
10-07-2025, 09:11 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,356
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (16)
سُورَةُ الزخرف
من صــ 121 الى صــ 130
الحلقة (641)
قوله تعالى : {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} يعني كفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة. أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة. وقيل : إن هذا منسوخ بآية السيف. وقيل : هو محكم ، وإنما أخرج مخرج التهديد. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد وابن القعقاع وابن السميقع {حتى يلقوا} بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف ؛ وفتح القاف هنا وفي "الطور" و "المعارج" . الباقون "يلاقوا" .
الآية : 84 {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} هذا تكذيب لهم في أن لله شريكا وولدا ؛ أي هو المستحق للعبادة في السماء والأرض. وقال عمر رضي الله عنه وغيره : المعنى وهو الذي في السماء إله في الأرض ؛ وكذلك قرأ. والمعنى أنه يعبد فيهما. وروي أنه قرأ هو وابن مسعود وغيرهما {وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله} وهذا خلاف المصحف. و {إله} رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ؛ أي وهو الذي في السماء هو إله ؛ قاله أبو علي. وحسن حذفه لطول الكلام. وقيل : "في" بمعنى على ؛ كقوله تعالى : {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه : 71] أي على جذوع النخل ؛ أي هو القادر على السماء والأرض. {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} تقدم.
الآية : 85 {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
قوله تعالى : {وَتَبَارَكَ} تفاعل من البركة ؛ وقد تقدم. {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي وقت قيامها. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالياء. الباقون بالتاء. وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم. وضم الباقون.
الآية : 86 {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} في موضع الخفض. وأراد بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} عيسى وعزيرا والملائكة. والمعنى ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة ؛ قال سعيد بن جبير وغيره. قال : وشهادة الحق لا إله إلا الله. وقيل : {من} في محل رفع ؛ أي ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة ؛ يعني الآلهة - في قول قتادة - أي لا يشفعون لعابديها إلا من شهد بالحق ؛ يعني عزيرا وعيسى والملائكة فإنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حقيقة ما شهدوا به. قيل : إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه ؛ فأنزل الله : {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي اعتقدوا أن الملائكة أو الأصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم ولا شفاعة لأحد يوم القيامة.
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} يعني المؤمنين إذا أذن لهم. قال ابن عباس : "إن من شهد بالحق" أي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل : أي لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحد إلا من شهد بالحق ؛ فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك. و "إلا" بمعنى لكن ؛ أي لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق ؛ فهو استئناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا ؛ لأن في جملة {الذين يدعون من دونِهِ} الملائكة. ويقال : شفعته وشفعت له ؛ مثل كاته وكلت له.
وقيل : {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} إلا من تشهد له الملائكة بأنه كان على الحق في الدنيا ، مع علمهم بذلك منه بأن يكون الله أخبرهم به ، أو بأن شاهدوه على الإيمان.
قوله تعالى : {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يدل على معنيين : أحدهما : أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم ، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني : أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها. ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع" . وقد مضى.
الآية : 87 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
قوله تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي لأقروا بأن الله خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون حتى أشركوا به غيره رجاء شفاعتهم له. يقال : أفكه يأفكه أفكا ؛ أي قلبه وصرفه عن الشيء. ومنه قوله تعالى : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف : 22] . وقيل : أي ولئن سألت الملائكة وعيسى {مَنْ خَلَقَهُمْ} لقالوا الله. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي فأنى يؤفك هؤلاء في ادعائهم إياهم آلهة.
الآية : 88 {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى : {وَقِيلِهِ} فيه ثلاث قراءات : النصب ، والجر ، والرفع. فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة. وبقية السبعة بالنصب. وأما الرفع فهي قراءة الأعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب. فمن جر حمله على معنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله. ومن نصب فعلى معنى : وعنده علم الساعة ويعلم قيله ؛ وهذا اختيار الزجاج.
وقال الفراء والأخفش : يجوز أن يكون {قيله} عطفا على قوله : {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف : 80] . قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد بأي شيء تنصب القيل ؟ فقال : أنصبه على "وعنده علم الساعة ويعلم قيله" . فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على {ترجعون} ، ولا على {يعلمون} . ويحسن الوقف على {يكتبون} . وأجاز الفراء والأخفش أن ينصب القيل على معنى : لا نسمع سرهم ونجواهم
وقيله ؛ كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على {يكتبون} . وأجاز الفراء والأخفش أيضا : أن ينصب على المصدر ؛ كأنه قال : وقال قيله ، وشكا شكواه إلى الله عز وجل ، كما قال كعب بن زهير :
تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
أراد : ويقولون قيلهم. ومن رفع {قيله} فالتقدير : وعنده قيله ، أوقيله مسموع ، أوقيله هذا القول. الزمخشري : والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. والرفع على قولهم : ايمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك ، ويكون قوله : {إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم ؛ كأنه قال : وأقسم بقيله يا رب ، أو قيله يا رب قسمي ، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وقال ابن الأنباري : ويجوز في العربية {وقيله} بالرفع ، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون. المهدوي : أويكون على تقدير وقيله قيله يا رب ؛ فحذف قيله الثاني الذي هو خبر ، وموضع {يا رب} نصب بالخبر المضمر ، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه ؛ لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور. والهاء في {قيله} لعيسى ، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد جرى ذكره إذ قال : {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف : 81] . وقرأ أبو قلابة {يا رب} بفتح الباء. والقيل مصدر كالقول ؛ ومنه الخبر (نهى عن قيل وقال) . ويقال : قلت قولا وقيلا وقالا. وفي النساء {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء : 122] .
الآية : 89 {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
قال قتادة : أمر بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم ؛ فصار الصفح منسوخا بالسيف. ونحوه عن ابن عباس قال : {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أعرض عنهم. {وَقُلْ سَلامٌ} أي معروفا ؛ أي قل المشركين أهل مكة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ثم نسخ هذا في سورة "التوبة" بقوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة : 5] الآية. وقيل : هي محكمة لم تنسخ. وقراءة العامة فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (بالباء) على أنه خبر من الله تعالى لنبيه بالتهديد. وقرأ نافع وابن عامر {تعلمون} (بالتاء) على أنه من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتهديد. و {سلام} رفع بإضمار عليكم ؛ قاله الفراء. ومعناه الأمر بتوديعهم بالسلام ، ولم يجعله تحية لهم ؛ حكاه النقاش. وروى شعيب بن الحبحاب أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم ؛ والله أعلم.
تفسير سورة الدخان سورة الدخان
المقدمة
سورة الدخان مكية باتفاق ، إلا قوله تعالى : {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} [الدخان : 15] . وهي سبع وخمسون آية. وقيل تسع. وفي مسند الدارمي عن أبي رافع قال : "من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له وزوج من الحور العين" رفعه الثعلبي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له" . وفي لفظ آخر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك" . وعن أبي أمامة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة" .
الآية : 1 {حم ، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}
إن جعلت {حم} جواب القسم تم الكلام عند قوله : {المبين} ثم تبتدئ {إنا أنزلناه} . وإن جعلت {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} جواب القسم الذي هو {الكتاب} وقفت على {منذرين} وابتدأت {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . وقيل : الجواب {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ، وأنكره بعض النحويين من حيث كان صفة للمقسم به ، ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم ، والهاء في {أنزلناه}
للقرآن. ومن قال : أقسم بسائر الكتب فقوله : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} كنى به عن غير القرآن ، على ما تقدم بيانه في أول "الزخرف" والليلة المباركة ليلة القدر. ويقال : ليلة النصف من شعبان ، ولها أربعة أسماء الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصك ، وليلة القدر. ووصفها بالبركة لما ينزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب. وروى قتادة عن واثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان وأنزلت الزبور لاثنتي عشرة من رمضان وأنزل الإنجيل لثمان عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان" . ثم قيل : أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في هذه الليلة. ثم أنزل نجما نجما في سائر الأيام على حسب اتفاق الأسباب. وقيل : كان ينزل في كل ليلة القدر ما ينزل في سائر السنة. وقيل : كان ابتداء الإنزال في هذه الليلة. وقال عكرمة : الليلة المباركة ها هنا ليلة النصف من شعبان. والأول أصح لقوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1] . قال قتادة وابن زيد : أنزل الله القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة. وهذا المعنى قد مضى في "البقرة" عند قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة : 185] ، ويأتي آنفا إن شاء الله تعالى.
الآية : 4 {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}
قال ابن عباس : يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أوموت أورزق. وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم. وقيل : إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران ، قاله ابن عمر. قال المهدوي : ومعنى هذا القول أمر الله عز وجل الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل. وقال عكرمة : هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وروى عثمان بن المغيرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تقطع الآجال من شعبان"
إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى ". وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا نهارها فإن الله ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا يقول ألا مستغفر فأغفر له ألا مبتلى فأعافيه ألا مسترزق فأرزقه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر "ذكره الثعلبي. وخرج الترمذي بمعناه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ". وفي الباب عن أبي بكر الصديق قال أبو عيسى : حديث عائشة لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثيرة عن عروة عن عائشة ، وسمعت محمدا يضعف هذا الحديث ، وقال : يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة ، والحجاج بن أرطاة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير."
قلت : وقد ذكر حديث عائشة مطولا صاحب كتاب العروس ، واختار أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة النصف من شعبان ، وأنها تسمى ليلة البراءة. وقد ذكرنا قوله والرد عليه في غير هذا الموضع ، وأن الصحيح إنما هي ليلة القدر على ما بيناه. روى حماد بن سلمة قال أخبرنا ربيعة بن كلثوم قال : سأل رجل الحسن وأنا عنده فقال : يا أبا سعيد ، أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي ؟ قال : أي والله الذي لا إله إلا هو ، إنها في كل رمضان ، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها. وقال ابن عباس : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج ؛ يقال : يحج فلان ويحج فلان. وقال في هذه الآية : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وهزه الإبانة لإحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق. وقد ذكرنا هذا المعنى آنفا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر. ومنهم من قال : إنها ليلة النصف من شعبان ؛ وهو باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة : 185] فنص على أن ميقات نزوله رمضان ، ثم عين من زمانه الليل ها هنا بقوله : {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}
فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله ، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها. الزمخشري : "وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر ؛ فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبريل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ؛ ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ؛ ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم : يعطى كل عامل بركات أعماله ؛ فيلقى على ألسنة الخلق مدحه ، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ {نفَرَّق} بالتشديد ، و {يَفْرق} كل على بنائه للفاعل ونصب {كل} ، والفارق الله عز وجل. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه {نفرق} بالنون. و {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} كل شأن ذي حكمة ؛ أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة" .
الآية : 5 {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى : {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} قال النقاش : الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده. وقال ابن عيسى : هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده. وهو مصدر في موضع الحال. وكذلك {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وهما عند الأخفش حالان ؛ تقديرهما : أنزلناه آمرين به وراحمين. المبرد : {أَمْراً} في موضع المصدر ، والتقدير : أنزلناه إنزالا. الفراء والزجاج : {أَمْراً} نصب بـ {يفرق} ، مثل قولك "يفرق فرقا" فأمر بمعنى فرق فهو مصدر ، مثل قولك : يضرب ضربا. وقيل : {يفرق} يدل على يؤمر ، فهو مصدر عمل فيه ما قبله. { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } قال الفراء {رحمة} مفعول بـ {مرسلين} . والرحمة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج : {رحمة} مفعول من أجله ؛ أي أرسلناه للرحمة. وقيل : هي بدل من قول. {أمرا} وقيل : هي مصدر. الزمخشري : {أمرا} نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وكسبه
فخامة بأن قال : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا. وفي قراءة زيد بن علي {أَمْرٌ مِنْ عِنْدِنَا} على هو أمر ، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن {رحمةٌ} على تلك هي رحمة ، وهي تنصر انتصابها بأنه مفعول له.
الآية : 7 - 9 {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}
قوله تعالى : {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قرأ الكوفيون {رب} بالجر. الباقون بالرفع ؛ ردا على قوله : {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وإن شئت على الابتداء ، والخبر لا إله إلا هو. أو يكون خبر ابتداء محذوف ؛ تقديره : هو رب السماوات والأرض. والجر على البدل من {ربك} وكذلك : {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} بالجر فيهما ؛ رواه الشيزري عن الكسائي. الباقون بالرفع على الاستئناف. ثم يحتمل أن يكون هذا الخطاب مع المعترف بأن الله خلق السماوات والأرض ؛ أي إن كنتم موقنين به فاعلموا أن له أن يرسل الرسل ، ويجوز الكتب. ويجوز أن يكون الخطاب مع من لا يعترف أنه الخالق ؛ أي ينبغي أن يعرفوا أنه الخالق ؛ وأنه الذي يحيي ويميت. وقيل : الموقن ها هنا هو الذي يريد اليقين ويطلبه ؛ كما تقول : فلان ينجد ؛ أي يريد نجدا. ويتهم ؛ أي يريد تهامة. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو خالق العالم ؛ فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شيء. و {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يحيي الأموات ويميت الأحياء. {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي مالككم ومالك من تقدم منكم. واتقوا تكذيب محمد لئلا ينزل بكم العذاب. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي ليسوا على يقين فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار في قولهم : إن الله خالقهم ؛ وإنما
يقولونه لتقليد آبائهم من غير علم فهم في شك. وإن توهموا أنهم مؤمنون فهم يلعبون في دينهم بما يعن لهم من غير حجة. وقيل : {يَلْعَبُونَ} يضيفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الافتراء استهزاء. ويقال لمن أعرض عن المواعظ : لاعب ؛ وهو كالصبي الذي يلعب فيفعل ما لا يدري عاقبته.
الآية : 10 {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله تعالى : {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ارتقب معناه انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين ؛ قال قتادة. وقيل : معناه أحفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتى السماء بدخان مبين ؛ ولذلك سمي الحافظ رقيبا. وفي الدخان أقوال ثلاثة : الأول : أنه من أشراط الساعة لم يجيء بعد ، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما يملأ ما بين السماء والأرض ؛ فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام ، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم ، ويضيق أنفاسهم ؛ وهو من آثار جهنم يوم القيامة. وممن قال إن الدخان لم يأت بعد : علي وابن عباس وابن عمرو وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن وابن أبي مليكة وغيرهم. وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة ؛ يأخذ المؤمن منه كالزكمة. ومنفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه ؛ ذكره الماوردي. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : "ما تذكرون" ؟ قالوا : نذكر الساعة ؛ قال : "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات - فذكر - الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم" . في رواية عن حذيفة "إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال"
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|