
08-07-2025, 03:31 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,863
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ الروم
من صــ 26 الى صــ 35
الحلقة (558)
قلت : قد مضى قول كعب هذا في {الأعراف} وجاء معناه مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه ، قال : "أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم" خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبدالله بن عمرو قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال : "أتدرون ما هذان الكتابان" ؟ فقلنا : لا يا رسول الله ، إلا أن تخبرنا ؛ فقال للذي في يده اليمنى : "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا." وذكر الحديث ، وقال فيه : حديث حسن. وقالت فرقة : ليس المراد بقوله تعالى : {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ولا قوله عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة" العموم ، وإنما المراد بالناس المؤمنون ؛ إذا لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد ، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار ؛ كما قال تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخضر : طبع يوم طبع كافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار ؛ وفيه : وكان فيما حفظنا أن قال : "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا ، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب" . ذكره حماد بن زيد بن سلمة في مسند الطيالسي قال : حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا : والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب ؛ ألا ترى إلى قوله
عز وجل : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ولم تدمر السموات والأرض. وقوله : {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي : تم الكلام عند قوله : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} ثم قال : {فِطْرَتَ اللَّهِ} أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار ، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "كل مولود يولد على الفطرة" ولهذا قال : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال شيخنا أبو العباس : من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن ؛ لأن الله تعالى قال : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وأما في الحديث فلا ؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر : الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه ؛ فكأنه قال : كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخلقة ، والفاطر الخالق ؛ لقول الله عز وجل : {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يعني خالقهن ، وبقوله : {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} يعني خلقني ، وبقوله : {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} يعني خلقهن. قالوا : فالفطرة الخلقة ، والفاطر الخالق ؛ وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قالوا : وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث : "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء" يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها ؛ فيقال : هذه بحائر وهذه سوائب. يقول : فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان ، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة ، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم ، وعصم الله أقلهم. قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا ، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا :
ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا ، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا ، قال الله تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان ، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبدالبر : هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى : {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام ، كما قال ابن شهاب ؛ لأن الإسلام والإيمان : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، وهذا معدوم من الطفل ، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي : سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع ؟ قال نعم ؛ لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام ؛ فإنما أجزى عتقه عند من أجازه ؛ لأن حكمه حكم أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا : لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى ، وليس في قوله تعالى : {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ولا في "أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه" : دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا ؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا ، والحديث الذي جاء فيه : "أن الناس خلقوا على طبقات" ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها ؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان ، وقد كان شعبة يتكلم فيه. على أنه يحتمل قوله : "يولد مؤمنا" أي يولد ليكون مؤمنا ، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه ، وليس في قوله في الحديث "خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار" أكثر من مراعاة ما يختم به لهم ؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا ، أو يعقل كفرا أو إيمانا.
قلت : وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له ، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة ، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية : والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به ؛ فكأنه تعالى قال : أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرضهم العوارض ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه" فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته : إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق ، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله : "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات ، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب ، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل ؛ وكذلك الإنسان ، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت : وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى ، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا ، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة : من خلق السموات والأرض ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، واختلاف الليل والنهار ؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا ، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة ، أعني جميع الأطفال ، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} . ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية ، وأنه الله لا إله غيره ، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على
الكتاب الأول ؛ فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك ، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدا ، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة ، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم ؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق ، ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل ، وهو يجمع بين الأحاديث ، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال : "الله أعلم بما كانوا عاملين" يعني لو بلغوا. ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا ، وفيه قول عليه السلام : "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة" . قال فقيل : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأولاد المشركين" . وهذا نص يرفع الخلاف ، وهو أصح شيء روي في هذا الباب ، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء ؛ قاله أبو عمر بن عبدالبر. وقد روي من حديث أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال : "لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة ، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار ، فهم خدم لأهل الجنة" ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في كتاب التذكرة ، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك ، والحمد لله. وذكر إسحاق بن راهويه قال : حدثنا يحيى بن آدم قال : أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال : سمعت ابن عباس يقول : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال : أيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} هي الفقر والفاقة ؛ وهذا حسن ؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج ، نعم ، وفي الآخرة.
قوله تعالى : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه ؛ أي لا يشقى من خلقه سعيدا ، ولا يسعد من خلقه شقيا. وقال مجاهد : المعنى لا تبديل لدين الله ؛ وقال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي ، قالوا : هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة : وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى : لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها ؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في {النساء} . {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك القضاء المستقيم ؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل : ذلك الحساب البين. وقيل : {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا ، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه.
الآية : [31] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
الآية : [32] {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
قوله تعالى : {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} اختلف في معناه ، فقيل : راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيى بن سلام والفراء : مقبلين إليه. وقال عبدالرحمن بن زيد : مطيعين له. وقيل تائبين إليه من الذنوب ؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا
والمعنى واحد ؛ فإن "ناب وتاب وثاب وآب" معناه الرجوع. قال الماوردي : وفي أصل الإنابة قولان : أحدهما : أن أصله القطع ؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع ؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني : أصله الرجوع ؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى ؛ ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري :
وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنوبة واحدة النوب ، تقول : جاءت نوبتك ونيابتك ، وهم يتناوبون النوبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد : لأن معنى : {أَقِمْ وَجْهَكَ} فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء : المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل : انتصب على القطع ؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه ؛ لأن الأمر له ، أمر لأمته ؛ فحسن أن يقول منيبين إليه ، وقد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} . {وَاتَّقُوهُ} أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بين أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص ؛ فلذلك قال : {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقد مضى هذا مبينا {في النساء والكهف} وغيرهما. {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} تأوله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة : أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبدع. وقد مضى {في الأنعام} بيانه. وقال الربيع بن أنس : الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ وقاله قتادة ومعمر. وقرأ حمزة والكسائي : {فَارقُوا دِينَهُمْ } ، وقد قرأ ذلك علي بن أبي طالب ؛ أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه ، وهو التوحيد. {وَكَانُوا شِيَعاً} أي فرقا ؛ قاله الكلبي. وقيل أديانا ؛ قاله مقاتل. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي مسرورون معجبون ، لأنهم لم يتبينوا الحق وعليهم أن يتبينوه. وقيل : كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقول ثالث : أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحا بمعصيته ، فكذلك الشيطان وقطاع الطريق وغيرهم ، والله أعلم. وزعم الفراء أنه يجوز أن يكون التمام {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ويكون المعنى : من الذين فارقوا دينهم {وَكَانُوا شِيَعاً} على الاستئناف ، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله. النحاس : وإذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين البدل بإعادة الحرف ؛ كما قال جل وعز : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} ولو كان بلا حرف لجاز.
الآية : [33] {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} أي قحط وشدة {دَعَوْا رَبَّهُمْ} أن يرفع ذلك عنهم {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن عباس : مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون. ومعنى هذا الكلام التعجب ، عجب نبيه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم ؛ أي إذا مس هؤلاء الكفار ضر من مرض وشدة دعوا ربهم ؛ أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم ، مقبلين عليه وحده دون الأصنام ، لعلمهم بأنه لا فرج عندها. {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} أي عافية ونعمة. {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي يشركون به في العبادة.
الآية : [34] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} قيل : هي لام كي. وقيل : هي لام أمر فيه معنى التهديد ؛ كما قال جل وعز : {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد. وفي مصحف عبدالله {وَلِيَتَمَتَّعُوا} ؛ أي مكناهم من ذلك لكي يتمتعوا ، فهو إخبار عن غائب ؛ مثل : {لِيَكْفُرُوا} . وهو على خط المصحف خطاب بعد الإخبار عن غائب ؛ أي تمتعوا أيها الفاعلون لهذا.
الآية : [35] {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحاك : {سُلْطَاناً} أي كتابا ؛ وقاله قتادة والربيع بن أنس. وأضاف الكلام إلى الكتاب توسعا. وزعم الفراء أن العرب تؤنث السلطان ؛ تقول : قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح ، وبه جاء القرآن ، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة ؛ أي حجة
تنطق بشرككم ؛ قاله ابن عباس والضحاك أيضا. وقال علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد قال : سلطان جمع سليط ؛ مثل رغيف ورغفان ، فتذكيره على معنى الجمع وتأنيثه على معنى الجماعة. وقد مضى في {آل عمران} . والسلطان : ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة ؛ كما قال تعالى : {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية : [36] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} يعني الخصب والسعة والعافية ؛ قاله يحيى ابن سلام. النقاش : النعمة والمطر. وقيل : الأمن والدعة ؛ والمعنى متقارب. {فَرِحُوا بِهَا} أي بالرحمة. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي بلاء وعقوبة ؛ قاله مجاهد. السدي : قحط المطر. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بما عملوا من المعاصي. {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي ييأسون من الرحمة والفرج ؛ قاله الجمهور. وقال الحسن : إن القنوط ترك فرائض الله سبحانه وتعالى في السر. قنط يقنط ، وهي قراءة العامة. وقنط يقنط ، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ومعقوب. وقرأ الأعمش : قنِط يقنَط بالكسر فيهما ؛ مثل حسب يحسب. والآية صفة للكافر ، يقنط عند الشدة ، ويبطر عند النعمة ؛ كما قيل :
كحمار السوء إن أعلفته ... رمَح الناس وإن جاع نهق
وكثير ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه بهذه المثابة ؛ وقد مضى في غير موضع. فأما المؤمن فيشكر ربه عند النعمة ، ويرجوه عند الشدة.
الآية : [37] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق ؛ فلا يجب أن يدعوهم الفقر إلى القنوط. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
الآية : [38] {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالي : {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} فيه ثلاث مسائل :
الأولي- لما تقدم أنه سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أمر من وسع عليه الرزق أن يوصل إلى الفقير كفايته ليمتحن شكر الغني. والخطاب للنبي عليه السلام والمراد هو وأمته ؛ لأنه قال : {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} . وأمر بإيتاء ذي القربى لقرب رحمه ؛ وخير الصدقة ما كان على القريب ، وفيها صلة الرحم. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب ، فقال لميمونة وقد أعتقت وليدة : "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" .
الثانية- واختلف في هذه الآية ؛ فقيل : إنها منسوخة بآية المواريث. وقيل : لا نسخ ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال ؛ وهو الصحيح. قال مجاهد وقتادة : صلة الرحم فرض من الله عز وجل ، حتى قال مجاهد : لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة. وقيل : المراد بالقربى أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح ؛ فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله : {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وقيل : إن الأمر بالإيتاء لذي القربى على جهة الندب. قال الحسن : {حَقَّهُ} المواساة في اليسر ، وقول ميسور في العسر. {وَالْمِسْكِينَ} قال ابن عباس : أي أطعم السائل الطواف ؛ "وَابْنَ السَّبِيلِ" الضيف ؛ فجعل الضيافة فرضا ، وقد مضى جميع هذا مبسوطا مبينا في مواضعه والحمد لله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|