عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 07-07-2025, 03:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,792
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الفرقان
من صــ 41 الى صــ 50
الحلقة (523)






مطلعا مشرقا ، وهو أن بناء فعول للمبالغة ، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل. المتعدي كما قال الشاعر :
ضروب بنصل السيف سوق سمانها
وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر :
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة ؛ كقوله عليه السلام : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" . وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة ؛ فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر ، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا : وقود وسحور بفتح الفاء ، فإنها عبارة عن الحطب الطعم المتسحر به ؛ فوصف الماء بأنه طهور : "بفتح الطاء" أيضا يكون خبرا عن الآلة التي يتطهر بها. فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه. فثبت بهذا أن اسم الفعول : "بفتح الفاء" يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة ، وهو الذي خطر ببال الحنفية ، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه ، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} . وقوله عليه السلام : "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة ؛ فلا حجة فيه لعلمائنا ، لكن يبقى قول {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال : 11] نص في أن فعله يتعدى إلى غيره.
الثانية : المياه المنزلة من السماء المودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها ، والمخالط للماء على ثلاثة اضرب : ضرب يوافقه
في صفتيه جميعا ، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب. والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة ، فاذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير ؛ كماء الورد وسائر الطاهرات. والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعا ، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس.
الثالثة- ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة ، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات. ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده ، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في ، الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ، ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء ؛ وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم ومن اتبعهم من المصريين. إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك. وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه : أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالة فيه وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا. وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء. وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك ، من البغداديين ؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي. وهو مذهب أهل البصرة ، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر. وقال أبو حنيفة : إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه. ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة ، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس ، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس. وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي بحديث القلتين ، وهو حديث مطعون فيه ؛ اختلف في إسناده ومتنه ؛ أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني ، فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه. قال ابن العربي : وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر. وقال أبو عمر بن عبدالبر : وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر ، غير ثابت
في الأثر ؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل ، ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع ، فلو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم ، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه ، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف.
قلت : وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد. وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال : القلال الخوابي العظام. وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين. ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر ؛ لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة" . وذكر الحديث. قال ابن العربي : وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة ، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم. وهو أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه. وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال : إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك ، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه ؛ إذ لا حديث في الباب يعول عليه ، وإنما المعول على ظاهر القرآن وهو قوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وهو ما دام بصفاته ، فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم لخروجه عن الصفة ، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا يعول عليه قال : "باب إذا تغير وصف الماء" وأدخل الحديث الصحيح : "ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك" . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك ، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية. ولذلك قال علماؤنا : إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه. ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة والأول مجاورة لا تعويل عليها.
قلت : وقد استدل به أيضا على نقيض ذلك ، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله. ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثا نجسا ، وأنه صار مسكا ؛ وإن المسك بعض دم الغزال.
فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته. وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء. وإلى الأول ذهب عبدالملك. قال أبو عمر : جعلوا الحكم للرائحة دون اللون ، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث. وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس ، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه ، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء ، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله ؛ وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه ، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه. للناس ولا يكتمونه ، والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة ، فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر ، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله. وقال الجمهور. إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة ومأة. وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه ، ولا التباس معه.
الرابعة- الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه ، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به ، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه ؛ وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه.
الخامسة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم : ويكره سؤر النصراني وسائر الكفار والمدمن الخمر ، وما أكل الجيف ؛ كالكلاب وغيرها. ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة. قال البخاري : وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصرانية. ذكر سفيان بن عيينة قال : حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال : من أين جئت بهذا الماء ؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء سماء أطيب منه. قال قلت : جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية ؛ فلما توضأ أتاها فقال : "أيتها العجوز أسلمي تسلمي ، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق. قال : فكشفت عن رأسها ؛ فإذا"
مثل الثغامة ، فقالت : عجوز كبيرة ، وإنما أموت الآن! فقال عمر رضى الله عنه : اللهم اشهد ". خرجه الدارقطني ، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال حدثنا سفيان.. فذكره. ورواه أيضا عن الحسين بن إسماعيل قال حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال : أيتها العجوز أسلمي.. ؛ وذكر الحديث بمثل ما تقدم."
السادسة- فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك : يغسل الإناء سبعا ولا يتوضأ منه وهو طاهر. وقال الثوري : يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه. وهو قول عبدالملك بن عبدالعزيز ومحمد بن مسلمة. وقال أبو حنيفة : الكلب نجس ويغسل الإناء منه لأنه نجس. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه. وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا ينجس ولوغه شيئا ولغ فيه طعاما ولا غيره ؛ إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤنته. وكلب البادية والحاضرة سواء. ويغسل الإناء منه على كل حال سبعا تعبدا. هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه. ذكر ابن وهب وقال : حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة ، فقيل له : إن الكلاب والسباع ترد عليها. فقال : "لا ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور" أخرجه الدارقطني. وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه. وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرشون شيئا من ذلك. وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص : هل ترد حوضك السباع. فقال عمر : يا صاحب الحوض ، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. أخرجه مالك والدارقطني. ولم يفرق بين السباع ، والكلب من جملتها ، ولا حجة للمخالف
في الأمر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة ، وإنما أمر بإراقته لأن النفس تعافه لا لنجاسته ؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه ، أو تغليظا عليهم لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن ؛ فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية ، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها. وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين : أحدهما : أن الغسل قد دخله العدد. الثاني : أنه جعل للتراب فيه مدخل لقول عليه السلام : "وعفروه الثامنة بالتراب" . ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب في مدخل كالبول. وقد جعل صلى الله عليه وسلم الهر وما ولغ فيه طاهرا ، والهر سبع لا خلاف في ذلك ؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة ؛ فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع ؛ لأنه إذا جاء نص ذلك في أحدهما كان نصا في الآخر. وهذا من أقوى أنواع القياس. هذا لو لم يكن هناك دليل ؛ وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف. والحمد لله.
السابعة- ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه ؛ فإن أنتن لم يتوضأ به. وكذلك ما كان ل دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه ؛ إلا أن تتغير رائحته ، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه ، وليس بنجس عند مالك. وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلا أو كثيرا عند المدنيين. واستحب بعضهم. أن ينزح من ذلك الماء دلاء لتطيب النفس به ، ولا يحدون في ذلك حدا لا يتعدى. ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء ، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا. وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم ، فيجمع بين الطهارتين احتياطا ، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه. وروى الدارقطني عن محمد بن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم - يعني فمات - فأمر به ابن عباس رضي الله عنه فأخرج فأمر بها أن تنزح. قال : فغلبتهم عين جاءتهم من
الركن فأمر بها فدسمت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها ، فلما نزحوها انفجرت عليهم. وأخرجه عن أبي الطفيل أن غلاما وقع في بئر زمزم فنزحت. وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير ، والله أعلم. وروى. شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول : كل نفس سائلة لا يتوضأ منها ، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به. قال شعبة : وأظنه قد ذكر الوزغة. أخرجه الدارقطني ، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة... ؛ فذكره.
الثامنة- ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر ، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره ؛ لحديث أبي قتادة ، أخرجه مالك وغيره. وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف. وروي عن عطاء بن أبي رباج وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه. واختلف في ذلك عن الحسن. ويحتمل أن كون الحسن رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه. قال الترمذي لما ذكر حديث مالك : "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة ، هذا حديث حسن صحيح ، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم ؛ مثل الشافعي وأحمد وإسحاق ، لم يروا بسؤر الهرة بأسا" . وهذا أحسن شيء في الباب ، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة ، ولم يأت به أحد أتم من مالك. قال الحافظ أبو عمر : الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت. الحديث. وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقول ؛ فإنه كان يكره سؤره. وقال : إن توضأ به أحد أجزأه ، ولا أعلم حجة لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة ، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه ، وقد فرقت السنة بينهما في باب
التعبد في غسل الإناء ، ومن حجته السنة خاصمته ، وما خالفها مطرح. وبالله التوفيق. ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" شك قرة. وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد ، وقرة ثقة ثبت.
قلت : هذا الحديث أخرجه الدارقطني ، ومتنه : "طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الأولى بالتراب والهر مرة أو مرتين" . قرة شك. قال أبو بكر : كذا رواه أبو عاصم مرفوعا ، ورواه غيره عن قرة : "ولوغ الكلب" مرفعا و "ولوغ الهر" موقوفا. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب" قال الدارقطني : لا يثبت هذا مرفوعا والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه. وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب. وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال : اغسله سبع مرات. قال الدارقطني.
التاسعة- الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة ؛ إلا أن مالكا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به. وقال مالك : لا خير فيه ، ولا أحب لأحد أن يتوضأ به ، فإن فعل وصلى لم أر عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما : لا يجوز استعماله في رفع الحدث ، ومن توضأ به أعاد ؛ لأنه ليس بماء مطلق ؛ ويتيمم واجده لأنه ليس بواجد ماء. وقال بقولهم في ذلك اصبغ بن الفرج ، وهو قول الأوزاعي. واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك وحديث عمرو بن عنبسة أخرجه مسلم ، وغير ذلك من الآثار. وقالوا : الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه ؛ فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب. قال أبو عمر : وهذا عندي لا وجه له ؛ لأن الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده ، وإنما معنى قوله : "خرجت الخطايا مع الماء" إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده
المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم. وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك ، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز ؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء وهو ماء مطلق. واحتجوا بإجماع الأمة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة. وإلى هذا ذهب أبو عبدالله المروزي محمد بن نصر. وروي عن علي بن أبى طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا : إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه ؛ فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل. روي عبدالسلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرضي : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء ، فقلنا : يا رسول الله ، هذه لمعة لم يصبها الماء ؛ فكان له شعر وارد ، فقال بشعره هكذا على المكان فبله" . أخرجه الدارقطني ، وقال : عبدالسلام بن صالح هذا بصري وليس بقوي وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلا ، وهو الصواب.
قلت : الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل... ؛ الحديث فيما ذكره هشيم. قال ابن العربي : "مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر ، وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا ؛ فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إذا أدى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر ؛ وهذا باطل من القول ، فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر. ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكما ، وهذا نفيس فتأملوه" .
العاشرة- لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الماء ، راكدا كان الماء أو غير راكد ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه" . وفرقت الشافعية فقالوا : إذا وردت النجاسة : على الماء تنجس ؛ واختاره ابن العربي. وقال : من أصول الشريعة في أحكام الماء أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" . فمنع من ورود اليد على الماء وأمر بإيراد الماء عليها ، وهذا أصل بديع في الباب ، ولولا وروده على النجاسة - قليلا كان أو كثيرا - لما طهرت. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بول الأعرابي في المسجد : "صبوا عليه ذنوبا من ماء" . قال شيخنا أبو العباس : واستدلوا أيضا بحديث القلتين ، فقالوا : إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم تغيره ، وإن ورد ذلك القدر فأقل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة. وهذه مناقضة ، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين ، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء ، فليس الباب باب التعبدات بل من باب عقلية المعاني ، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها. ثم هذا كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام : "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" .
قلت : هذا الحديث أخرجه الدارقطني عن رشدين بن سعد أبي الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه ذكر اللون. وقال : لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي ، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيدالله بن عبدالله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال قيل : يا رسول الله ،




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.18 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]