ميمون بن مهران قال : لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة : 245] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص : احتاج رب محمد! قال : فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه ؛ فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "إن ربك يقول لك {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . وأعلم أن عمر قد أشتمل عل سيفه وخرج في طلب اليهودي ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فلما جاء قال :" يا عمر ، ضع سيفك "قال : يا رسول الله ، صدقت. أشهد أنك أرسلت بالحق. قال :" فإن ربك يقول : {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال : لا جرم! والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي.
قلت : وما ذكره المهدوي والنحاس فهو رواية الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول القرظي والسدي ، وعليه يتوجه النسخ في الآية. وعلى أن الآية نزلت بالمدينة أو في غزوة بني المصطلق فليست بمنسوخة. ومعنى {يَغْفِرُوا} يعفوا ويتجاوزوا. ومعنى : {لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} أي لا يرجون ثوابه. وقيل : أي لا يخافون بأس الله ونقمه. وقيل : الرجاء بمعنى الخوف ؛ كقوله : {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح : 13] أي لا تخافون له عظمة. والمعنى : لا تخشون
مثل عذاب الأمم الخالية. والأيام يعبر بها عن الوقائع. وقيل : لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل : المعنى لا يخافون البعث. {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قراءة العامة {لِيَجْزِيَ} بالياء على معنى ليجزي الله. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر {لِنَجْزِيَ} بالنون على التعظيم. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة {لِيُجْزَى} بياء مضمومة وفتح الزاي على الفعل المجهول ، {قوما} بالنصب. قال أبو عمرو : وهذا لحن ظاهر. وقال الكسائي : معناه ليجزي الجزاء قوما ، نظيره : {وَكَذَلِكَ نُجِِّي الْمُؤْمِنِينَ} على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة "الأنبياء" . قال الشاعر :
ولو وَلَدت قُفيرة جرو كلب ... لَسُبَّ بذلك الجروِ الكلابا
أي لَسُبَّ السب.
الآية : 15 {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
تقدم.
الآية : 16 - 17 {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ} يعني التوراة. {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الحكم : الفهم في الكتاب. وقيل : الحكم على الناس والقضاء. {والنبوة} يعني الأنبياء من وقت يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي الحلال
من الأقوات والثمار والأطعمة التي كانت بالشام. وقيل : يعني المن والسلوى في التيه. {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانهم. {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} قال ابن عباس : يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ، وينصره أهل يثرب. وقيل : بينات الأم شرائع واضحات في الحلال والحرام ومعجزات. {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يريد يوشع بن نون ؛ فآمن بعضهم وكفر بعضهم ؛ حكاه النقاش. وقيل : {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسدا على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال معناه الضحاك. قيل : معنى {بَغْياً} أي بغى بعضهم على بعض يطلب الفضل والرياسة ، وقتلوا الأنبياء ؛ فكذا مشركو عصرك يا محمد ، قد جاءتهم البينات ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} أي يحكم ويفصل. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} في الدنيا.
الآية : 18 {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} الشريعة في اللغة : المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء - وهي مورد الشاربة - : شريعة. ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالشريعة : ما شرع الله لعباده من الدين ؛ والجمع الشرائع. والشرائع في الدين : المذاهب التي شرعها الله لخلقه. فمعنى : {جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق. وقال ابن عباس : {عَلَى شَرِيعَةٍ} أي على هدى من الأمر. قتادة : الشريعة الأم والنهي والحدود والفرائض. مقاتل : البينة ؛ لأنها
طريق إلى الحق. الكلبي : السنة ؛ لأنه يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. ابن زيد : الدين ؛ لأنه طريق النجاة. قال ابن العربي : والأمر يرد في اللغة بمعنيين : أحدهما : بمعنى الشأن كقوله : {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود : 97] . والثاني : أحد أقسام الكلام الذي يقابله الذي يقابله النهي. وكلاهما يصح أن يكون مرادا هاهنا ؛ وتقديره : ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام ؛ كما قال تعالى : {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل : 123] .
ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح ، وإنما خالف بينهما في الفروع حسبما علمه سبحانه.
قال ابن العربي : ظن بعض من يتكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا ؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة ، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته منفردان بشريعة ، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء هل يلزم اتباعه أم لا. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} يعني المشركين. وقال ابن عباس : قريظة والنضير. وعنه : نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه.
الآية : 19 {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى : {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي إن اتبعت أهواءهم لا يدفعون عنك من عذاب الله شيئا. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي أصدقاء وأنصار وأحباب. قال ابن عباس : يريد أن المنافقين أولياء اليهود. {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} أي ناصرهم ومعينهم. والمتقون هنا : الذين أتقوا الشرك والمعاصي.
الآية : 20 {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
قوله تعالى : {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} ابتداء وخبر ؛ أي هذا الذي أنزلت عليك براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام. وقرئ {هذه بصائر} أي هذه الآيات. {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن أخذ به. {وَرَحْمَةٌ} في الآخرة {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
الآية : 21 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
قوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أن اكتسبوها. والاجتراح : الاكتساب ؛ ومنه الجوارح ، وقد تقدم. {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال الكلبي : {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا} عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. و {الَّذِينَ آمَنُوا} علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. وقيل : نزلت في قوم من المشركين قالوا : إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن ؛ كما أخبر الرب عنهم في قوله : {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت : 50] . وقوله : {أم حسب} استفهام معطوف معناه الإنكار. وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب. وقوم يقولون : فيه إضمار ؛ أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم. وقيل : هي أم المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. وقراءة العامة {سواء} بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم ، أي محياهم ومماتهم سواء. والضمير في {محياهم ومماتهم} يعود على الكفار ، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش {سواءً} بالنصب ، واختاره أبو عبيد قال : معناه
نجعلهم سواء. وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر {ومماتَهم} بالنصب ؛ على معنى سواء في محياهم ومماتهم ؛ فلما أسقط الخافض انتصب. ويجوز أن يكون بد لا من الهاء والميم في نجعلهم ؛ المعنى : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم. ويجوز أن يكون الضمير في {محياهم ومماتهم} للكفار والمؤمنين جميعا. قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا. وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال : قال رجل من أهل مكة : هذا مقام تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية كلها. وقال بشير : بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد. وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها ، ثم يقول : ليت ، شعري! من أي الفريقين أنت ؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة.
الآية : 22 {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي بالأمر الحق. {وَلِتُجْزَى} أي ولكي تجزى. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي في الآخرة. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
الآية : 23 {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قال ابن عباس والحسن وقتادة : ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه ؛ فلا يهوى شيئا إلا ركبه. وقال عكرمة : أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه ؛ فإذا استحسن
شيئا وهويه اتخذه إلها. قال سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر ؛ فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين ، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه. وقال سفيان بن عيينة : إنما عبدوا الحجارة لأن البيت حجارة. وقيل : المعنى أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده تعجيبا لذوي العقول من هذا الجهل. وقال الحسن بن الفضل : في هذه الآية تقديم وتأخير ، مجازه : أفرأيت من اتخذ هواه إلهه. وقال الشعبي : إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال ابن عباس : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه ، قال الله تعالى : {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف : 176] . وقال تعالى : {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف : 28] . وقال تعالى : {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم : 29] . وقال تعالى : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص : 50] . وقال تعالى : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص : 26] . وقال عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" . وقال أبو أمامة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى" . وقال شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله" . وقال عليه السلام : "إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة" . وقال صلى الله عليه وسلم : "ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. والمنجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب" . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه ؛ فإن كان عمله
تبعا لهواه فيومه يوم سوء ، وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح. وقال الأصمعي سمعت رجلا يقول :
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال : هوان سرقت نونه ، فأخذه شام فنظمه وقال :
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال آخر :
إن الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد كسبت هوانا
وإذا هويت فقد تعبّدك الهوى ... فاخضع لحبك كائنا من كانا
ولعبدالله بن المبارك :
ومن البلايا للبلاء علامة ... ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع
ولابن دريد :
إذا طالبتك النفس يوما بشهوه ... وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما ... هواك عدو والخلاف صديق
ولأبي عبيد الطوسي :
والنفس إن أعطيتها مناها ... فاغرة نحو هواها فاها
وقال أحمد بن أبي الحوارى : مررت براهب فوجدته نحيفا فقلت له : أنت عليل. قال نعم. قلت : مذ كم ؟ قال : مذ عرفت نفسي! قلت فتداوى ؟ قال : قد أعياني الدواء وقد عزمت على الكي. قلت وما الكي ؟ قال : مخالفة الهوى. وقال سهل بن عبدالله التري : هواك داؤك. فان خالفته فدواؤك. وقال وهب : إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته.
وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه ؛ وحسبك بقوله تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات : 41] .
قوله تعالى : {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أي على علم قد علمه منه. وقيل : أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال ابن عباس : أي على علم قد سبق عنده أنه سيضل. مقاتل : على علم منه أنه ضال ؛ والمعنى متقارب. وقيل : على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر. ثم قيل : {على علم} يجوز أن يكون حالا من الفاعل ؛ المعنى : أضله على علم منه به ، أي أضله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول ؛ فيكون المعنى : أضله في حال علم الكافر بأنه ضال. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى. {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. وقرأ حمزه والكسائي "غشوة" بفتح الغين من غير ألف وقال الشاعر :
أما والذي أنا عبد له ... يمينا ومالك أبدى اليمينا
لئن كنت ألبستني غشوة ... لقد كنت أصفيتك الود حينا
{مَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} أي من بعد أن أضله. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتعرفون أنه قادر على ما يشاء.
وهذه الآية ترد على القدرية والإمامية وسلك سبيلهم في الاعتقاد ؛ إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. ثم قيل : {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. وقيل : إنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم ؛ كما تقدم في أول "البقرة" . وحكى ابن جريج أنها نزلت
في الحارث بن قيس من الغياطلة. وحكى النقاش أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة ، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو جهل : والله إني لأعلم إنه لصادق! فقال له مه! وما دلك على ذلك! ؟ قال : يا أبا عبد شمس ، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين ؛ فلما تم عقله وكمل رشده ، نسميه الكذاب الخائن!! والله إني لأعلم إنه لصادق! قال : فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به ؟ قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة ، واللات والعزى إن اتبعته أبدا. فنزلت : {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} .
الآية : 24 {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
قوله تعالى : {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} هذا إنكار منهم للآخرة وتكذيب للبعث وإبطال للجزاء. ومعنى : {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي نموت نحن وتحيا أولادنا ؛ قال الكلبي. وقرئ {ونحيا} بضم النون. وقيل : يموت بعضنا ويحيا بعضنا. وقيل : فيه تقديم وتأخير ؛ أي نحيا ونموت ؛ وهي قراءة ابن مسعود. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قال مجاهد : يعني السنين والأيام. وقال قتادة : إلا العمر ، والمعنى واحد. وقرئ {إلا دهر يمر} . وقال ابن عيينة : كان أهل الجاهلية يقولون : الدهر هو الذي يهلكنا وهو الذي يحيينا ويميتنا ؛ فنزلت هذه الآية. وقال قطرب : وما يهلكنا إلا الموت ؛ وأنشد قول أبي ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.53%)]