عرض مشاركة واحدة
  #627  
قديم 10-07-2025, 08:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,805
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ فصلت
من صــ 357 الى صــ 366
الحلقة (627)






قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني في النار فذكره بلفظ الماضي والمراد المستقبل { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ } يعني إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ؛ ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع : "ما من مسلم يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من ذنبه لأنه أول من سن القتل" خرجه الترمذي ، وقيل : هو بمعنى الجنس وبني على التثنية لاختلاف الجنسين. { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ } سألوا ذلك حتى يشتفوا منهم بأن يجعلوهم تحت أقدامهم { لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ } في النار وهو الدرك الأسفل سألوا أن يضعف الله عذاب من كان سبب ضلالتهم من الجن والإنس. وقرأ ابن محيصن والسوسي عن أبي عمرو وابن عامر وأبو بكر والمفضل { أَرِنَا } بإسكان الراء ، وعن أبي عمرو أيضا باختلاسها. وأشبع الباقون كسرتها وقد تقدم في {الأعراف} .
الآية : [30] { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }
الآية : [31] { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ }
الآية : [32] { نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ }
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال عطاء عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ وذلك أن المشركين قالوا ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ؛ فلم يستقيموا. وقال أبو بكر : ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ؛ فاستقام. وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال : "قد قال الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام" قال : حديث غريب. ويروى في هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي معنى { اسْتَقَامُوا } ؛ ففي صحيح مسلم
عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - وفي رواية - غيرك. قال : "قل آمنت بالله ثم استقم" زاد الترمذي قلت : يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال : "هذا" . وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } لم يشركوا بالله شيئا. وروى عنه الأسود بن هلال أنه قال لأصحابه : ما تقولون في هاتين الآيتين { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } و { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } فقالوا : استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة ؛ فقال أبو بكر : لقد حملتموها على غير المحمل { قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } فلم يلتفتوا إلى إله غيره { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ } بشرك { أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر وهو يخطب : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } فقال : استقاموا والله على الطريقة لطاعته ثم لم يرغوا روغان الثعالب. وقال عثمان رضي الله عنه : ثم أخلصوا العمل لله. وقال علي رضي الله عنه : ثم أدوا الفرائض. وأقوال التابعين بمعناها. قال ابن زيد وقتادة : استقاموا على الطاعة لله. الحسن : استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا. وقال سفيان الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الربيع : اعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل بن عياض : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقيل : استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرارا. وقيل : استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. وقال أنس : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : "هم أمتي ورب الكعبة" . وقال الإمام ابن فورك : السين سين الطلب مئل استسقى أي سألوا من الله أن يثبتهم على الدين. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
قلت : وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها : اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا ، وداموا على ذلك. { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ } قال ابن زيد ومجاهد : عند الموت. وقال مقاتل وقتادة : إذا قاموا من قبورهم للبعث. وقال ابن عباس : هي بشرى تكون لهم من
الملائكة في الآخرة. وقال وكيع وابن زيد : البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث. { أَلاَّ تَخَافُوا } أي بـ { أَلاَّ تَخَافُوا } فحذف الجار. وقال مجاهد : لا تخافوا الموت. { وَلا تَحْزَنُوا } على أولادكم فإن الله خليفتكم عليهم وقال عطاء بن أبي رباح : لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول ، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم وقال عكرمة ولا تخافوا أمامكم ، ولا تحزنوا على ذنوبكم. { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
قوله تعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ } قال مجاهد : أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. وقال السدي : أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى ؛ والله ولي المؤمنين ومولاهم. { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ } أي من الملاذ. { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } تسألون وتتمنون. { نُزُلاً } أي رزقا وضيافة من الله الغفور الرحيم. وقد تقدم في {آل عمران} وهو منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلا. وقيل : على الحال. وقيل : هو جمع نازل ، أي لكم ما تدعون نازلين ، فيكون حالا من الضمير المرفوع في { تَدْعُونَ } أو من المجرور في {لَكُمْ} .
الآية : [33] { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
الآية : [34] { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }
الآية : [35] { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
الآية : [36] { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً } هذا توبيخ للذين تواصوا باللغو في القرآن. والمعنى : أي كلام أحسن من القرآن ، ومن أحسن قولا من الداعي إلى الله وطاعته وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول : هذا رسول الله ، هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله ؛ أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه. وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد : نزلت في المؤذنين. قال فضيل بن رفيدة : كنت مؤذنا لأصحاب عبدالله بن مسعود ، فقال لي عاصم بن هبيرة : إذا أذنت فقلت : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، فقل وأنا من المسلمين ؛ ثم قرأ هذه الآية ؛ قال ابن العربي : الأول أصح ؛ لأن الآية مكية والأذان مدني ؛ وإنما يدخل فيها بالمعنى ؛ لا أنه كان المقصود وقت القول ، ويدخل فيها أبو بكر الصديق حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم وقد خنقه الملعون : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } وتتضمن كل كلام حسن فيه ذكر التوحيد والإيمان.
قلت : وقول ثالث وهو أحسنها ؛ قال الحسن : هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله. وكذا قال قيس بن أبي حازم قال : نزلت في كل مؤمن. قال : ومعنى { وَعَمِلَ صَالِحاً } الصلاة بين الأذان والإقامة. وقاله أبو أمامة ؛ قال : صلي ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة : { وَعَمِلَ صَالِحاً } صلى وصام. وقال الكلبي : أدى الفرائض.
قلت : وهذا أحسنها مع اجتناب المحارم وكثرة المندوب. والله أعلم.
قوله تعالى : {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال ابن العربي : وما تقدم يدل على الإسلام ، لكن لما كان الدعاء بالقول والسيف يكون للاعتقاد ويكون للحجة ، وكان العمل يكون للرياء والإخلاص ، دل على أنه لا بد من التصريح بالاعتقاد لله في ذلك كله ، وأن العمل لوجهه.
مسألة : لما قال الله تعالى : { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ولم يقل له اشترط إن شاء الله ، كان في ذلك رد على من يقول أنا مسلم إن شاء الله.
قوله تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } قال الفراء : {لا} صلة أي { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } وأنشد :
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والطيبان أبو بكر ولا عمر
أراد أبو بكر وعمر ؛ أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد ، وما المشركون عليه من الشرك. قال ابن عباس : الحسنة لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك. وقيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة الشرك. وهو الأول بعينه. وقيل : الحسنة المداراة ، والسيئة الغلظة. وقيل : الحسنة العفو ، والسيئة الانتصار. وقال الضحاك : الحسنة العلم ، والسيئة الفحش. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الحسنة حب آل الرسول ، والسيئة بغضهم.
قوله تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } نسخت بآية السيف ، وبقي المستحب من ذلك : حسن العشرة والاحتمال والإغضاء. قال ابن عباس : أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضا : هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك. وكذلك يروى في الأثر : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه. وقال مجاهد : { بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } يعني السلام إذا لقي من يعاديه ؛ وقال عطاء. وقول ثالث ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في الأحكام وهو المصافحة. وفي الأثر : "تصافحوا يذهب الغل" . ولم ير مالك المصافحة ، وقد اجتمع مع سفيان فتكلما فيها فقال سفيان : قد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة ؛ فقال له مالك : ذلك خاص. فقال له سفيان : ما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا ، وما عمه يعمنا ، والمصافحة ثابتة فلا وجه لإنكارها. وقد روى قتادة قال قلت لأنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. وهو حديث صحيح. وفي الأثر : "من تمام المحبة الأخذ باليد" . ومن حديث محمد بن إسحاق وهو إمام مقدم ، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه - والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده - فاعتنقه وقبله.
قلت : قد روي عن مالك جواز المصافحة وعليها جماعة من العلماء. وقد مضى ذلك في {يوسف} وذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما" .
قوله تعالى : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي قريب صديق. قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فصار له وليا بعد أن كان عدوا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام حميما بالقرابة. وقيل : هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام ، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه ؛ ذكره الماوردي. والأول ذكره الثعلبي والقشيري وهو أظهر ؛ لقوله تعالى : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } . وقيل : كان هذا قبل الأمر بالقتال. قال ابن عباس : أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم. وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب فناداه علي يا قنبر دع شاتمك ، وآله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان ، وتعاقب شاتمك ، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. وأنشدوا :
وللكف عن شتم اللئيم تكرما ... أضر له من شتمه حين يشتم
وقال آخر :
وما شيء أحب إلى سفيه ... إذا سب الكريم من الجواب
متاركة السفيه بلا جواب ... أشد على السفيه من السباب
وقال محمود الوراق :
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن كثرت منه لدي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشرف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره ... واتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... إجابته عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا ... تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم
{ وَمَا يُلَقَّاهَا } يعني هذه الفعلة الكريمة والخصلة الشريفة { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا } بكظم الغيظ واحتمال الأذى. وقيل : الكناية في { يُلَقَّاهَا } عن الجنة ؛ أي ما يلقاها إلا الصابرون ؛ والمعنى متقارب. { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي نصيب وافر من الخير ؛ قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد : الحظ العظيم الجنة. قال الحسن : والله ما عظم حظ قط دون الجنة. وقيل الكناية في { يُلَقَّاهَا } عن الجنة أي ما يلقاها إلا الصابرون ؛ والمعنى متقارب
{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ } تقدم في آخر {الأعراف} . { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } من كيده وشره { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لاستعاذتك { الْعَلِيمُ } بأفعالك وأقوالك.
الآية : [37] { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
الآية : [38] { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ }
الآية : [39] { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته { اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وقد مضى في غير موضع. { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ } نهى عن السجود لهما ؛ لأنهما وإن كانا خلقين فليس ذلك لفضيلة لهما في أنفسهما فيستحقان بها العبادة مع الله ؛ لأن خالقهما هو الله
ولو شاء لأعدمهما أو طمس نورهما. { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } وصورهن وسخرهن ؛ فالكناية ترجع إلى الشمس والقمر والليل والنهار. وقيل : للشمس والقمر خاصة ؛ لأن الاثنين جمع. وقيل : الضمير عائد على معنى الآيات { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وإنما أنث على جمع التكثير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر والمؤنث لأنه فيما لا يعقل. { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا } يعني الكفار عن السجود لله { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } من الملائكة { يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ } أي لا يملون عبادته. قال زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
مسألة : هذه الآية آية سجدة بلا خلاف ؛ واختلفوا في موضع السجود منها. فقال مالك : موضعه { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ؛ لأنه متصل بالأمر. وكان علي وابن مسعود وغيرهم يسجدون عند قوله : { تَعْبُدُونَ } . وقال ابن وهب والشافعي : موضعه { وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ } لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال. وبه قال أبو حنيفة. وكان ابن عباس يسجد عند قوله : { يَسْأَمُونَ } . وقال ابن عمر : اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبدالرحمن السلمي وإبراهيم النخعي وأبي صالح ويحيى بن وثاب وطلحة وزبيد الياميين والحسن وابن سيرين. وكان أبو وائل وقتادة وبكر بن عبدالله يسجدون عند قوله : { يَسْأَمُونَ } . قال ابن العربي : والأمر قريب.
مسألة : ذكر ابن خويز منداد : أن هذه الآية تضمنت صلاة كسوف القمر والشمس ؛ وذلك أن العرب كانت تقول : إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف.
قلت : صلاة الكسوف ثابتة في الصحاح البخاري ومسلم وغيرهما. واختلفوا في كيفيتها اختلافا كثيرا ، لاختلاف الآثار ، وحسبك ما في صحيح مسلم من ذلك ، وهو العمدة في الباب. والله الموفق للصواب.
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً } الخطاب لكل عاقل أي { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على أنه يحيي الموتى { أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } أي يابسة جدبة ؛ هذا وصف الأرض بالخشوع ؛ قال النابغة :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
والأرض الخاشعة ؛ الغبراء التي تنبت. وبلدة خاشعة : أي مغبرة لا منزل بها. ومكان خاشع. { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ } أي بالنبات ؛ قال مجاهد. يقال : اهتز الإنسان أي تحرك ؛ ومنه :
تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا
{ وَرَبَتْ } أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت ؛ قال مجاهد. أي تصعدت عن النبات بعد موتها. وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره : ربت واهتزت. والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض ؛ وقد يكونان بعد خروج النبات إلى وجه الأرض ؛ فربوها ارتفاعها. ويقال للموضع المرتفع : ربوة ورابية ؛ فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولا وعرضا. وقرأ أبو جعفر وخالد { وَرَبَأتْ } ومعناه عظمت ؛ من الربيئة. وقيل : { اهْتَزَّتْ } أي استبشرت بالمطر { وَرَبَتْ } أي انتفخت بالنبات. والأرض إذا انشقت بالنبات : وصفت بالضحك ، فيجوز وصفها بالاستبشار أيضا. ويجوز أن يقال الربو والاهتزاز واحد ؛ وهي حالة خروج النبات. وقد مضى هذا المعنى في {الحج} { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تقدم في غير موضع.
الآية : [40] { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
الآية : [41] { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ }
الآية : [42] { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }
الآية : [43] { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ }
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } أي يميلون عن الحق في أدلتنا. والإلحاد : الميل والعدول. ومنه اللحد في القبر ؛ لأنه أميل إلى ناحية منه. يقال : ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل. ولحد لغة فيه. وهذا يرجع إلى الذين قالوا : { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } وهم الذين ألحدوا في آياته ومالوا عن الحق فقالوا : ليس القرآن من عند الله ، أو هو شعر أو سحر ؛ فالآيات آيات القرآن. قال مجاهد : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } أي عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية واللغو والغناء. وقال ابن عباس : هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه. وقال قتادة : {يلحدون في آياتنا} يكذبون في آياتنا. وقال السدي : يعاندون ويشاقون. وقال ابن زيد : يشركون ويكذبون. والمعنى متقارب. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل. وقيل : الآيات المعجزات ، وهو يرجع إلى الأول فإن القرآن معجز. { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } على وجهه وهو أبو جهل في قول ابن عباس وغيره. { خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قيل : النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قاله مقاتل. وقيل : عمار بن ياسر. وقيل : حمزة. وقيل : عمر بن الخطاب. وقيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وقيل : المؤمنون. وقيل : إنها على العموم ؛ فالذي يلقى في النار الكافر ، والذي يأتي آمنا يوم القيامة المؤمن ؛ قاله ابن بحر. { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } أمر تهديد ؛ أي بعد ما علمتم أنهما لا يستويان فلا بد لكم من الجزاء. { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وعيد بتهديد وتوعد.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]