
09-07-2025, 01:05 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,687
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُفاطر
من صــ 326 الى صــ 335
الحلقة (588)
عربي طريف لا يعرفه إلا قليل. وذكره الزمخشري عن الزجاج. قال النحاس : والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية ، لما ذكره من الدلالة على المحذوف ، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم ، كما قال جل وعز : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } قال أهل التفسير : قاتل. قال نصر ابن علي : سألت الأصمعي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن : "هم أرق قلوبا وأبخع طاعة" ما معنى أبخع ؟ فقال : أنصح. فقلت له : إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } : معناه قاتل نفسك. فقال : هو من ذاك بعينه ، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه. وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير ، مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقيل : الجواب محذوف ؛ المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي ، ويكون يدل على هذا المحذوف {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . وقرأ يزيد بن القعقاع : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ } وفي { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } أربعة أقوال ، أحدها : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ؛ قال أبو قلابة. ويكون ، { سُوءُ عَمَلِهِ } معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني : أنهم الخوارج ؛ رواه عمر بن القاسم. يكون "سوء عمله" تحريف التأويل. الثالث : الشيطان ؛ قال الحسن. ويكون { سُوءُ عَمَلِهِ } الإغواء. الرابع : كفار قريش ؛ قاله الكلبي. ويكون { سُوءُ عَمَلِهِ } الشرك. وقال : إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب. وقال غيره : نزلت في أبي جهل بن هشام. { فَرَآهُ حَسَناً } أي صوابا ؛ قال الكلبي. وقال : جميلا.
قلت : والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال ؛ لقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وقوله : { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } وقال : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } وقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ،
وقوله في هذه الآية : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } وهذا ظاهر بين ، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم ، فإن الله أضلهم. وهذه الآية ترد على القدرية قولهم على ما تقدم ؛ أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا تريد أن تهديه ، وإنما ذلك إلى الله لا إليك ، والذي إليك هو التبليغ. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن : { فَلا تَذْهَبْ } بضم التاء وكسر الهاء { نَفْسَكَ } نصبا على المفعول ، والمعنيان متقاربان. { حَسَرَاتٍ } منصوب مفعول من أجله ؛ أي فلا تذهب نفسك للحسرات. و { عَلَيْهِمْ } صلة {تذهب} ، كما تقول : هلك عليه حبا ومات عليه حزنا. وهو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات ؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر ؛ كما قال جرير :
مَشَقَ الهواجر لحمَهن مع السُّرى ... حتى ذهبن كلاكلا وصدورا
يريد : رجعن كلاكلا وصدورا ؛ أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر :
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام
أو مصدرا. { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
الآية : [9] { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }
قوله تعالى : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ } ميّت وميْت واحد ، وكذا ميتة وميتة ؛ هذا قول الحذاق من النحويين. وقال محمد بن يزيه : هذا قول البصريين ، ولم يستثن أحدا ، واستدل على ذلك بدلائل قاطعة. وأنشد :
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميْت ميّت الأحياء
إنما المت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء
قال : فهل ترى بين ميت وميت فرقا ، وأنشد :
هينون لينون أيسار بنو يَسَر ... سواس مكرمة أبناء أيسار
قال : فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد ، وكذا ميّت وميْت ، وسيد وسيد. قال : { فَسُقْنَاهُ } بعد أن قال : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ } وهو من باب تلوين الخطاب. وقال ابن عبيدة : سبيله {فَتَسُوقُه} ، لأنه قال : { فَتُثِيرُ سَحَاباً } . الزمخشري : فإن قلت : لم جاء { فَتُثِيرُ } على المضارعة دون ما قبله وما بعده ؟ قلت : لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب ، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة الربانية ؛ وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب ، أو تهم المخاطب أو غير ذلك ؛ كما قال تأبط شرا :
بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب. من جرأته على كل هول ، وثباته عند كل شدة وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : {فسقنا} و {أحيينا} معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. وقراءة العامة {الرياح} . وقرأ ابن محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي {الريح} توحيدا. وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفى . { كَذَلِكَ النُّشُورُ } أي كذلك تحيون بعدما متم ؛ من نشر الإنسان نشورا. فالكاف في محل الرفع ؛ أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات. وعن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : "أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا" قلت : نعم يا رسول الله. قال "فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه" وقد ذكرنا هذا الخبر في "الأعراف" وغيرها.
الآية : [10] { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }
قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } التقدير عند الفراء : من كان يريد علم العزة. وكذا قال غيره من أهل العلم. أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها ؛ لأن العزة إذا كانت تودى إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة ، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل. { جَمِيعاً } منصوب على الحال. وقدر الزجاج معناه : من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا.
قلت : وهذا أحسن ، وروي مرفوعا على ما يأتي. { فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته ، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره ؛ فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك ، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس : { وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ } ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق ؛ فتكون الألف واللام للاستغراق ، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل ، وسكون وخضوع ، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "من تواضع لله رفعه الله" . ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } . فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء. وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لقوله مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً : "من أراد عز الدارين فليطع العزيز . وهذا معنى قول الزجاج. ولقد أحسن من قال :"
وإذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به ؛ فإنه من اعتز بالعبد أذل الله ، ومن اعتز بالله أعزه الله.
قوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وتم الكلام. ثم تبتدئ { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } على معنى : يرفعه الله ، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ؛ فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه. والصعود هو الحركة إلى فوق ، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض ، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله ؛ لأن موضع الثواب فوق ، وموضع العذاب أسفل. وقال الزجاج : يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه ؛ فهو بمعنى العلم. وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه. وقوله { إِلَيْهِ } أي إلى الله يصعد. وقيل : يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم. وقيل : أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء. و { الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة. وقيل : هو التحميد والتمجيد ، وذكر الله ونحوه. وأنشدوا :
لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفع : قول بلا عمل ، كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر. وفيه قيل :
لا يكون المقال إلا بفعل ... كل قول بلا فعالٍ هباء
إن قولا بلا فعال جميل ... ونكاحا بلا ولي سواء
وقرأ الضحاك {يُصعد} بضم الياء. وقرأ. جمهور الناس {الِكلم} جمع كلمة. وقرأ أبو عبدالرحمن {الكلام} .
قلت : فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس ؛ وعليه يخرج قول أبي القاسم : أقسام الكلام ثلاثة ؛ فوضع الكلام موضع الكلم ، والله أعلم. "والعمل الصالح يرفعه" قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وفي الحديث "لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة" . قال ابن عباس : فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ابن قوله على عمله. قال ابن عطية : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه ، وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح ، وإنما يستقيم قول من يقول : إن العمل هو الرافع للكلم ، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه. كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك ، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف ؛ فيكون قوله : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها ؛ كالتوحيد والتسبيح فمقبولة. قال ابن العربي : "إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع ؛ لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه. وتحقيق هذا : أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا ، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له ، وعمله السيء يكتب عليه ، وتقع الموازنة بينهما ، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران" .
قلت : ما قال ابن العربي تحقيق. والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب. وقد جاء في الآثار "أن العبد إذا قال : لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة"
إلى عمله ، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا ، وإن كان عمله. مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله ". فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله. والكناية في { يَرْفَعُهُ } ترجع إلى الكلم الطيب. وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك. وعلى أن { الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } هو التوحيد ، فهو الرافع للعمل الصالح ؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد. أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ؛ فالكناية تعود على العمل الصالح. وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال : { الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } القرآن { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } القرآن. وقيل : تعود على الله جل وعز ؛ أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب ؛ لأن العمل تحقيق الكلم ، والعامل أكثر تعبا من القائل ، وهذا هو حقيقة الكلام ؛ لأن الله هو الرافع الخافض. والثاني والأول مجاز ، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس : القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به ، وأنه في العربية أولى ؛ لأن القراء على رفع العمل. ولو كان المعنى : والعمل الصالح يرفعه الله ، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ، لكان الاختيار نصف العمل. ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى ، بن عمر أنه قال : قرأه أناس { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الله } . وقيل : والعمل الصالح يرفع صاحبه ، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى ؛ ذكره القشيري."
الثانية- ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة ، فقرأ هذه الآية : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } . وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم ، "وقد دخل في الصلاة بشروطها ، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك ؛ من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع. وقد تعلق من رأى ، ذلك بقوله عليه السلام :" يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود "فقلت : ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر ؟ فقال :" إن الأسود شيطان "خرجه مسلم. وقد"
جاء ما يعارض هذا ، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء ؟ فقال : لا يقطعها شيء ، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل ، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } ذكر الطبري في "كتاب آداب النفوس" : حدثني يونس بن عبدالأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } قال : هم أصحاب الرياء ؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال أبو العالية : هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي : يعني الذين يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل : يعني الشرك ، فتكون {ا السَّيِّئَاتِ } مفعولة. ويقال : بار يبور إذا هلك وبطل. وبارت السوق أي كسدت ، ومنه : نعوذ بالله من بوار الأيم. وقوله : { وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً } أي هلكى. والمكر : ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وقد مضى في {سبأ} .
الآية : [11] { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } قال سعيد عن قتادة قال : يعني آدم عليه السلام ، والتقدير على هذا : خلق أصلكم من تراب. { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } قال : أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } قال : أي زوج بعضكم بعضا ، فالذكر زوج الأنثى ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدتها. وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ
إِلاَّ بِعِلْمِهِ أي جعلكم أزواجا فيتزوج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله ، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به ، فلا يخرج شيء عن تدبيره. { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } سماه معمرا بما هو صائر إليه. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } إلا كتب عمره ، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر : نقص من عمره يوم ، نقص شهر ، نقص سنة ، حتى يستوفي أجله. وقال سعيد بن جبير أيضا ، قال : فما مضى من أجله فهو النقصان ، وما يستقبل فهو الذي يعمره ؛ فالهاء على هذا للمعمر. وعن سعيد أيضا : يكتب عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، حتى يأتي على آخره. وعن قتادة : المعمر من بلغ ستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. ويذهب الفراء في معنى { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } أي ما يكون من عمره { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } بمعنى آخر ، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب. فالكناية في { عُمُرِهِ } ترجع إلى آخر غير الأول. وكنى عنه بالهاء كأنه الأول ، ومثله قولك : عندي درهم ونصفه ، أي نصف أخر. وقيل : إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع ، وتسعين إن عصى ، فأيهما بلغ فهو في كتاب. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام : "من أحب أن يبسط له في زرقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ : عمر فلان كذا سنة ، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة. فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } والكناية على هذا ترجع إلى العمر. وقيل : المعنى وما يعمر من معمر أي هرم ، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب ؛ أي بقضاء من الله جل وعز. روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس ، قال : وهو أشبهها بظاهر التنزيل. وروي نحوه عن ابن عباس. فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر ، ويجوز أن تكون لغير
المعمر { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه. وقراءة العامة { يُنْقَصُ } بضم الياء وفتح القاف وقرأت فرقة منهم يعقوب { يَنْقَصُ } بفتح الياء وضم القاف ، أي لا ينقص من عمره شيء. يقال ، نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره ، وزاد بنفسه وزاده غيره ، متعد ولازم. وقرأ الأعرج والزهري {مِن عُمْره} بتخفيف الميم وضمها الباقون. وهما لغتان مثل السحْق والسحُق. و { يَسِيرٌ } أي إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شيء منها ولا يعزب. والفضل منه : يسر ولو سميت به إنسانا انصرف ؛ لأنه فعيل.
الآية : [12] { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } فيه أربع مسائل :
الأولى- قال ابن عباس : { فُرَاتٌ } حلو ، و { أُجَاجٌ } مر. وقرأ طلحة : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف. وأما المالح فهو الذي يجعل فيه الملح. وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق { سَيغ شَرَابُهُ } مثل سيد وميت. { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } لا اختلاف في أنه منهما جميعا. وقد مضى في {النحل} الكلام فيه.
الثانية- قوله تعالى : { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح ، فقيل منهما لأنهما مختلطان. وقال غيره : إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون ، فهو مأخوذ منهما ؛ لأن في البحر عيونا عذبة ، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج. وقيل :
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|