عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 07-07-2025, 05:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الشعراء
من صــ 111 الى صــ 120
الحلقة (530)







خطايا معروف في كلام العرب ، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عز وجل {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك : 11] ومعناه بذنوبهم. وكذا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة : 43] معناه الصلوات. وكذا {خَطِيئَتِي} إن كانت خطايا. والله أعلم. قال مجاهد : يعني بخطيئته قوله : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء : 63] وقوله : {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] وقوله : إن سارة أخته. زاد الحسن وقوله للكوكب : {هَذَا رَبِّي} [الأنعام : 76] وقد مضى بيان هذا مستوفى. وقال الزجاج : الأنبياء بشر فيجوز أن تقع منهم الخطية ؛ نعم لا تجوز عليهم الكبائر لأنهم معصومون عنها. {يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم. وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له. وفي صحيح مسلم عن عائشة ؛ قلت يا رسول الله : ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟ قال : "لا ينفعه إنه لم يقل يوما {رَبِّ اَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} " .
الآية : [83] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
الآية : [84] {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}
الآية : [85] {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}
الآية : [86] {وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}
الآية : [87] {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}
الآية : [88] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}
الآية : [89] {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
قوله تعالى : {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} {حُكْماً} معرفة بك وبحدودك وأحكامك ؛ قال ابن عباس. وقال مقاتل : فهما وعلما ؛ وهو راجع إلى الأول. وقال الكلبي : نبوة ورسالة إلى الخلق. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي بالنبيين من قبلي في الدرجة. وقال ابن عباس : بأهل الجنة ؛ وهو تأكيد قوله : {هَبْ لِي حُكْماً} .
قوله تعالى : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} قال ابن عباس : هو اجتماع الأمم عليه. وقال مجاهد : هو الثناء الحسن. قال ابن عطية : هو الثناء وخلد المكانة بإجماع المفسرين ؛ وكذلك أجاب الله دعوته ، وكل أمة تتمسك به وتعظمه ، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مكي : وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان
من يقوم بالحق ؛ فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عطية : وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. وقال القشيري : أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة ؛ فإن زيادة الثواب مطلوبة في حق كل أحد.
قلت : وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي على إبراهيم وخاصة في الصلوات ، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات. والصلاة دعاء بالرحمة : والمراد باللسان القول ، وأصله جارحة الكلام. قال القتبي : وموضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، وقد تكني العرب بها عن الكلمة. قال الأعشى :
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر
قال الجوهري : يروى من علو بضم الواو وفتحها وكسرها. أي أتاني خبر من أعلى ، والتأنيث للكلمة. وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر. روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين ، إذا قصد به وجه الله تعالى ؛ وقد قال الله تعالى : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه : 39] وقال : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم : 96] أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا ، فنبه تعالى بقوله : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. الليث بن سليمان : إذ هي الحياة الثانية. قيل :
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
قال ابن العربي : قال المحققون من شيوخ. الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة. وقد بيناه في آخر {آل عمران} والحمد لله.
قوله تعالى : {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} دعاء بالجنة وبمن يرثها ، وهو يرد قول بعضهم : لا أسأل جنة ولا نارا. {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} كان أبوه وعده في الظاهر أن يؤمن به فاستغفر له لهذا ، فلما بان أنه لا يفي بما قال تبرأ منه. وقد تقدم هذا المعنى. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} أي المشركين. {وكان} زائدة. {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد ، أو لا تعذبني يوم القيامة. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة" والغبرة هي القترة. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني إلا تخزيني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين" انفرد بهما البخاري رحمه الله.
قوله تعالى : {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} {يَوْمِ} بدل من {يَوْمِ} الأول. أي يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدا. والمراد بقوله : {وَلا بَنُونَ} الأعوان ؛ لأن الابن إذا لم ينفع فغيره متى ينفع ؟ وقيل : ذكر البنين لأنه جرى ذكر والد إبراهيم ، أي لم ينفعه إبراهيم. {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} هو استثناء من الكافرين ؛ أي لا ينفعه ماله ولا بنوه. وقيل : هو استثناء من غير الجنس ، أي لكن {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ينفعه لسلامة قلبه. وخص القلب بالذكر ؛ لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح ، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح. وقد تقدم في أول {البقرة} . واختلف في القلب السليم فقيل : من الشك والشرك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ؛ قال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن ؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض ؛ قال الله تعالى : {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة : 10] وقال أبو عثمان السياري : هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة. وقال الحسن : سليم من آفة المال والبنين. وقال الجنيد : السليم في اللغة اللديغ ؛ فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله. وقال الضحاك : السليم الخالص.
قلت : وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن ، أي الخالص من الأوصاف الذميمة ، والمتصف بالأوصاف الجميلة ؛ والله أعلم. وقد روي عن عروة أنه قال : يا بني لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط ، قال الله تعالى : {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات : 84] . وقال محمد بن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير" يريد - والله أعلم - أنها مثلها في أنها خالية من ذنب ، سليمة من كل عيب ، لا خبرة لهم بأمور الدنيا ؛ كما روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكثر أهل الجنة البله" وهو حديث صحيح. أي البله عن معاصي الله. قال الأزهري : الأبله هنا هو الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه. وقال القتبي : البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس.
الآية : [90] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}
الآية : [91] {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}
الآية : [92] {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}
الآية : [93] {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ }
الآية : [94] {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}
الآية : [95] {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}
الآية : [96] {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}
الآية : [97] {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
الآية : [98] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [99] {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}
الآية : [100] {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}
الآية : [101] {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}
الآية : [102] {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [103] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [104] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قربت وأدنيت ليدخلوها. وقال الزجاج : قرب دخولهم إياها. {وَبُرِّزَتِ} أي أظهرت {الْجَحِيمُ } يعني جهنم. {لِلْغَاوِينَ}
أي الكافرين الذين ضلوا عن الهدى. أي تظهر جهنم لأهلها قبل أن يدخولها حتى يستشعروا الروع والحزن ، كما يستشعر أهل الجنة الفرح لعلمهم أنهم يدخلون الجنة. {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام والأنداد {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} من عذاب الله {يَنْتَصِرُونَ} لأنفسهم. وهذا كله توبيخ. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} أي قلبوا على رؤوسهم. وقيل : دهوروا وألقي بعضهم على بعض. وقيل : جمعوا. مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة ؛ قاله الهروي. وقال النحاس : هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه. والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة. وقال ابن عباس : جمعوا فطرحوا في النار. وقال مجاهد : دهوروا. وقال مقاتل : قذفوا. والمعنى واحد. تقول : دهورت الشيء إذا جمعته ثم قذفته في مهواة. يقال : هو يدهور اللقم إذا كبرها. ويقال : في الدعاء كب الله عدو المسلمين ولا يقال أكبه. وكبكبه ، أي كبه وقلبه. ومنه قوله تعالى : {كُبْكِبُوا فِيهَا} والأصل كببوا فأبدل من الباء الوسطى كاف استثقالا لاجتماع الباءات. قال السدي : الضمير في {كُبْكِبُوا} لمشركي العرب {هُمْ وَالْغَاوُونَ} الآلهة. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} من كان من ذريته. وقيل : كل من دعاه إلى عبادة الأصنام فاتبعه. وقال قتادة والكلبي ومقاتل : {وَالْغَاوُونَ} هم الشياطين. وقيل : إنما تلقي الأصنام في النار وهي حديد ونحاس ليعذب بها غيرهم.
{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} يعني الإنس والشياطين والغاوين والمعبودين اختصموا حينئذ. {تَاللَّهِ} حلفوا بالله {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في خسارة وتبار وحيرة عن الحق بينة إذا اتخذنا مع الله آلهة فعبدناها كما يعبد ؛ وهذا معنى قوله : {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي في العبادة وأنتم لا تستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسكم . {وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} يعني الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام. وقيل : أسلافنا الذين قلدناهم. قال أبو العالية وعكرمة : {الْمُجْرِمُونَ} إبليس وابن آدم القاتل هما أول من سن الكفر والقتل وأنواع المعاصي. {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين. {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي صديق مشفق ؛ وكان علي رضي الله عنه يقول : عليكم بالإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة ؛
ألا تسمع إلى قول أهل النار : {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الزمخشري : وجمع الشافع لكثرة الشافعين ووحد الصديق لقتله ؛ ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم مضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته ؛ رحمة له وحسبة وإن لمم تسبق له بأكثرهم معرفة ؛ وأما الصديق فهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فأعز من بيض الأنوق ؛ وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال : اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق الجمع والحميم القريب والخاص ؛ ومنه حامة الرجل أي أقرباؤه. وأصل هذا من الحميم وهو الماء الحار ؛ ومنه الحمام والحمى ؛ فحامة الرجل الذين يحرقهم ما أحرقه ؛ يقال : وهم حزانته أي يحزنهم ما يحزنه. ويقال : حم الشيء وأحم إذا قرب ، ومنه الحمى ؛ لأنها تقرب من الأجل. وقال علي بن عيسى : إنما سمي القريب حميما ؛ لأنه يحمي لغضب صاحبه ، فجعله مأخوذا من الحمية. وقال قتادة : يذهب الله عز وجل يوم القيامة مودة الصديق ورقة الحميم. ويجوز : "ولا صديق حميم" بالرفع على موضع {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} ؛ لأن {مِنْ شَافِعِينَ} في موضع رفع. وجمع صديق أصدقاء وصدقاء وصداق. ولا يقال صدق للفرق بين النعت وغيره. وحكى الكوفيون : أنه يقال في جمعه صدقان. النحاس : وهذا بعيد ؛ لأن هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان. وحكموا أيضا صديق وأصادق. وأفاعل إنما هو جمع أفعل إذا لم يكن نعتا نحو أشجع وأشاجع. ويقال : صديق للواحد والجماعة وللمرأة ؛ قال الشاعر :
نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء وهن صديق
ويقال : فلان صديقي أي أخص أصدقائي ، وإنما يصغر على جهة المدح ؛ كقول حباب بن المنذر : "أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب" ذكر الجوهري. النحاس : وجمع حميم أحماء وأحمة وكرهوا أفعلاء للتضعيف. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} {أَنَّ} في موضع رفع ، المعنى ولو وقع لنا رجوع إلى الدنيا لآمنا حتى يكون لنا شفعاء. تمنوا حين لا ينفعهم التمني.
وإنما قالوا ذلك حين شفع الملائكة والمؤمنون. قال جابر بن عبدالله قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل فلان وصديقه في الجحيم فلا يزال يشفع له حتى يشفعه الله فيه فإذا نجا قال المشركون : {مَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} . وقال الحسن : ما اجتمع ملأ على ذكر الله ، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم ، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض وهم عند الله شافعون مشفعون. وقال كعب : إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا ، فيمر أحدهما بصاحبه وهو يجر إلى النار ، فيقول له أخوه : والله ما بقي لي إلا حسنة واحدة أنجو بها ، خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى ، وأبقى أنا وإياك من أصحاب الأعراف. قال : فيأمر الله بهما جميعا فيدخلان الجنة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم والحمد الله."
الآية : [105] {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [106] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية : [107] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية : [108] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [109] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [110] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [111] {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}
الآية : [112] {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الآية : [113] {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}
الآية : [114] {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [115] {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
الآية : [116] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}
الآية : [117] {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ}
الآية : [118] {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [119] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
الآية : [120] {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}
الآية : [121] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية : [122] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} قال {كَذَّبَتْ} والقوم مذكر ؛ لأن المعنى كذبت جماعة قوم نوح ، وقال : {الْمُرْسَلِينَ} لأن من كذب رسولا فقد كذب الرسل ؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. وقيل : كذبوا نوحا في النبوة وفيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده. وقيل : ذكر الجنس والمراد نوح عليه السلام. وقد مضى هذا في {الفرقان} . {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي ابن أبيهم وهي أخوة نسب لا أخوة دين. وقيل : هي أخوة المجانسة. قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم : 4] وقد مضى هذا في {الأعراف} . وقيل : هو من قول العرب يا أخا بني تميم. يريدون يا واحدا منهم. الزمخشري : ومنه بيت الحماسة :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
{أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تتقون الله في عبادة الأصنام. { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي صادق فيما أبلغكم عن وقيل : {أَمِينٌ} فيما بينكم ؛ فإنهم كانوا عرفوا أمانته وصدقه من قبل كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه. {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من الإيمان. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا طمع لي في مالكم. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما جزائي {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} . كرر تأكيدا.
قوله تعالى : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} فيه مسألتان :
الأولي- قوله تعالى : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي نصدق قولك. {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} الواو للحال وفيه إضمار قد ، أي وقد اتبعك. {الأَرْذَلُونَ} جمع الأرذل ، المكسر الأراذل والأنثى الرذلي والجمع الرذل. قال النحاس : ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه. وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي وغيرهم ،
{وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} . النحاس : وهي قراءة حسنة ؛ وهذه الواو أكثرها تتبعها الأسماء والأفعال بقد. وأتباع جمع تبع وتبيع يكون للواحد والجمع. قال الشاعر :
له تبع قد يعلم الناس أنه ... على من يداني صيف وربيع
ارتفاع {اتْباعُكَ} يجوز أن يكون بالابتداء و {الأَرْذَلُونَ} الخبر ؛ التقدير أنؤمن لك وإنما أتباعك الأرذلون. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في قوله : {أَنُؤْمِنُ لَكَ} والتقدير : أنؤمن لك نحن وأتباعك الأرذلون فنعد منهم ؛ وحسن ذلك الفصل بقوله : {لَكَ} وقد مضى القول في الأراذل في سورة {هود} مستوفى. ونزيده هنا بيانا وهي المسألة :
الثانية- فقيل : إن الذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكناته وبنو بنيه. واختلف هل كان معهم غيرهم أم لا. وعلى أن الوجهين كان فالكل صالحون ؛ وقد قال نوح : {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} والذين معه هم الذين أتبعوه ، ولا يلحقهم من قول الكفرة شين ولا ذم بل الأرذلون هم المكذبون لهم. قال السهيلي : وقد أغري كثير من العوام بمقالة رويت في تفسير هذه الآية : هم الحاكة والحجامون. ولو كانوا حاكة كما زعموا لكان إيمانهم بنبي الله واتباعهم له مشرفا كما تشرف بلال وسلمان بسبقهما للإسلام ؛ فهما من وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم ، فلا ذرية نوح كانوا حاكة ولا حجامين ، ولا قول الكفرة في الحاكة والحجامين إن كانوا آمنوا بهم أرذلون ما يلحق اليوم بحاكتنا ذما ولا نقصا ؛ لأن هذه حكاية عن قول الكفرة إلا أن يجعل الكفرة حجة ومقالتهم أصلا ؛ وهذا جهل عظيم وقد أعلم الله تعالى أن الصناعات ليست بضائرة في الدين.
قوله تعالى : {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {كَانَ} زائدة ؛ والمعنى : وما علمي بما يعملون ؛ أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان ، والاعتبار بالإيمان لا بالحرف والصنائع ؛ وكأنهم قالوا : إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعا في العزة والمال. فقال : إني لم أقف على باطن أمرهم وإنما إلي ظاهرهم. وقيل : المعنى إني
لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم. {إِنْ حِسَابُهُمْ} أي في أعمالهم وإيمانهم {إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} وجواب {لَوْ} محذوف ؛ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم. وقراءة العامة : {تَشْعُرُونَ} بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر وقرأ ابن أبي عبلة ومحمد بن السميقع : {لَوْ تَشْعُرُونَ} بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم ؛ نحو قوله : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس : 22] . وروي أن رجلا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار ؟ فقال : {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} . {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم. وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش. {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} يعني : إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغني دون الفقراء ، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به ، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرا.
قوله تعالى : {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} أي عن سب آلهتنا وعيب ديننا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي بالحجارة ؛ قال قتادة. وقال ابن عباس ومقاتل : من المقتولين. قال الثمالي : كل مرجومين في القرآن فهو القتل إلا في مريم : {لئن لم تنته لأرجمنك} [مريم : 46] أي لأسبنك. وقيل : {من المرجومين} من المشتومين ؛ قاله السدي. ومنه قول أبي دؤاد. {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ذلك لما يئس من إيمانهم. والفتح الحكم وقد تقدم. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يريد السفينة وقد مضى ذكرها. والمشحون المملوء ، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم. ولم يؤنث الفلك ها هنا ؛ لأن الفلك ها هنا واحد لا جمع {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أي بعد إنجائنا نوحا ومن آمن. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً. وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.59 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]