
06-07-2025, 10:25 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,354
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 204 الى صــ 213
الحلقة (507)
الثانية عشرة : قوله تعالى : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف ؛ من الإلقاء ، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبي وابن مسعود {إذ تتلقونه} من التلقي ، بتاءين. وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام ؛ وهذا أيضا من التلقي. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء ؛ وهذه قراءة قلقة ؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين ، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ {فَلاَ تَنَاجُوْا. وَلاَ تَنَابَزُوا} لأن دونه الألف الساكنة ، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - {إِذْ تَلِقُونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف ؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب : ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه ؛ فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية : وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه ؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو : أصل الولق الإسراع ؛ يقال : جاءت الإبل تلق ؛ أي تسرع. قال :
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق ... جاؤوا بأسراب من الشأم ولق
إن الحصين زلق وزملق ... جاءت به عنس من الشأم تلق
يقال : رجل زلق وزملق ؛ مثال هُدَبِد ، وزمالق وزملق "بتشديد الميم" وهو الذي ينزل قبل أن يجامع ؛ قال الراجز :
إن الحصين زلق وزملق
والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال : ولقه بالسيف ولقات ، أي ضربات ؛ فهو مشترك.
الثالثة عشرة : قوله تعالى : {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا} مبالغة وإلزام وتأكيد. والضمير في {تَحْسَبُونَهُ} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و {هَيِّناً} أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ} في الوزر {عَظِيمٌ} . وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين : "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير" أي بالنسبة إليكم.
الرابعة عشرة : قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل ، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان ؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه ، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و {أنْ} مفعول من أجله ، بتقدير : كراهية أن ونحوه.
الخامسة عشرة : {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} توقيف وتوكيد ؛ كما تقول : ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.
السادسة عشرة : قوله تعالى : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} يعني في عائشة ؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه ، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله ؛ وذلك كفر من فاعله.
السابعة عشرة : قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول : من سب أبا بكر وعمر أدب ، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن العربي : قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين ، وليس قوله : {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في عائشة لأن ذلك كفر ، وإنما هو كما قال عليه السلام : "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه" . ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" حقيقة. قلنا : ليس كما زعمتم ؛ فإن
أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله ، ومن كذب الله فهو كافر ؛ فهذا طريق قول مالك ، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب.
الثامنة عشرة : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أي تفشو ؛ يقال : شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه ؛ أي ظهر وتفرق. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة : الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل : الفاحشة في هذه الآية القول السيء. {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أي الحد. وفي الآخرة عذاب النار ؛ أي للمنافقين ، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة. وقال الطبري : معناه إن مات مصرا غير تائب.
التاسعة عشرة : قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع عل رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} " الآية.
الموفية عشرين : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني مسالكه ومذاهبه ؛ المعنى : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة هو ما بين القدمين. والخطوة "بالفتح" المصدر ؛ يقال : خطوت خطوة ، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان ؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة.
وقرأ الجمهور {خُطُوات} بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور {مَا زَكَى} بتخفيف الكاف ؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا. وقيل : {ما زكى} أي ما صلح ؛ يقال : زكا يزكو زكاء ؛ أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة ؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم. وقال الكسائي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} معترض ، وقوله : {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} جواب لقوله أولا وثانيا : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف. وقيل : اسمه عوف ، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته ؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال ، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا ، فجاء مسطح فاعتذر وقال : إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ؛ ومر على يمينه ، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة ؛ فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح ؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته غابر الدهر. روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل : {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر آيات ، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ؛ فأنزل الله تعالى : {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله : {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} . قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ؛ فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبدا.
الثانية والعشرون : في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ؛ لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ؛ وكذلك سائر الكبائر ؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال الله تعالى : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65] .
الثالثة والعشرون : من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه ، أو كفر عن يمينه وأتاه ؛ كما تقدم في "المائدة]. ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبّد ذلك أنها جُرحة في شهادته ؛ ذكره الباجي في المنتقى."
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} {وَلا يَأْتَلِ} معناه يحلف ؛ وزنها يفتعل ، من الألية وهي اليمين ؛ ومنه قوله تعالى : {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وقد تقدم في "البقرة" . وقالت فرقة : معناه يقصر ؛ من قولك : ألوت في كذا إذا قصرت فيه ؛ ومنه قوله تعالى : {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران : 118] .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم ؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : "من لا يرحم لا يرحم" .
السادسة والعشرون : قال بعض العلماء : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب : 47] . وقد قال تعالى في آية أخرى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى : 22] ؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر : 53] . وقوله تعالى : اللَّهُ لَطِيفٌ
بِعِبَادِهِ [الشورى : 19] . وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى : 5] ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.
قوله تعالى : {أن يُؤْتُوا} أي ألا يؤتوا ، فحذف {لا} ؛ كقول القائل :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ذكره الزجاج. وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا} . {وَلْيَعْفُو} من عفا الربع أي درس فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.
الآية : 23 {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {الْمُحْصَنَاتِ} تقدم في "النساء" . وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا ، وقد بيناه أول السورة والحمد لله. واختلف فيمن المراد بهذه الآية ؛ فقال سعيد بن جبير : هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة. وقال قوم : هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما. ولا تنفع التوبة. ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة ؛ لأنه قال : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - إلى قوله - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فجعل الله لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لأولئك توبة ؛ قاله الضحاك. وقيل هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب. وقيل : نزلت في عائشة ، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة. وقيل : إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ؛ ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات ؛ فدخل في هذا المذكر والمؤنث ؛ واختاره النحاس. وقيل : نزلت في مشركي مكة ؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر.
الثانية : قوله تعالى : {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال العلماء : إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم ، وزوالهم عن رتبه العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وعلى قول من قال : هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبيّ وأشباهه. وعلى قول من قال : نزلت في مشركي مكة فلا كلام ، فإنهم مبعدون ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ؛ ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله. وقال أبو جعفر النحاس : من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ؛ ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات ، فدخل في هذا المذكر والمؤنث ، وكذا في الذين يرمون ؛ إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.
الآية : 24 {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قراءة العامة بالتاء ، واختاره أبو حاتم. وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف {يَشْهَد} بالياء ، واختاره أبو عبيد ؛ لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل ، والمعنى : يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان. وقيل : تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا.
الآية : 25 {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}
أي حسابهم وجزاؤهم. وقرأ مجاهد {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ} برفع {الحق} على أنه نعت لله عز وجل. قال أبو عبيد : ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ؛ ليكون نعتا لله عز وجل ، وتكون موافقة لقراءة أبيّ ، وذلك أن جرير بن حازم قال : رأيت في مصحف أبيّ {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ الحَقُّ دِينَهُمْ} . قال النحاس : وهذا الكلام من أبي عبيد غير
مرضي ؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبيّ كذا جاز أن تكون القراءة : يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم ، يكون "دينهم" بدلا من الحق. وعلى قراءة {دِينَهُمُ الْحَقَّ} يكون "الحقّ" نعتا لدينهم ، والمعنى حسن ؛ لأن الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق ؛ كما قال عز وجل : {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ : 17] ؛ لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل ، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} اسمان من أسمائه سبحانه. وقد ذكرناهما في غير موضع ، وخاصة في الكتاب الأسنى.
الآية : 26 {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
قال ابن زيد : المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون للخبيثات ، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين : المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن : وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية. ودل على صحة هذا القول {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات. وقيل : إن هذه الآية مبنية على قوله : {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور : 3] الآية ؛ فالخبيثات الزواني ، والطيبات العفائف ، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول النحاس أيضا ، وهو معنى قول ابن زيد. {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني به الجنس. وقيل : عائشة وصفوان فجمع كما قال : {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء : 11] والمراد أخوان ؛ قاله الفراء.
و {مُبَرَّأُونَ} يعني منزهين مما رموا به. قال بعض أهل التحقيق : إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد ، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه ، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن ؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة : لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ، ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفت الملائكة بيتي ، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه ، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده ، وإني لابنة خليفته وصديقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيبة وعند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما ؛ تعني قوله تعالى : {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة."
الآية : 27 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فيه سبع عشرة مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً} لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار ، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد ، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها ، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه" . وقد اختلف في تأويله فقال بعض العلماء : ليس هذا على ظاهره ،
فإن فقأ فعليه الضمان ، والخبر منسوخ ، وكان قبل نزول قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} [النحل : 126] ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم ، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر ؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال : "قم فاقطع لسانه" وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا ، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره. وقال بعضهم : لا ضمان عليه ولا قصاص ؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لحديث أنس على ما يأتي.
الثانية : سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله ، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل عليّ وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال ، فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن ؛ فأنزل الله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [ النور : 29] .
الثالثة : مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس ، وهو الاستئذان. قال ابن وهب قال مالك : الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان ؛ وكذا في قراءة أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير {حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلَّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . وقيل : إن معنى {تَسْتَأْنِسُوا} تستعلموا ؛ أي تستعلموا من في البيت. قال مجاهد : بالتنحنح أو بأي وجه أمكن ، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به ، ويدخل إثر ذلك. وقال معناه الطبري ؛ ومنه قوله تعالى : {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء : 6] أي علمتم. وقال الشاعر :
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|