
09-07-2025, 01:08 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,583
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُفاطر
من صــ 336 الى صــ 345
الحلقة (589)
من مطر السماء. وقال محمد بن يزيد قولا رابعا ، قال : إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة. النحاس : وهذا أحسنها وليس هذا عنده ، لأنهما مختلطان ، ولكن جمعا ثم أخبر عن أحدهما كما قال جل وعز : { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } وكما تقول : لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرا وشرا. وكما تقول : لو رأيت الأعمش وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا. فقد عرف معنى هذا ، وهو كلام فصيح كثير ، فكذا : { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني.
الثالث- وفي قوله : { تَلْبَسُونَهَا } ، دليل على أن لباس كل شيء بحسبه ؛ فالخاتم يجعل في الإصبع ، والسوار في الذراع ، والقلادة في العنق ، والخلخال في الرجل. وفي البخاري والنسائي عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة : افتراش الحرير كلبسه ؟ فال نعم. وفي ، الصحاح عن أنس "فقمت على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس" . الحديث.
قوله تعالى : { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } قال النحاس : أي ماء الملح خاصة ، ولولا ذلك لقال فيهما. وقد مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء. وقد مضى هذا في {النحل} . { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } فال مجاهد : التجارة في الفلك إلى البلدان البعيدة : في مدة قريبة ؛ كما تقدم في {البقرة} . وقيل : ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه. { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } على ما آتاكم من فضله. وقيل : على ما أنجاكم من هوله.
الآية : [13] { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }
قوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } تقدم. { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً } تقدم في {لقمان} بيانه.
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر ، والقادر المقتدر ؛ فهو الذي يعبد. { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } يعني الأصنام. { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه. والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة ؛ قاله أكثر المفسرين. وقال ابن عباس : هو شق النواة ؛ وهو اختيار المبرد ، وقال قتادة. وعن قتادة أيضا : القطمير القمع الذي على رأس النواة. الجوهري : ويقال : هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة ، تنبت منها النخلة.
الآية : [14] { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }
قوله تعالى : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. { وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا } إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة : المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل : أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم ، ولما استجابوا لكم على الكفر. { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي يجحدون أنكم عبدتموهم ، ويتبرؤون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل ؛ كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا ، وأنهم أمروكم بعبادتهم ؛ كما أخبر عن عيسى بقوله : { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا ، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة. {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } هو الله جل وعز ؛ أي لا أحد يخبر بخلق الله من الله ، فلا ينبئك مثله في عمله.
الآية : [15] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري : "فإن قلت لم عرف الفقراء ؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : { وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً } ، وقال : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ } ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء. فإن قلت : قد قوبل {الفقراء} بـ {الغنيّ} فما فائدة {الحميد} ؟ قلت : لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم ، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحج ذكر {الحميد} ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه ، الجواد المنعم عليهم ، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه" . وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل ، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } تكون {هو} زائدة ، فيكون لها موضع من الإعراب ، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
الآية : [16] { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }
الآية : [17] { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }
قوله تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } فيه حذف ؛ المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم ؛ أي يفنيكم. { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي أطوع منكم وأزكى. { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى.أممتنع عسير تعذر .وقد مضى هذا في {إبراهيم}
الآية : [18] { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
تقدم الكلام فيه ، وهو مقطوع مما قبله. والأصل {تَوزَر} حذفت الواو اتباعا ليزر. {وازِرةٌ} نعت لمحذوف ، أي نفس وازرة. وكذا { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } قال الفراء : أي نفس مثقلة أو دابة. قال : وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر ، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة ؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } التقدير على قول الأخفش : ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه ، ومثله { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } فتكون { كان } بمعنى وقع ، أو يكون الخبر محذوفا ؛ أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه : الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير ؛ على هذا. وخيرا فخير ؛ على الأول. وروي عن عكرمة أنه قال : بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له : ألم أكن قد أسديت إليك يدا ، ألم أكن قد أحسنت إليك ؟ فيقول بلى. فيقول : أنفعني ؛ فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص ، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول : ألم أكن بك بارا ، وعليك مشفقا ، وإليك محسنا ، وأنت ترى ما أنا فيه ، فهب لي حسنة من حسناتك ، أو احمل عني سيئة ؛ فيقول : إن الذي سألتني يسير ؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته : ألم أكن أحسن العشرة لك ، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو ؛ فتقول : إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } . وقال الفضيل بن عياض : هي المرأة تلقى ولدها فتقول : يا ولدي ، ألم يكن بطني لك وعاء ، ألم يكن ثديي لك سقاء ، ألم يكن حجري لك وطاء ؛ يقول : بلى يا أماه ؛ فتقول : يا بني ، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا ؛ فيقول : إليك عني يا أماه ، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله تعالى : { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى ، وهو كقوله تعالى : { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } .
قوله تعالى : { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ : {ومن فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي إليه مرجع جميع الخلق.
الآية : [19] { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ }
الآية : [20] { وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ }
الآية : [21] { وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ }
الآية : [22] { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ }
قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } { وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ } قال الأخفش سعيد : { وَلا } زائدة ؛ والمعنى ولا الظلمات والنور ، ولا الظل والحرور. قال الأخفش : والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار ، والسموم يكون بالليل ، أو قيل بالعكس. وقال رؤبة بن العجاج : الحرور تكون بالنهار خاصة ، والسموم يكون بالليل خاصة ، حكاه المهدوي. وقال الفراء : السموم لا يكون إلا بالنهار ، والحرور يكون فيهما. النحاس : وهذا أصح ؛ لأن الحرور فعول من الحر ، وفيه معنى التكثير ، أي الحر المؤذي.
قلت : وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم" . وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة : "فما تجدون من الحر فمن"
سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها "وهذا يجمع تلك الأقوال ، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار ؛ فتأمله. وقيل : المراد بالظل والحرور الجنة والنار ؛ فالجنة ذات ظل دائم ، كما قال تعالى : { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } والنار ذات حرور ، وقال معناه الذي. وقال ابن عباس : أي ظل الليل ، وحر السموم بالنهار. قطرب : الحرور الحر ، والظل البرد . { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ } قال ابن قتيبة : الأحياء العقلاء ، والأموات الجهال. قال قتادة : هذه كلها أمثال ؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم ؛ أي كما لا تسمع من مات ، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون : { ِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } بحذف التنوين تخفيفا ؛ أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه."
الآية : [23] { إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ }
أي رسول منذر ؛ فليس عليك إلا التبليغ ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
الآية : [24] { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ }
قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً } أي بشيرا بالجنة أهل طاعته ، ونذيرا بالنار أهل معصيته. { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج : إلا العرب.
الآية : [25] { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
الآية : [26] { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
قوله تعالى : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ } يعني كفار قريش. { فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أنبياءهم ، يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم. { جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. { وَبِالزُّبُرِ } أي الكتب المكتوبة. { وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل : يرجع البينات والزبر والكتاب إلى ، معنى واحد ، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في {نكيري} حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين ، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله ، والحمد لله.
الآية : [27] { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }
الآية : [28] { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } هذه الرؤية رؤية القلب والعلم ؛ أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل ؛ فـ { أَنَّ } واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } هو من باب تلوين الخطاب. { مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } نصبت { مُخْتَلِفاً } نعتا لـ { ثَمَرَاتٍ } . { أَلْوَانُهَا } رفع بمختلف ، وصلح أن يكون نعتا ل. { ثَمَرَاتٍ } لما دعا عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن
رفعه ؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه. { بِهِ } أي بالماء وهو واحد ، والثمرات مختلفة. { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } الجدد جمع جدة ، وهي الطرائق المختلفة الألوان ، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش : ولو كان جمع جديد لقال : جدد "بقسم الجيم والدال" نحو سرير وسرر. وقال زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ... طاو ويرتفع بعد الصيف عريانا
وقيل : إن الجدد القطع ، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ؛ حكاه ابن بحر قال الجوهري : والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة ، والجمع جدد ؛ قال تعالى : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم : ركب فلان جدة من الأمر ؛ إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد : فيه خطوط مختلفة. الزمخشري : وقرأ الزهري { جُدَدٌ } بالضم جمع جديدة ، هي الجدة ؛ يقال : جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسربها قول أبي ذؤيب :
جون السراة له جدائد أربع
وروي عنه {جَدَد } بفتحتين ، وهو الطريق الواضح المسفر ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ } وقرئ : { وَالدَّوَابِّ } مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ : { وَلا الضَّألِّينَ } لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين ، فحرك ذلك أولهما ، وحذف هذا آخرهما ؛ قاله الزمخشري. { وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك ، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال : { مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } فذكر الضمير مراعاة لـ {من} ؛ قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش : إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى {ما} مضمرة ؛ مجازه : ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه ، أي أبيض وأحمر وأسود. { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قال أبو عبيدة : الغربيب الشديد السواد ؛ ففي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : ومن الجبال
سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب : أسود غربيب. قال الجوهري : وتقول هذا أسود غربيب ؛ أي شديد السواد. وإذا قلت : غرابيب سود ، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس :
العين طامحة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما :
ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... يعصر منها ملاحي وغربيب
قوله تعالى : { كَذَلِكَ } هنا تمام الكلام ؛ أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية ، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته ؛ فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية ، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } قال : الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد : إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود : كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد بن إبراهيم : من أفقه أهل المدينة ؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال : إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال : إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط
الناس من رحمة الله ، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره ؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا علم لا فقه فيه ، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية - { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل. قال الدارمي : وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال : إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل ، ويتفقهون لغير العبادة ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، ويلبسون جلود الضأن ، قلوبهم أمر من الصبر ؛ فبي يغترون ، وإياي يخادعون ، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب. الزمخشري : فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ } بالرفع { مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ } بالنصب ، وهو عمر بن عبدالعزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية ، لدلاله على عقوبة العصاة وقهرهم ، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى."
الآية : [29] { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }
الآية : [30] { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|