عرض مشاركة واحدة
  #608  
قديم 10-07-2025, 05:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,027
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ ص
من صــ 167 الى صــ 176
الحلقة (608)



قلت : ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن يزيد الرقاشي ، سمع أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال : إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه ، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقدم فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة" . وقال سعيد عن قتادة : كتب إلى زوجها وذلك في حصار عمان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب ، وفيه الموت الأحمر ، فتقدم فقتل. وقال الثعلبي قال قوم من العلماء : إنما امتحن الله داود بالخطيئة ؛ لأنه تمنى يوما على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم ، ويعطيه نحو ما أعطاهم. وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام ، يوم يقضي فيه بين الناس ، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه ، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال : يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي ، فأوحى الله تعالى إليه : إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها غيرهم فصبروا عليها ؛ ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه ، وابتلي إسحاق بالذبح ، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك. فقال داود عليه السلام : فابتلني بمثل ما ابتليتهم ، وأعطني مثل ما أعطيتهم ، فأوحى الله تعالى إليه : إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة. فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه ، وجعل يصلي ويقرأ الزبور. فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب ، فيها من كل لون حسن ، فوقف بين رجليه ، فمد يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير ، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها ، فامتد إليها ليأخذها فتنحت ، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة ، فذهب ليأخذها فطارت ونظر داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها ، فنظر امرأة في بستان على شط بركة
تغتسل ؛ قاله الكلبي. وقال السدي : تغتسل عريانة على سطح لها ؛ فرأى أجمل النساء خلقا ، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها ، فزاده إعجابا بها. وكان زوجها أوريا بن حنان ، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود ، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا ، وقدمه قبل التابوت ، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد. فقدمه ففتح له فكتب إلى داود يخبره بذلك. قال الكلبي : وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود ، وكان إذا ضرب ضربة وكبر كبر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، وكبرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش ، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره. قال : وكان. سيوف الله ثلاثة ؛ كالب بن يوفنا في زمن موسى ، وأوريا في زمن داود ، وحمزة بن عبدالمطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه : أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت ؛ ففتح الله عليه ، فقتل في الثالث شهيدا. فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدتها. فهي أم سليمان بن داود. وقيل : سبب امتحان داود عليه السلام أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم بغير مقارفة شيء. قال الحسن : إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء ؛ جزء لنسائه ، وجزءا للعبادة ، وجزءا لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم ، ويوما للقضاء. فتذاكروا هل يمر على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك ؛ فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته ، وأمر ألا يدخل عليه أحد ، وأكب على قراءة الزبور ، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه. وذكر نحو ما تقدم قال علماؤنا : وفي هذا دليل وهي :
الثانية- على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم ، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولا بالعبادة. وقد مضى هذا المعنى في "النساء" . وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما. وقد قال عليه السلام
لعبدالله بن عمر : "إن لزوجك عليك حقا..." الحديث. وقال الحسن أيضا ومجاهد : إن داود عليه السلام قال لبني إسرائيل حين استخلف : والله لأعدلن بينكم ، ولم يستثن فابتلي بهذا. وقال أبو بكر الوراق : كان داود كثير العبادة فأعجب بعمله وقال : هل في الأرض أحد يعمل كعملي. فأرسل الله إليه جبريل ؛ فقال : إن الله تعالى يقول لك : أعجبت بعبادتك ، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب ، فإن أعجبت ثانية وكلتك إلى نفسك. قال : يا رب كلني إلى نفسي سنة. قال : إن ذلك لكثير. قال : فشهرا. قال : إن ذلك لكثير. قال : فيوما. قال : إن ذلك لكثير. قال : يا رب فكلني إلى نفسي ساعة. قال : فشأنك بها. فوكل الأحراس ، ولبس الصوف ، ودخل المحراب ، ووضع الزبور بين يديه ؛ فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه ، فكان من أمر المرأة ما كان. وقال سفيان الثوري : قال داود ذات يوم : يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم ، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم. فأوحى الله إليه : يا داود منك ذلك أو مني ؟ وعزتي لأكلنك إلى نفسك. قال : يا رب اعف عني. قال : أكلك إلى نفسك سنة. قال : لا بعزتك. قال : فشهرا. قال : لا بعزتك. قال : فأسبوعا. قال : لا بعزتك. قال : فيوما. قال : لا بعزتك. قال : فساعة. قال : لا بعزتك. قال : فلحظة. فقال له الشيطان : وما قدر لحظة. قال : كلني إلى نفسي لحظة. فوكله الله إلى نفسه لحظة. وقيل له : هي في يوم كذا في وقت كذا. فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة ، ووكل الأحراس حول مكانه. قيل : أربعة آلاف. وقيل : ثلاثين ألفا أو ثلاثة وثلاثين ألفا. وخلا بعبادة ربه ، ونشر الزبور بين يديه ، فجاءت الحمامة فوقعت له ، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان. وأرسل الله عز وجل إليه الملكين بعد ولادة سليمان ، وضربا له المثل بالنعاج ؛ فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخر ساجدا أربعين ليلة على ما يأتي.
الثالثة- قوله تعالى : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم. وقيل : لدخولهم عليه بغير إذنه. وقيل : لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب.
قال ابن العربي : وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع ، بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته ، مع أعوان يكثر عددهم ، وآلات جمة مختلفة الأنواع. ولو قلنا : إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك : { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها ، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا ؛ وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان ؛ لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي. قال الثعلبي : وقد قيل : كان المتسوران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم. فلما قضى داود بينهما بقضية قال له ملك من الملائكة : فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود. قال الثعلبي : والأول أحسن أنهما كانا ملكين نبها داود على ما فعل.
قلت : وعلى هذا أكثر أهل التأويل. فإن قيل : كيف يجوز أن يقول الملكان { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } وذلك كذب والملائكة عن مثله منزهون. فالجواب عنه أنه لا بد في الكلام من تقدير ؛ فكأنهما قالا : قدرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ، وعلى ذلك يحمل قولهما : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل ؛ والله أعلم.
الرابعة- إن قيل : لم فزع داود وهو نبي ، وقد قويت نفسه بالنبوة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة ؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذية ومنهما كان يخاف. ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } فقال الله عز وجل : { لا تَخَافَا } . وقالت الرسل للوط : لا تخف { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } وكذا قال الملكان هنا : { لا تَخَفْ } . قال محمد بن إسحاق : بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه - مثلا ضربه الله ولأوريا فرآهما واقفين على رأسه ؛ فقال : ما أدخلكما علي ؟ قالا : { لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } فجئناك لتقضي بيننا.
الخامسة- قال ابن العربي : فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما ، وهلا أدبهما وقد دخلا عليه بغير إذن ؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه : الأول : أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن ، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا في هذه الأحكام ، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان. الثاني : أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب ، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له. الثالث : أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه ، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا ؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه ؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة ، ومثل ضربه الله في القصة ، وأدب وقع على دعوى العصمة. الرابع : أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد.
قلت : وقول خامس ذكره القشيري ؛ وهو أنهما قالا : لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب ، توصلنا إلى الدخول بالتسور ، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا. فقبل داود عذرهم ، وأصغى إلى قولهم.
السادسة- قوله تعالى : { خَصْمَانِ } إن قيل : كيف قال : { خَصْمَانِ } وقبل هذا : { إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } فقيل : لأن الاثنين جمع ؛ قال الخليل : كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي : جمع لما كان خبرا ، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة ، خبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان. وقال الزجاج : المعنى نحن خصمان. وقال غيره : القول محذوف ؛ أي يقول : { َخَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } قال الكسائي : ولو كان بغى بعضهما على بعض ، لجاز. الماوردي : وكانا ملكين ، ولم يكونا خصمين ولا باغيين ، ولا يتأتى منهما كذب ؛ وتقدير كلامهما ما تقول : إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. وقيل : أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع. ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة
مع كل واحد من الفريق الآخر ، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان ، فعرف داود بذكر النكاح القصة. وأغنى ذلك عن التعرض للخصومات الأخر. والبغي التعدي والخروج عن الواجب. يقال : بغى الجرح إذا أفرط وجعه وترامى ، إلى ما يفحش ، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة.
السابعة- قوله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ } أي لا تجُر ؛ قال السدي. وحكى أبو عبيد : شططت عليه وأشططت أي جرت. وفي حديث تميم الداري : "إنك لشاطي" أي جائر علي في الحكم. وقال قتادة : لا تمل. الأخفش : لا تسرف. وقيل : لا تفرط. والمعنى متقارب. والأصل فيه البعد من شطت الدار أي بعدت ؛ شطت الدار تشط وتشط شطا وشطوطا بعدت. وأشط في القضية أي جار ، وأشط في السوم واشتط أي أبعد ، وأشطوا في طلبي أي امعنوا. قال أبو عمرو : الشطط مجاوزة القدر في كل شيء. وفي الحديث : "لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط" أي لا نقصان ولا زيادة. وفي التنزيل : { لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي جورا من القول وبعدا عن الحق. { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } أي أرشدنا إلى قصد السبيل.
الثامنة- قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا { إِنَّ هَذَا أَخِي } أي على ديني ، وأشار إلى المدعى عليه. وقيل : أخي أي صاحبي. { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } وقرأ الحسن : { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة ، وهي الصحيحة من قراءة الحسن ؛ قال النحاس. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة ؛ لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة ، لأن الكل مركوب. قال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاث هنَّه ... رابعة في البيت صغراهنه
ونعجتي خمسا توفيهنه ... ألا فتى سمح يغذيهنه
طي النقا في الجوع يطويهنه ... ويل الرغيف ويله منهنه
وقال عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي ... فتجسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة ... والشاة ممكنة لمن هو مرتم
فكأنما التفتت بجيد جداية ... رشأ من الغزلان حر أرثم
وقال آخر :
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء. قال الحسين بن الفضل : هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا ، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق ، كأنه قال : نحن خصمان هذه حالنا. قال أبو جعفر النحاس : وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى : يقول : خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة ؛ كما تقول : رجل يقول لامرأته كذا ، ما يجب عليه ؟
قلت : وقد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره : "هو لك يا عبد بن زمعة" على نحو هذا ؛ قال المزني : يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى ، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد ، ولا على زمعة قول ابنه إنه ولد زنى ، لأن كل ، واحد منهما أخبر عن غيره. وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في ، قصة داود والملائكة ؛ إذ دخلوا عليه ففزع منهم ، قالوا : لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين ، ولاكان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة ، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
حكم في هذه القصة على المسألة ، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث ؛ فإنه عندي صحيح. والله أعلم.
التاسعة- قال النحاس : وفي قراءة ابن مسعود { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى} و {كان} هنا مثل قول عز وجل : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } فأما قوله : {أنثى} فهو تأكيد ، كما يقال : هو رجل ذكر وهو تأكيد. وقيل : لما كان يقال هذه مائة نعجة ، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير ، جاز أن يقال : أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها. وفي التفسير : له تسع وتسعون امرأة. قال ابن العربي : إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه ، وإن كن إماء فذلك شرعنا. والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورا بعدد ، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، لضعف الأبدان وقلة الأعمار. وقال القشيري : ويجوز أن يقال : لم يكن له هذا العدد بعينه ، ولكن المقصود ضرب مثل ، كما تقول : لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك ، أي مرارا كثيرة. قال ابن العربي : قال بعض المفسرين : لم يكن لداود مائة امرأة ، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا ؛ المعنى : هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها. وهذا فاسد من ، وجهين : أحدهما : أن العدول عن الظاهر بغير دليل ، لا معنى له ، ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا. الثاني : أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال : "لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله" وهذا نص
قوله تعالى : { وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } أي امرأة واحدة : { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي أنزل لي عنها حتى أكفلها. وقال ابن عباس : أعطنيها. وعنه : تحول لي عنها. وقال ابن مسعود. وقال أبو العالية : ضمها إلي حتى أكفلها. وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ونصيبي. { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي غلبني. قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني. يقال : عزه يعزه بضم العين في المستقبل عزا غلبه. وفي المثل : من عزيز ؛ أي من غلب سلب. والاسم العزة وهي القوة والغلبة. قال الشاعر :
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
وقرأ عبدالله بن مسعود وعبيد بن عمير : { وَعَازَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي غالبني ؛ من المعازة وهي المغالبة ؛ عازه أي غالبه. قال ابن العربي : واختلف في سبب الغلبة ؛ فقيل : معناه غلبني ببيانه. وقيل : غلبني بسلطانه ؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. كان ببلادنا أمير يقال له : سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها. فقلت : أما إذا كان عدلا فلا. فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته ، كما عجب من جوابي له واستغربه.
الحادية عشرة- قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } قال النحاس : فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام ؛ لأنه قال : لقد ظلمك من غير تثبت ببينة ، ولا إقرار من الخصم ؛ هل كان هذا كذا أولم يكن. فهذا قول.
وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا ، وهو حسن إن شاء الله تعالى. وقال أبو جعفر النحاس : فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم ؛ منهم عبدالله بن مسعود وابن عباس ، فإنهم قالوا : ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر : فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه ، وليس هذا بكبير من المعاصي ، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم ، ويلحقه فيه إثم عظيم. كذا قال : في كتاب إعراب القرآن. وقال : في كتاب معاني القرآن له بمثله. قال رضي الله عنه : قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا ، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده ، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها. وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبدالله بن مسعود قال : ما زاد داود عليه السلام على أن قال : { أَكْفِلْنِيهَا } أي انزل لي عنها. وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال : ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال : { أَكْفِلْنِيهَا } أي تحول لي عنها وضمها إلي. قال أبو جعفر : فهذا أجل ما روي في هذا ، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته ، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته ، فنبهه الله
عز وجل على ذلك ، وعاتبه لما كان نبيا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها ، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. قال ابن العربي : وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا ؛ فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه ، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه : انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك ، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة ؛ كانت في الأهل أو في المال. وقد قال سعيد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما : إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما ؛ فقال له : بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه ، وليس في القرآن أن ذلك كان ، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها ، ولا ولادتها لسليمان ، فعمن يروى هذا ويسند ؟ ! وعلى من في نقله يعتمد ، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد. أما أن في سورة {الأحزاب} نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة ، وذلك قوله : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } يعني في أحد الأقوال : تزويج داود المرأة التي نظر إليها ، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ؛ إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال الزوج في فراق ، بل أمره بالتمسك بزوجته ، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها. فكانت ، هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم. ولكن قد قيل : إن معنى { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق. وقيل : أراد بقوله : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره. وهذا أصح الأقوال. وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة ؛ وهذا نص القرآن. وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية ؛ وربك أعلم.وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } الآية : ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر ، أن داود عليه




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.62 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]