عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 06-07-2025, 10:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى





تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 214 الى صــ 223
الحلقة (508)



قلت : وفي سنن ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا : يا رسول الله ، هذا السلام ، فما الاستئذان ؟ قال : "يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت" .
قلت : وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان ؛ كما قال مجاهد ومن وافقه.
الرابعة : وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} خطأ أو وهم من الكاتب ، إنما هو {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره ؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} ، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان ، فهي التي لا يجوز خلافها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس ؛ وقد قال عز وجل : {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت : 42] ، وقال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] . وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا ؛ والمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم. قال ابن عطية. ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن {تَسْتَأْنِسُوا} متمكنة في المعنى ، بينة الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : أستأنس يا رسول الله ؛ وعمر واقف على باب الغرفة ، الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم ، فكيف يخطّئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا.
قلت : قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام ، وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير ، وأنه إذا دخل سلم. والله أعلم.
الخامسة : السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. قال ابن وهب قال مالك : الاستئذان ثلاث ، لا أحب أن يزيد أحد عليها ، إلا من علم أنه لم يسمع ، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل : السلام عليكم أأدخل ؛ فإن أذن له دخل ، وإن أمر بالرجوع انصرف ، وإن سكت عنه استأذن
ثلاثا ؛ ثم ينصرف من بعد الثلاث. وإنما قلنا : إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبي موسى الأشعري ، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري ، ثم أبيّ بن كعب. وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح ، وهو نص صريح ؛ فإن فيه : فقال - يعني عمر - ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" . وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال : حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت ، فقال : ألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه : "أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل" فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وذكره الطبري وقال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : "قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل ؟ ..." الحديث. وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقالت المرأة : ادخل بسلام ؛ فأعاد فأعادت ، فقال لها : قولي أدخل. فقالت ذلك فدخل ؛ فتوقف لما قالت : بسلام ؛ لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك.
السادسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه ، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا. وإذا كان الغالب هذا ؛ فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن ، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه ؛ فينبغي للمستأذن أن ينصرف ؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل ، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال : "لعلنا أعجلناك..." الحديث. وروى عقيل عن ابن شهاب قال : أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد
بن عبادة فقال : "السلام عليكم" فلم يردوا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "السلام عليكم" فلم يردوا ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف ؛ فخرج سعد في أثره حتى أدركه ، فقال : وعليك السلام يا رسول الله ، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك ، وقد والله سمعنا ؛ فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سعد حتى دخل بيته. قال ابن شهاب : فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك ؛ رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال : سمعت يحيى بن أبي كثير يقول حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال : زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال : "السلام عليكم ورحمة الله" قال فرد سعد ردا خفيا ، قال قيس : فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ذره يكثر علينا من السلام... الحديث ، أخرجه أبو داود وليس فيه قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك. قال أبو داود : ورواه عمر بن عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد.
السابعة : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس. قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها ؛ والله أعلم. روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول : "السلام عليكم السلام عليكم" وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
الثامنة : فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن ، وإن شاء دق الباب ؛ لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قُف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إيذن له وبشره بالجنة" . هكذا رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد ؛ فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن نافع
عن أبي موسى. وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ وإسناده الأول أصح ، والله اعلم.
التاسعة : وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع ، ولا يعنف في ذلك ؛ فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير ؛ ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه.
روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "من هذا" ؟ فقلت أنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا أنا" ! كأنه كره ذلك. قال علماؤنا : إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قوله أنا لا يحصل بها تعريف ، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى ؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب. ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليكم أيدخل عمر ؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : السلام عليكم ، هذا أبو موسى ، السلام عليكم ، هذا الأشعري... الحديث.
الحادية عشرة : ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال : قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال : من هذا ؟ قلت أنا ؛ فقال : يا هذا ما لي صديق يقال له أنا ثم خرج إليّ فقال : حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال : "من هذا" ؟ فقلت أنا ؛ فقال : "أنا أنا" كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره قولي هذا ، أو قوله هذا. وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال : دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي : من هذا ؟ فقلت أنا ؛ فقال : لا يعلم الغيب إلا الله. قال الخطيب : سمعت علي بن المحسن القاضي يحكي عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا ؟ فقال الذي على الباب أنا ، يقول الشيخ : أنا هم دق.
الثانية عشرة : ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ؛ كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال : أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي ، فلما قام بالباب قال : أندر ؟ قالت أندرون. وترجم عليه باب الاستئذان بالفارسية. وذكر عن أحمد بن صالح قال : كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة ، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل : أندرون ، فلقبه أهل المدينة الدراوردي.
الثالثة عشرة : روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ، فدخلت ولم أسلم فقال : "ارجع فقل السلام عليكم" وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية. وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له" . وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال : سمعت أبا هريرة يقول : إذا قال الرجل أدخل ؟ ولم يسلم فقل لا حتى تأتي بالمفتاح ؛ فقلت السلام عليكم ؟ قال نعم. وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقال حذيفة : أما بعينك فقد دخلت وأما باستك فلم تدخل.
الرابعة عشرة : ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" ؛ أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول ، يبينه قوله عليه السلام : "إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن" . أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة.
الخامسة عشرة : فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين ، ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه ، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول : أدخل ؟ فإن أذن لك وإلا رجعت.
السادسة عشرة : هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك ، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها ، إلا أنك تسلم إذا دخلت. قال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا : تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك ؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها. وأما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. قال ابن القاسم قال مالك : ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما. وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أستأذن على أمي ؟ قال "نعم" قال : إني أخدمها ؟ قال : "استأذن عليها" فعاوده ثلاثا ؛ قال "أتحب أن تراها عريانة" ؟ قال لا ؛ قال : "فاستأذن عليها" ذكره الطبري.
السابعة عشرة : فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد ؛ فقال علماؤنا : يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات ، لله السلام. رواه ابن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسنده ضعيف. وقال قتادة : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ؛ فإنه يؤمر بذلك. قال : وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم. قال ابن العربي : والصحيح ترك السلام والاستئذان ، والله أعلم.
قلت : قول قتادة حسن.
الآية : 28 {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} الضمير في {تَجِدُوا فِيهَا} للبيوت التي هي بيوت الغير. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال : معنى قوله : {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} أي لم يكن لكم فيها متاع. وضعف الطبري هذا التأويل ، وكذلك هو في غاية الضعف ؛ وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع.
ورأى لفظة {المتاع} متاع البيت ، الذي هو البسط والثياب ؛ وهذا كله ضعيف. والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث ؛ التقدير : يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا ، فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا ؛ كما فعل عليه السلام مع سعد ، وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما. فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا. وأسند الطبري عن قتادة قال : قال رجل من المهاجرين : لقد طلبت عمري هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع وأنا مغتبط ؛ لقوله تعالى : {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} .
الثانية : سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا ؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه ، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه. فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال : "من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق" وروي في الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" . وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" .
الثالثة : إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير. وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الرابعة : قوله تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز ، ولغيرهم ممن يقع في محظور.
الآية : 29 {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر ، فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن ؛ فنزلت هذه الآية ، أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات فإذا زالت العلة زال الحكم.
الثانية : اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت ؛ فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي الفنادق التي في طرق السابلة. قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل ، وفيها متاع لهم ؛ أي استمتاع بمنفعتها. وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة ويبينه قول مالك. وهذا على القول بأنها غير متملكة ، وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة. وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيساريات. قال الشعبي : لأنهم جاؤوا بيوعهم فجعلوها فيها ، وقالوا للناس هلم. وقال عطاء : المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط ؛ ففي هذا أيضا متاع. وقال جابر بن زيد : ليس يعني بالمتاع الجهاز ، ولكن ما سواه من الحاجة ؛ أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار ، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة ، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع. قال أبو جعفر النحاس : وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين ، وهو موافق للغة. والمتاع في كلام العرب : المنفعة ؛ ومنه أمتع الله بك. ومنه {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب : 49] .
قلت : واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال : أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل ، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم ، والساكن يدخل الخانات
وهي الفناتق ، أي الفنادق ، والزبون يدخل الدكان للابتياع ، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة ؛ وكل يؤتي على وجهه من بابه. وأما قول ابن زيد والشعبي فقول وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس ، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع ، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها ، بل أربابها موكلون بدفع الناس.
الآية : 30 {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر ؛ يقال : غض بصره يغضه غضا ؛ قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال عنترة :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج ، غير أن ذلك معلوم بالعادة ، وأن المراد منه المحرم دون المحلل. وفي البخاري : وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن ؟ قال : اصرف بصرك ؛ يقول الله تعالى : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقال قتادة : عما لا يحل لهم ؛ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور : 31] خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه.
الثانية : قوله تعالى : {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} {مِنْ} زائدة ؛ كقوله : {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة : 47] . وقيل : {مِنْ} للتبعيض ؛ لأن من النظر ما يباح. وقيل : الغض النقصان ؛ يقال : غض فلان من فلان أي وضع منه ؛ فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص. فـ {مِنْ} صلة للغض ، وليست للتبعيض ولا للزيادة.
الثالثة : البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ، وأعمر طرق الحواس إليه ، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه ، وغضه واجب عن جميع المحرمات ، وكل ما يخشى الفتنة من أجله ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إياكم والجلوسَ على الطرقات" فقالوا : يا رسول الله ، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال : "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : "غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" . رواه أبو سعيد الخدري ، خرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي : "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية" . وروى الأوزاعي قال : حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم ، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان ، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت ، فقال : إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك ؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال : ظلمت عينك ، فاستغفر الله وتب ، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. قال الأوزاعي : وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة ؛ فأمرني أن أصرف بصري. وهذا يقوي قول من يقول : إن "من" للتبعيض ؛ لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف ، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا ، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها ؛ فوجب التبعيض لذلك ، ولم يقل ذلك في الفرج ؛ لأنها تملك. ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته ؛ وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها.
الرابعة : قوله تعالى : {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يستروها عن أن يراها من لا يحل. وقيل : {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي عن الزنى ؛ وعلى هذا القول لو قال : "من فروجهم" لجاز. والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام. وروى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : "احفظ"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.74 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]